

لم يبدأ وعي زياد الرحباني بالعدالة من كتابٍ أو محاضرةٍ أو برنامج سياسي. بدأ من نافذة سيارة. هناك، في صباحٍ ماطر، كان الطفل زياد يتأمل طفلًا آخر يقاربه في العمر، يستعطي على الرصيف تحت المطر. التناقض الصارخ بين المشهدين — دفء السيارة المخصصة لنقله إلى المدرسة وبرودة الإسفلت تحت جسد الطفل الآخر — أيقظ سؤالًا مبكرًا عن مصائر البشر: لماذا هو هناك وأنا هنا؟ ومن يرسم هذه الحدود التي تفصل بين مصائر الأطفال قبل أن يختاروا حياتهم بأنفسهم؟
هذا السؤال البسيط شكّل بداية الوعي الطبقي عند زياد، قبل أن يتعرف إلى المفردات التي تصفه. كان شيوعيًا بالفطرة قبل أن يتعرف إلى كلمة “شيوعية”. ولمّا كبر قليلًا وقرأ كارل ماركس وفريدريك إنغلز وفلاديمير لينين، وجد أن ما كان يشعر به بالفطرة قد صيغ يومًا في كتب ومنشورات ومقولات فلسفية، فالتقط هذه الخيوط وصاغ منها فهمًا شخصيًا للعدالة الاجتماعية.
***

لكن زياد لم يكن ليبقى طويلًا في هذا الإطار. تمرّد على قداسة الاسم العائلي، وعلى أنماط الانضباط الفني والاجتماعي التي فرضتها تلك البيئة، وغادر البيت في سن مبكرة. أولًا إلى منزل عمه الياس الرحباني، ثم إلى بيت الصديق والرفيق الفني جوزف صقر، وأخيرًا إلى شقق صغيرة مستأجرة، كان استقلاله الحقيقي يبدأ منها. هناك، بعيدًا عن الهالة العائلية، بدأ يصوغ وعيه الطبقي بشكل أعمق.
***
في تلك الشقق المستأجرة، لم يكن زياد مجرد موسيقي ناشئ، بل قارئًا نهمًا للكتب كما الصحف ـ أراد متابعة الراهن كفعل مرن تحت سقف النظريات الجامدة ـ وتابع نظريات المنظّرين اليساريين العرب، وركز على التناقضات بين الطبقات، وعلى العلاقات السلطوية التي تُخضع طبقة لأخرى. لكن زياد لم يتوقف عند حدود الانبهار بالنصوص. مع الوقت، انتقل من مرحلة “القراءة” إلى مرحلة الثقة بـ”النقد” بل وضرورته، بدون تصفيق او احتفاء بهذا الفيلسوف او ذاك الثائر.
***

***
زياد الرحباني لم يكن فنانًا تقليديًا يشتغل على موسيقى جميلة أو نصوص مسرحية للتسلية. كان فنه مشروعًا متكاملًا للكسر. كسر الطواطم الاجتماعية والدينية والسياسية، من دون أن يخشى ردود الفعل. كان يعرف أن مسرحه وأغانيه ستغضب السلطة، وستحرّك نقاشات داخل المجتمع، لكنه لم يتراجع.
في مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” (1978)، جعل شخصياته تنطق بأسئلة الناس عن الفقر والعدالة والموت بطريقة فجّة وصادمة، بينما في “فيلم أميركي طويل” (1980)، كشف عورات النخبة السياسية والطائفية في لبنان بأسلوب ساخر يخفي وراء الضحك مرارة عميقة، وفي هذا العمل على وجه التحديد، تعمّد زياد ان يشير باصبعه نحو البروليتاريا، محمّلًا اياها جزءًا من الجريمة، على عكس ما كتبه البعض عن قداسة الفقراء.
***
لم يكن زياد مجرد مراقب للأحداث السياسية في لبنان. انخرط فيها بجرأة، سواء من خلال تصريحاته الإعلامية أو من خلال فنه. خلال الحرب الأهلية، لم يتردد في انتقاد القوى الطائفية المتصارعة، ملتفتاً الى منابع الفساد، وتمويل الحرب، وفقدان البوصلة. هذا الانخراط جعله عرضة للاتهامات والتشويه، لكن زياد كان يحتمي بسلاحه الوحيد: الفن. حين عجز عن إيصال أفكاره عبر الخطابات، صاغها في نكتة، ولحن، ومشهد مسرحي. وحين سُئل مرة عن سبب اعتماده على الكوميديا السوداء في مسرحياته، أجاب: “لأنو إذا بكيتوا ما حدا بيسمعكن، بس إذا ضحكتوا بصير الكل بده يعرف ليش عم تضحكوا”.
***
المفارقة الكبرى في حياة زياد أنه مات وهو يحمل الشعارات نفسها التي رفعها شابًا. لم يتاجر بمواقفه، ولم يساوم على قناعاته، وظل يكتب ويلحن وينتقد، فيما كان لبنان يتدحرج من مهوار إلى آخر. كأن فنه كان بمثابة “سجل أخلاقي” يوثق انهيار البلد، لا مجرد موسيقى تصويرية لمشهد الانهيار.
في مرّة همس زياد قائلاً : “صرنا شعب بيتأقلم مع النزلة مش مع الطلعة”. جملة تلخص رؤيته للبلد: وطن عالق في حلقة الهبوط المستمرة، وناس يتعلمون البقاء في القاع بدلًا من التفكير في الصعود.