الدولة كلها.. يعني كلها

برغم الأيام الإستثنائية التي نعيشها في الولايات المتحدة حالياً، في ظل جائحة (كوفيد ـ 19)، إلا أن هموم لبنان تجعلنا نلقي بأسئلتنا وهواجسنا على من تغمرهم أكثر منا الأسئلة والهواجس في زمن الركود الإقتصادي العالمي، وبطبيعة الحال، لا شيء يتقدم على العنوان الإقتصادي والمالي، من بيروت إلى واشنطن.. والعكس صحيح.

أتت حكومة الرئيس حسان دياب غداة ثورة شعبية عارمة عناوينها معيشية، فزاد الطين بلة وارتفع سعر الدولار قرابة ثلاثة أضعاف، بغض النظر عمن هو المسؤول. قد يكون انتقال، او تهريب أموال منذ تشرين الاول/أكتوبر 2019، قانونيا، لكنه جريمة أخلاقية بحق لبنان وشعبه. لكن مهما كانت قيمة المبالغ المهربة، فهي ليست سبب الانهيار المالي. السبب الحقيقي هو الإنفاق الحكومي الضخم منذ العام 1993 حتى الأمس القريب، من دون استثناء أي من حكومات العهود الأربعة وبالتواطؤ مع مصرف لبنان المركزي.

 على مدى ثلاثة عقود، لم يكن مصرف لبنان المركزي إلا عبارة عن آلية للهدر والفساد لكل الحكومات المتعاقبة. في البداية، نجحت عملية إعطاء فائدة عالية مع تثبيت سعر صرف الليرة بالنسبة للدولار، فاعتبر حاكم المصرف المركزي انه من خلال الاستمرار بهذه السياسة، يمكن تلبية احتياجات الطبقة السياسية الى الأبد.

كانت سعادة المواطن اللبناني غامرة بحصوله على فائدة عالية على مدخراته، ما جعل الحاكم أكثر تصميمًا على متابعة سياسة نقدية خاطئة، وفق التحذيرات المتواصلة الصادرة عن صندوق النقد الدولي في تقاريره السنوية وخلال اجتماعات خبرائه بالحاكم والمسؤولين اللبنانيين. بالنسبة إلى السياسة النقدية، كانت توصيات صندوق النقد ترمي الى تعويم الليرة وتخفيض سعر الفائدة، أما بالنسبة إلى السياسة المالية، فلطالما كانت تطالب بوقف الهدر والفساد واعتماد الشفافية والمحاسبة.

أما تقرير الصندوق عن عام 2016 ـ 2017، فقد تضمن إنتقادات لاذعة لسياسة الهندسات المالية التي اتبعها البنك المركزي لمنع مصرفين اثنين من الانهيار، فاستفادت منها مصارف كثيرة لأسباب سياسية. وقد استعمل الحاكم صلاحياته كممثل للبنان لدى الصندوق من أجل منع نشر تقرير تلك السنة على غير عادة لبنان في ممارسة الشفافية في تعامله مع المؤسسات النقدية والمالية الدولية.

منذ أن تألفت، سعت حكومة الرئيس حسان دياب إلى لجم الإنهيار الاقتصادي وإعادة الاستقرار المالي والنقدي، وكانت مرجعيتها لتحقيق هذه الأهداف مقررات مؤتمر “سيدر” (2018) والإصلاحات التي اشترطها المانحون الدوليون لاستثمار أكثر من 11 مليار دولار دولار. أتت الحكومة وتبنت تحقيق أهداف ثورة 17 تشرين الاول/أكتوبر، أي طي صفحة سياسات اقتصادية ومالية ونقدية أوصلت البلد الى الانهيار والسعي إلى رسم سياسات بديلة، قائمة على اسس الشفافية والمساءلة والمحاسبة. والأهم، اعادة ثقة اللبنانيين بوطنهم وإقتصادهم ومؤسساتهم والحفاظ على مدخراتهم وحماية مكتسباتهم وإستعادة دور إقليمي ودولي افتقده لبنان خلال العقد الماضي.

