

بعد عامين على زلزال 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الذي أرادته “حماس” لحظة تأسيسية في مسار صراع عمره 76 عاماً، يُطرح أكثر من سؤال حول ما إذا كان يحيي السنوار قد اتخذ القرار الصائب، أم أنه ارتكب خطأ استراتيجياً، وفر لإسرائيل الذريعة لفرض هيمنة إسرائيلية عسكرية شبه مطلقة ليس على غزة والضفة الغربية، وإنما على الشرق الأوسط برمته، بينما الدولة الفلسطينية هي أبعد عن التحقق، من أي يوم مضى؟
سؤال آخر، هل ما جرى خلال عامين كان مكاسب صافية لإسرائيل وخسائر للفلسطينيين والعرب وإيران؟ أم أن إسرائيل التي تحولت إلى أسبرطة معزولة إقليمياً ودولياً، دفعت أثماناً سياسية وأخلاقية في المقابل، بسبب ارتكابها الإبادة في غزة واقترابها من الضم الرسمي للضفة الغربية، وتهافت دول أوروبية وغربية على الاعتراف بفلسطين، وإعادة إحياء فكرة حل الدولتين، بدفع أساسي من فرنسا ودول أخرى، روعتها الغطرسة الإسرائيلية التي بدا أنها لا تعرف حدوداً؟
الخطة التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 29 أيلول/سبتمبر، ووافقت عليها “حماس”، أمس الأول (الجمعة)، تعكس بلا أدنى شك التوازنات الجديدة في المنطقة. وترامب، لم يتحرك لوقف النار، إلا بعد أن همس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أذنه قبل أسبوعين، بأن طريقه إلى أوسلو لتسلم جائزة نوبل للسلام، تمر بغزة. كما أن ثمة أمراً آخر يغري ترامب، وهو إضافة غزة إلى لائحة “الحروب السبعة” التي ينسب الفضل إلى نفسه في وقفها.
ولا تُلام “حماس” إذا وافقت على خطة مجحفة فعلاً بحق الفلسطينيين، لكن البديل كان صب جحيم فوق الجحيم الذي يعيشه سكان غزة منذ عامين وصولاً إلى التهجير، ومنح ذريعة لإسرائيل لابتلاع ما تبقى من الضفة الغربية.
تحولات كبرى
على مدى عامين دمّرت إسرائيل غزة وقتلت نحو 70 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين، وتسببت بمجاعة في القطاع، وصفّت قيادات الصفين الأول والثاني لـ”حماس”. وشنت حرباً على لبنان في خريف العام 2024 واغتالت الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله وخليفته السيد هاشم صفي الدين وقيادات عسكرية أخرى وتحتل أكثر من 5 نقاط في جنوب لبنان حتى يومنا هذا. وشنت في 13 حزيران/يونيو 2025 حرباً على إيران لمدة 12 يوماً قصفت خلالها بالاشتراك مع الولايات المتحدة المنشآت النووية في فوردو ونطنز وأصفهان، واغتالت نحو 20 من القيادات العسكرية الكبيرة والعلماء النوويين. وتواصل شن ضربات على الحوثيين في اليمن وقتلت رئيس وزرائهم أحمد الرهوي مع عدد من أعضاء حكومته في آب/أغسطس الماضي.
ومن التحولات الكبرى التي جاءت كنتيجة غير مباشرة للحرب، كان سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في 8 كانون الأول/ديسمبر، بفعل ضعف إيران و”حزب الله” وغرق روسيا في المستنقع الأوكراني. واحتلت إسرائيل المنطقة العازلة في سوريا وصولاً إلى قمة جبل الشيخ، ودمّرت معدات الجيش السوري السابق، وتستعد لتوقيع اتفاق أمني مع الرئيس السوري أحمد الشرع، يعكس الخلل الكبير في موازين القوى لمصلحة إسرائيل.
إلى أين قادت هذه التحولات الكبرى الجارية منذ عامين؟
صحيح أن الحرب الإسرائيلية والأميركية لم تؤدِ إلى اسقاط النظام الإيراني. لكن إيران هي أضعف بكثير مما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وكذلك هم حلفاء إيران في المنطقة، من “حماس” والجهاد الإسلامي” و”حزب الله” إلى “الحشد الشعبي” في العراق والحوثيين في اليمن.
وعودة العقوبات الأممية على إيران اعتباراً من أول تشرين الأول/أكتوبر، من شأنها مفاقمة الأزمة الاقتصادية في الداخل الإيراني. ويقف النظام هناك بين خيارين: العودة إلى طاولة المفاوضات مع أميركا والقبول بوقف تام لتخصيب اليورانيوم وتقييد برنامجه الصاروخي ونشاطه الإقليمي، أو الذهاب نحو خيار انتاج القنبلة النووية، كعامل ردع. مع العلم أن الخيار الثاني ستترتب عليه مخاطر تجدد الحرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
وإذا ما قيض للخطة الأميركية إحلال وقف دائم للنار في غزة، فإن ترامب، قد يتجه نحو سياسة “تصفير” صادرات النفط الإيراني، الذي يتجه بمعظمه إلى الصين.
توترات وصراعات وصدمات
لم تعد مخاطر تمدد الحرب الإسرائيلية في الإقليم مقتصرة على إيران. فإسرائيل تخوض صراعاً مع تركيا على النفوذ في سوريا. وهي ترفض قيام قواعد عسكرية تركية في وسط سوريا وجنوبها، ولا تخفي مساندتها لأكراد سوريا، الذين يريد منهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التخلي عن سلاحهم و”إدارتهم الذاتية” والاندماج مع الحكم الجديد في دمشق، الذي تعتبر أنقرة من أكبر رعاته.
