عن وداع زياد.. وأحبة كُثر

لم تجف دمعتي بعد لكثرة ما ودّعتُ من أحبة في العام الماضي وبداية العام الحالي؛ تلك الدمعة ذرفتها أيضاً عند وداع زياد الرحباني الذي لا أعرفه شخصياً، برغم حضوري أغلب مسرحياته، وأكاد أجزم أنّي لم أرهُ خارج الخشبة، إلا مرّات قليلة رأيته خلالها ماشياً في شارع الحمرا.

سمعتُ عن رحيله وأنا بعيدة عن بيروت. لم يتسنَ لي أن أشارك في التشييع العفوي الذي نظمه محبوه أمام مستشفى خوري، وهم يحملون صوره والورود، وساروا في شارع الحمرا- المكان الذي أحبه وقرر الإقامة والبقاء.. وربما تمنى أن يُوارى الثرى هناك.

عند عودتي إلى بيروت واكبت التشييع عبر التلفاز، وكان تساؤلي، هل سنستطيع رؤية الأم التسعينية التي احتجبت منذ وقت طويل وهل ستستطيع المشاركة في تشييع بكرها ورفيق دربها الفني؟

عندما وصلت “سفيرتنا الى النجوم” إلى الكنيسة على أنغام “أنا الأم الحزينة”، التي لطالما رتلتها بمناسبة الجمعة العظيمة، متشحة بالسواد، كان الصمت المدوي الذي لم يُخرق إلا بدموع الأم التي تودع، بعد زوجها، ثاني أبناءها.

لم أدر لماذا أعادني حزن فيروز إلى لحظات ودّع فيها كثيرون من بلادي أحبة لهم، في الماضي، وفي الأمس القريب.

***

في الماضي، ودّع الشهيد السيّد حسن نصرالله ابنه السيد هادي الذي استشهد مع آخرين في مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1997 في إقليم التفاح واستعيد جثمانه في إطار صفقة تبادل كبيرة في حزيران/يونيو 1998.

عند تلقي السيد نصرالله خبر وفاة ابنه، قال: “إنني اشكر الله سبحانه وتعالى على عظيم نعمه، أن تطلع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي فاختار منها شهيداً وقبِلني وعائلتي أعضاء في الجمع المبارك المقدس لعوائل الشهداء”. وعند وصول موكب “الشهداء العائدين” في أكفان، وبينهم جثمان نجله الأكبر هادي، صلى السيد على جميع الشهداء ثم توقف للحظات عند جثمان هادي.

يومها، وبرغم الحر الشديد، تجنب السيد نصرالله، كما أخبرنا الراحل طلال سلمان، استخدام المحارم لمسح العرق المتصبب من جبهته، أثناء الوداع كما أثناء القاء كلمته في التشييع كي لا يظهر وكأنه يبكي ولده بينما يدعو الآخرين إلى الشهادة، فـ”الشهيد لا يُبكى”.

***

في الشهر الأخير من العام 2005، ودّع غسان تويني نجله جبران، آخر أفراد عائلته الذي اغتيل في انفجار سيارة مفخخة، يومها جلس ذلك الكبير في قاعة كاتدرائية القديس جاورجيوس وسط العاصمة صامتاً بين جموع المعزين كأب مكسور أمام نعش ابنه، ثم نهض كطائر الفينيق واختار أن يُحوّل حزنه في تلك اللحظة الى صرخة وطنية كان صداها الكبير بحجم الفاجعة وأكثر، قائلاً: “لا انتقام ولا حقد ولا دم”، داعياً إلى “أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها”، كما دعا اللبنانيين جميعاً “مسيحيين ومسلمين إلى أن يكونوا واحداً في خدمة لبنان الوطن العظيم وفي خدمة قضيته العربية”.. فاستحق الكثير من التقدير والاحترام والتصفيق.

***

منذ أكتوبر 2023 حتى يومنا هذا ونحن نودع أحبة كثيرين بفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية على لبنان. منهم من اختاروا أن يكونوا في جبهات المواجهة ومنهم من ماتوا مظلومين بعيداً عن أرضهم.. وفي مطلع العام 2025 ودّعت أختي بكرها الذي عاد إليها في تابوت من أبيدجان بعدما كانت تعد الأيام لعودته النهائية إلى أهله وزوجته وأطفاله، وعاشت العائلة وما تزال حزناً دفيناً تتجنب اظهاره أمام أطفاله إذ ليس من محنة أكبر من أن يدفن الأهل أحد فلذاتهم، وهو أمر يجافي الطبيعة. ما أقسى الموت وما أقسى الفقدان والخذلان.

***

أعود إلى وداع السيدة فيروز لنجلها زياد، هذا المبدع الذي كتب ولحّن الكثير من يومياتنا وهمومنا. كان لفيروز تمنٍ وحيدٍ، أن تختلي وحيدة بابنها لتودعه كأم، لتعود وتجلس بعد الوداع في صالون كنيسة “رقاد السيدة” في المحيدثة- بكفيا صامتة لمدة يومين تتقبل التعازي، وكان لصمتها دوي تعجز الكلمات عن وصفه، برغم أن بعض الإعلام لم يحترم حتى مهابة الموت.

***

تختلف تعابيرنا في وداع الأحبة، إلا أن ما يتمناه جميعنا هو الحد من وداع الأحبة لا سيما في هذا الوقت العصيب الذي يعيشه بلدنا والاختلافات الحادة التي تشهدها الساحة اللبنانية.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "صنداي تايمز": هكذا اغتال "الموساد" فخري زاده
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  المشى فوق الألغام.. كما يحدث في مسلسل «الحشّاشين»!