إذا اختلفت سياسة الحكومة والبنك المركزي، يقوم وزير المال بمناقشة الموضوع بسرية مطلقة مع الحاكم. وإذا استمر الخلاف، يمكن للحكومة ان تطلب استقالته او تقوم باقالته (باكثرية ثلثي مجلس الوزراء)، تبعا للنصوص القانونية المرعية الإجراء

لغايته، لم تحقق هذه الحكومة ايّا من هذه الأهداف. سرّبت خطتها المالية إلى وسائل الإعلام قبل أن تقرّها، وعندما وجدت أنها مرفوضة شعبيا، تنصلت منها ومن الـ”هيركات”. أتى الخطاب الأخير لرئيس الحكومة، وكأنه يعلل فشل الحكومة في إعداد البرنامج الاقتصادي الموعود، وكأني به يقول للبنانيين، “ما عم يخلوني اشتغل”، وهو كلام سمعناه كثيرا في السنوات الأخيرة من آخرين أتوا إلى موقع السلطة.

قرر حسان دياب أن يكون حاكم البنك المركزي هو “فشة الخلق” لانه لم يستشر الحكومة بما يقوم به وبما يمتلك من أرقام وحسابات، لذلك من المهم التنبيه الى النقاط التالية:

أولًا، للمصارف المركزية في العالم حرية مطلقة في إدارة السياسة النقدية وتستثنى من ذلك الدول الديكتاتورية او السلطوية. وإذا اختلفت سياسة الحكومة والبنك المركزي، يقوم وزير المال بمناقشة الموضوع بسرية مطلقة مع الحاكم. وإذا استمر الخلاف، يمكن للحكومة ان تطلب استقالته او تقوم باقالته (باكثرية ثلثي مجلس الوزراء)، تبعا للنصوص القانونية المرعية الإجراء.

ثانيًا، ان الخلافات المعلنة حول السياسة النقدية أعطت نتائج سلبية، كما حدث الأسبوع الماضي، حيث انخفض سعر صرف الليرة حوالي 25% في يوم واحد. كما أن مهاجمة رئيس الحكومة لحاكم البنك المركزي عبر الإعلام، أضافت إلى شعبيته لكنها أفقدته احترام المجتمع الدولي.

ثالثًا، ان قرار الحكومة الاستعانة بشركات محاسبة دولية لتدقيق الموازنات السنوية للبنك المركزي ذات أهمية كبيرة، خاصة وان صندوق النقد كان يطلبها من الحاكم في تقاريره السنوية. لكن اللبنانيين يريدون الشفافية والتدقيق، ليس فقط في موازنات البنك المركزي فحسب، بل في حسابات الدولة بكل وزاراتها وإداراتها ومؤسساتها ومصالحها المستقلة وكل ما يتعلق بها مباشرة او غير مباشرة. أكرر، ان “كلهن” سبب الانهيار الاقتصادي، وليس البنك المركزي وحده.

رابعًا، لا يمكن للخلاف بين رئيس الحكومة وحاكم المصرف المركزي، أن يكون له أي مردود إيجابي على المستوى الدولي والإقليمي، وتحديداً على مستوى المؤسسات النقدية والمالية والإنمائية الدولية. لا بل اعتقد ان حماسة هذه المؤسسات لمساعدة لبنان يمكن أن تتضاءل ان لم تتلاشى، خاصة في عصر وباء الكورونا.

إقرأ على موقع 180  موجة الذّكاء الاصطناعي.. حجابٌ إضافيٌّ بيننا وبين الحقيقة؟ (١)

خامسًا، يمكن لأي منا ان يختصر ما يحدث في لبنان بعبارة “القلة بتجيب النقار”. ليس في لبنان ما يكفي احتياجاته من العملة الصعبة ولذلك تنهار الليرة ومعها الاقتصاد. بكلام آخر، ان مدفوعاتنا، او احتياجاتنا للعملة الصعبة تزيد بأضعاف ما نحصّله من تلك العملة. وبالأرقام، فان مقدار ما احتاج اليه لبنان في العام 2019 لشراء احتياجاته للسلع والخدمات من الخارج بلغ حوالي 22 مليار دولار، بينما لم تبلغ قيمة صادراته وتحويلات لبنانيي الانتشار سوى نحو ثمانية مليارات دولار. من سدد العجز؟ من دون شك البنك المركزي فانخفض احتياطيه من العملات الأجنبية وضعفت الليرة. ربما يصبح العجز في ميزان المدفوعات في العام 2020 اقل، بسبب  ضعف القوة الشرائية للبنانيين، الا ان الوضع الاقتصادي في لبنان والدول التي يعمل فيها لبنانيو الانتشار ووباء الكورونا والانخفاض الهائل في اسعار النفط، سيؤدي إلى تراجع تحويلات  لبنانيي الانتشار، ما يعني أن العجز سيكون كبيرًا نسبيًا في نهاية هذه السنة.

