

“الهزيمة ليست حين تسقط، بل حين تختار البقاء حيث سقطت” (جبران خليل جبران).
من الملاحظ أن معظم الإعلام يتكىء على مصطلحات قد تبدو محايدة، لكنها في الواقع تعكس انحيازات مسبقة. على سبيل المثال: استخدام مصطلح “إرهابي” مقابل “مقاوم” يعكس موقفاً سياسياً مسبقاً. كلمة “احتلال” مقابل “وجود عسكري” تُغيّر ادراك المشاهد للواقع.
والملاحظ أيضاً أن بعض الإعلاميين يستخدمون مصطلحات غامضة أو فضفاضة لتجنب المساءلة مثل: “مصادر مطلعة” (من دون تحديد دقيق). “يزعم أن..” (نقل معلومات غير مؤكدة). “خبراء يقولون” (من هم هؤلاء الخبراء؟). هذه الأساليب تضعف مصداقية الكاتب وتفتح الباب أمام التلاعب بكل مستوياته (عندما تسرق الكلمات تسرق الحقائق).
لذا، يُمكن القول إن استعمال المصطلحات في الإعلام هو سلاح ذو حدين: قد يكون أداة لتوضيح الحقائق أو أداة للتضليل. لذلك يجب التعامل معها بحذر شديد، فـ”الكلمات ليست مجرد حروف، بل هي عدسات نرى من خلالها العالم”، كما يقول جورج أورويل.
ويُقارب المفكر المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري في “موسوسة اليهود واليهودية والصهيونية”، قضية المصطلحات، ويُشير أيضاً في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل” إلى ظهور مصطلحات مثل “إيقاف العنف” و”وقف إطلاق النار” و”ضبط النفس”، في إشارة إلى ما كان يحدث في فلسطين المحتلة، ويقول: “هذه المصطلحات تحمل تحيزات محددة، فهى تصنف كلًا من المقاومة الفلسطينية والعنف الصهيوني على أنهما نفس الشيء، وكأن هناك حالة حرب بين جيشين متكافئين أو شبه متكافئين يحاربان بخصوص قطعة أرض متنازع عليها، ولكل فريق حقوق متساوية فيها”، ويضيف “هذه المصطلحات تساوي بين من يحمل السلاح مدافعًا عن أرضه وكرامته وإنسانيته من جهة، ومن جهة أخرى من يغتصب الأرض وينكل بأصحابها ويستخدم آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية في ذلك. ولنتصور لو سُميت الأشياء بأسمائها وقلنا “إيقاف المقاومة” أو على العكس قلنا إيقاف أعمال الاغتصاب والقمع الإسرائيلي ألن يكشف هذا التحيزات الكامنة”؟.
المهزوم.. والمنتصر
إنطلاقاً من هذه المقدمة، أود طرح بعض الأفكار في هذا النص مثل طرح سؤال من نوع: ما هو الفرق بين “الهزيمة العسكرية” و”الهزيمة السياسية والنفسية”؟
قد تُوصّف معركة ما أو مرحلة ما بـ”الهزيمة العسكرية” إذا خسر أحد أطراف الصراع مواقع أو موارد أو أرواحاً بشكل كبير، لكن هذا لا يعني بالضرورة نهاية الصراع. التاريخ مليء بأمثلة لحركات مقاومة تعرضت لضربات قاسية (مثل فيتنام ضد الولايات المتحدة أو الجزائر ضد الإستعمار الفرنسي) لكنها انتصرت استراتيجياً في النهاية.
أما مصطلح “الهزيمة السياسية والنفسية” فيستخدم لوصف حالة الاستسلام والرضوخ الكامل لشروط العدو، وهذا غير منطبق على الحالة المقاومة في منطقتنا العربية وبخاصة في فلسطين (المقاومة فعل يومي في الضفة والقطاع وحتى في الأراضي المحتلة عام 1948) ولبنان (المقاومة موجودة قبل حزب الله ومعه وحتماً بعده). وكل الشعوب التي تستمر مقاومتها برغم الضربات التي تتعرض لها تُثبت أن الهزيمة ليست نقطة على آخر السطر.. استخدام تعبير “المهزوم” قد يوحي بقبول الواقع المرير كحالة دائمة، بينما يشير الواقع إلى “تراجع مؤقت” أو خلق “تحدٍ جديد”.
ويستخدم الأعداء تحديداً مثل هذه المصطلحات لنزع الشرعية عن المقاومة واقناع العالم بأنها عبارة عن “أمر واقع”. الإعلام الغربي مثلاً تحدث بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن “سحق حركة حماس”، كما تحدث في تموز/يوليو 2006 عن “سحق حزب الله” في لبنان، لكن المقاومة استمرّت هنا وهناك، فهل كان استخدام المصطلح دقيقاً؟
يسري ذلك على وصف حركة مقاومة بـأنها “مهزومة” برغم إصرارها على النضال وهذا الاختزال يُغفل اُر قوة الإرادة لدى الناس، لذا، يكون الاستخدام له معناه السياسي وليس المهني (أي يكون في خدمة أجندة تريد إقناع الناس بأن المقاومة ميؤوس منها).