والعلاقات مع مصر في أدنى مستوياتها منذ التوقيع على معاهدة كامب ديفيد عام 1979. والمسؤولون الإسرائيليون يتهمون القاهرة بانتهاك المعاهدة من خلال الدفع بتعزيزات عسكرية تتجاوز المتفاهم عليه بموجب كامب ديفيد إلى سيناء. وحقيقة التوتر تعود إلى رفض مصر طلبات إسرائيلية وأميركية، بتهجير سكان غزة إلى أراضيها.
ودفعت إسرائيل التوتر الإقليمي إلى ذروة جديدة مع قصفها للدوحة، مما أحدث صدمة في دول مجلس التعاون الخليجي، التي بدأت تقلق فعلياً من سياسة الهيمنة الإقليمية التي تمارسها إسرائيل، خصوصاً بعدما تبين أن أميركا لم تدافع عن قطر عندما هاجمتها إسرائيل. وحدا هذه التطور الخطير بالسعودية إلى توقيع معاهدة للدفاع المشترك مع باكستان، الدولة النووية.
ولتهدئة المخاوف الخليجية، أضطر ترامب إلى التوقيع قبل يومين، على اتفاق مع قطر يتعهد فيه بحماية هذا البلد من أي هجوم يتعرض له.
وبقدر ما لعبت صدمة قطر، دوراً أساسياً في تزخيم الجهود الأميركية لبلورة خطة وقف النار في غزة، والحديث عن السلام في المنطقة، فإن الاعترافات الأوروبية والغربية الأخيرة بدولة فلسطين، حدت بترامب إلى التدخل لفك طوق العزلة الدولية الذي يشتد حول إسرائيل، وكذلك إلى انقاذ السياسة الأميركية في المنطقة، التي توشك على الانهيار بسبب توسع الحروب الإسرائيلية، لتطال حلفاء لأميركا. وحتى الاتفاقات الإبراهيمية التي رعاها ترامب نفسه ستتعرض للاختبار، لو ضمت إسرائيل الضفة الغربية كلها أو بعض أجزائها، رداً على الاعترافات بفلسطين. وبدا أن خطط واشنطن لضم السعودية وسوريا ودول أخرى إلى هذه الاتفاقات، بعيدة كل البعد عن التحقق، مع استمرار الحرب على غزة.
هل تدفع إسرائيل ثمناً؟
وبرغم المكاسب العسكرية التي حقّقتها إسرائيل على مدى عامين، فإن حرب الإبادة في غزة، رتبت عليها ثمناً سياسياً وأخلاقياً باهضاً، حوّلها إلى دولة شبه منبوذة في العالم، ولم يعد يقف إلى جانبها سوى الولايات المتحدة. وذاق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طعم العزلة مباشرة بانسحاب معظم الوفود من قاعة الجمعية العامة لدى القائه خطابه الأسبوع الماضي، وكذلك عندما اضطرت الطائرة التي أقلته إلى الولايات المتحدة إلى تجنب أجواء دول موقعة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة توقيف بحقه.
والاتحاد الأوروبي في صدد فض الكثير من بنود اتفاق التجارة الحرة مع إسرائيل. وتجد ألمانيا نفسها معزولة بعدما اعترفت فرنسا وبريطانيا وإسبانبا بدولة فلسطين. والسياح الإسرائيليون لم يعودوا موضع ترحيب في الكثير من دول العالم، ويوشك الاتحاد الأوروبي لكرة القدم على حظر مشاركة الأندية الإسرائيلية في مسابقات الدوري الأوروبي.
وليس الرأي العام الأوروبي أو في دول الجنوب العالمي وحده الذي يناهض ويقاطع إسرائيل، بل أن مستويات التأييد في أوساط الجمهور الأميركي في تدنٍ مستمر. ويمكن تلمس ذلك داخل الحزب الديموقراطي، وكذلك لدى شريحة الشباب في الحزب الجمهوري. وأكثر من 20 سناتوراً ديموقراطياً يطالبون الإدارة الأميركية بالاعتراف بدولة فلسطين. والجامعات الأميركية التي تحركت العام الماضي مطالبة بوقف النار في غزة، تعرضت لعقوبات شديدة من ترامب.
والاقتحامات المتكررة لـ”اسطول الصمود العالمي”، لم تمنع المؤيدين لغزة في العالم، من معاودة الكرة ومحاولة الإبحار مجدداً لفك الحصار عن القطاع.
كثير من الإسرائيليين، سياسيين وإعلاميين ومثقفين، يتوجسون من تبدد التعاطف الذي حظيت به إسرائيل في بعض دول العالم عقب هجوم “حماس”، ويحذرون من عواقب العزلة التي تحيق بالدولة العبرية، ولا يتفقون مع نتنياهو بأن الرد يكون في تحويل إسرائيل إلى أسبرطة. وهذا ما رأت فيه صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في إحدى افتتاحياتها مؤخراً بأن “نتنياهو لا يكتفي بمحاولة تبرير الفشل السياسي والأمني، بل يحاول منحه آلة إيديدولوجية”.
وأدلجة الحروب والصراعات ليست جديدة على زعماء إسرائيل. وينقل المؤرخ الإسرائيلي ميخائيل بار زوهار في كتابه عن سيرة ديفيد بن غوريون، أن الأخير أدرج حرب 1948 في سياق تصفية حسابات “آبائنا مع مصر وآشور وآرام”.