ان وباء الكورونا والوضع الاقتصادي المتدهور عالميًا قد يمنع ايّ مساعدة لسنوات عديدة، حتى لو حقق لبنان الإصلاحات المطلوبة

سادسًا، تميز لبنان تاريخيًا بمجتمع ليبرالي واقتصاد منفتح يحركه السوق ويدعمه نظام مصرفي له علاقات إقليمية ودولية وجذور عميقة في تاريخ البلاد، استفاد من تدفقات وتحويلات كبيرة ومطردة من الشتات اللبناني المزدهر ومن الثروة الكبيرة في الاقتصادات المجاورة الأقل ليبرالية. حافظت المصارف اللبنانية بسهولة على مستويات عالية من السيولة برغم العجز الكبير في الميزان التجاري، مما ساعد على تخفيف الصدمات الاقتصادية والجيوسياسية التي ضربت لبنان من حين لآخر. هذه كلها انتهت. وانتهت ايضا المساعدات العربية الى لبنان بعد بدء الحرب السورية.

سابعًا، بالرغم من ان فرنسا استطاعت مشكورة في نيسان/أبريل 2018 عقد مؤتمر دولي (سيدر) لمساعدة لبنان وضمان أكثر من 11 مليار دولار للاستثمار فيه، شرط ان ينفذ إصلاحات جذرية، إلا ان إدارة الطبقة السياسية ظهرها للإصلاحات المطلوبة، ولا سيما في قطاع الكهرباء، أفقد لبنان مساعدات هو بأمس الحاجة إليها. ان وباء الكورونا والوضع الاقتصادي المتدهور عالميًا قد يمنع ايّ مساعدة لسنوات عديدة، حتى لو حقق لبنان الإصلاحات المطلوبة.

ثامنًا، ان “الضرب بحزم” لا يعطي لبنان الاستقرار والبحبوحة الاقتصادية، إنما يقودنا الى الخراب. كل تاريخ لبنان يدل على ذلك. العدالة والحكمة والأمن والأمان تسير بنا الى الاطمئنان والإستقرار والسعادة ولعل الرئيس الراحل فؤاد شهاب خيرُ ممثلٍ لهكذا طريق.

تاسعًا، كان للبنان قطاع سياحي كبير يدر عليه أموالًا بالعملة الصعبة. انتهى ذلك بسبب تردي الوضع البيئي والغلاء الفاحش، حيث بات اللبناني يقضي إجازته خارج لبنان، فكيف بالخليجي الذي إكتشف بلداناً في الشرق والغرب أرخص من لبنان بكثير، ناهيك عن العوامل السياسية التي جعلت لبنان محظوراً على الزوار الخليجيين.

عاشرًا، كان بإمكان حكومة حسان دياب ان تطلب الثقة على أساس ما تريد القيام به لإصلاح الأمور، لكنها فضّلت ان تنال الثقة على أساس بيان وزاري تقليدي لا يختلف عن تلك البيانات التي سبقته، أي قررت أن تقارب الإصلاح بأدوات قديمة.

على مسافة مئة يوم من تشكيل الحكومة، لا أحد يستطيع محاكمة الحكومة على إنجازاتها. يسجل لها أنها واجهة وباء كورونا بطريقة جيدة، بالتضافر مع الإعلام والمجتمع الأهلي، كما أن امتناعها عن دفع سندات اليوروبوند كان في محله، لكن كان من الضروري، بالتزامن مع ذلك، وضع خطة إقتصادية إجتماعية مالية. هذه الخطة ـ البرنامج يمكن أن تؤهلنا للجلوس وجها لوجه مع صندوق النقد المصدر الوحيد المتاح حاليا لتلقي العملات الأجنبية.

قد يشترط الصندوق وقف الهدر في الموازنة، وإصلاح قطاعات الكهرباء والاتصالات والنفايات والجمارك وتخفيض جيش الموظفين في إدارات ومؤسسات الدولة اللبنانية وتعويم العملة وتخفيض سعر الفائدة لتشجيع الزراعة والصناعة والسياحة والعودة الى نظام وزمن كان لبنان يدعى سويسرا الشرق. من من اللبنانيين يرفض ذلك؟

بمعزل عن تحفظات بعض أهل السياسة، اعتقد ان اللبنانيين لا يرحبون بالصندوق وحسب، إنما يريدون منه ان يفرض شروطا اصلاحية تطال كل الدولة: “كلها يعني كلها”.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الله بو حبيب

وزير خارجية لبنان

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الشارع سينفجر.. ماذا سيفعل حزب الله؟