ضخ المصطلحات
ويظهر تحليل الخطاب الإعلامي كيف تستخدم المصطلحات كأدوات لصناعة الروايات وتبرير المواقف السياسية.. وهنا سأكتفي بسرد عدد من الأمثلة:
-مصطلح “إرهابية” لتوصيف عمليات المقاومة الفلسطينية، حسب القاموس الغربي، بينما تُوضع المجازر التي ترتكبها إسرائيل في خانة “حق الدفاع عن النفس”.
-مصطلح “نزاع”: تحييد الصراع يجعله يبدو كصراع بين طرفين متساويين، بينما الواقع يشي بصراع بين قوة مدعومة من الكون بأسره وبين شعب أعزل.. مصطلح “طرفا النزاع” يضفي شرعية على الاحتلال.
-مصطلح “مستوطنات” بدل مستعمرات. مضمونه يجعل فعل الاحتلال أقل حدة.
-مصطلح “القتلى” أو “الضحايا” بدلاً من الشهداء، يستخدمه أغلب الإعلام الغربي والعربي الخليجي.
-مصطلح “العنف” بدلاً من شرعية المقاومة كحق قانوني.
-مصطلح “إخلاء امني” بدلاً من الإبادة أو التطهير العرقي.
-مصطلح “أرضٌ متنازع عليها” بدلاً من “أرض محتلة”… إلخ.
مصطلح عدم التوازن
يُشيع الإعلام الغربي والاسرائيلي مصطلح “عدم التوازن” في معرض توصيف الصراع بين المقاومة والاحتلال، مُصوّراً أن التفوق العسكري الاسرائيلي يُلزم المقاومة بالاستسلام، لكن هذا التوصيف يتجاهل حقائق عديدة:
1 -التوازن غير التقليدي: المقاومة تعتمد على حرب الاستنزاف غير المتماثلة، حيث تُحوّل الضعف المادي إلى قوة استراتيجية عبر:
-الأسلحة الذكية (مُسيّرات، صواريخ موجهة) التي تعجز دفاعات العدو عن صدها بالكامل.
-الكمائن والتكتيكات المرنة التي انهكت جيش الاحتلال في غزة ولبنان.
2 -التوازن المعنوي: صمود الشعوب وتضحياته يُعد رأس مال أية مقاومة في العالم، بينما يعاني العدو من أزمات سياسية ونفسية واجتماعية (مثل احتجاجات جنود الاحتياط)
“عدم جدوى المقاومة”!
المعادلة الإعلامية المُثارة حول “عدم جدوى” المقاومة وسلاحها تناقض نفسها، لأن الأدلة تثبت العكس:
- التهديد الاستراتيجي: المُسيّرات والصواريخ الباليستية فرضت معادلة ردع جديدة، مثل إغلاق ميناء إيلات وتعطيل مطارات العدو.
- الاستنزاف الاقتصادي: كلفة اعتراض الصواريخ البسيطة تفوق تكلفة تصنيعها، ما ينهك اقتصاد العدو.
- الشرعية الدولية: نجاح المقاومة في غزة ولبنان (والدعم اليمني) أجبر دولاً غربية على الدعوة للتفاوض مع الحوثيين وحماس وحزب الله ولو مواربة، بعد ان كانت تعتبر هؤلاء “إرهابيين”.
وماذا عن ادعاء البعض أن المقاومة يجب أن تعود إلى الكمائن والعبوات والـ”آر بي جي” وغيرها من عناصر الصراع التي ساهمت في صنع التحرير اللبناني في العام 2000؟
هذا الطرح يتجاهل مسار تطور الصراع:
- تغيير المعادلات: لو اعتمدت المقاومة على الأسلحة الخفيفة فقط لما استطاعت اجبار اسرائيل على الانسحاب من غزة 2005 أو لبنان 2006.
- خوف الغرب من تصدير النموذج: نجاح المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن يلهم حركات تحرر عالمية، مما يهدد الهيمنة الغربية.
يقول المفكر الراحل إدوارد سعيد إن اللغة “ليست وسيلة للتعبير، بل هي سلاح للهيمنة”، وهذه هي وظيفة المصطلحات في الإعلام الغربي. هي سلاح في معركة السردية أو الرواية.. وعلينا أن نُدقّق في كل مصطلح وأن لا نتساهل مع محاولات التطبيع مع الوعي قبل أي نوعٍ آخر من التطبيع.. في معركه المصطلحات، نحن لا نناضل من أجل الكلمات، بل من أجل الحق الذي تمثله هذه الكلمات.