حرب الإبادة الصهيونية-الأميركية على غزة: الخلفية التاريخية والمآلات (1)

شهدت الحقبة الممتدة من 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى يومنا هذا أحداثاً جساماً في المشرق العربي ومحيطه الإسلامي. شنّت أميركا- عبر الكيان الصهيوني- حرب إبادة على قطاع غزّة. توسّعت الحرب إلى كامل الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة وإلى لبنان واليمن وإيران وبعض العراق، وأخذت بُعداً عالميّاً على الصعيدين السياسي والأخلاقي، وغيّرت الكثير من توجّهات الرأي العام العالمي.

للمرّة الأولى، ومنذ إقامة الكيان الصهيوني، يتخذ الصراع العربي-الصهيوني بُعداً عالمياً وتُكشَف سياسات الإبادة التي يرتكبها كيان الاحتلال؛ وللمرة الأولى، تصدر أحكام دوليّة بحق قادة الكيان الذي ارتكب سلسلةً طويلةً من الجرائم ضد الإنسانيّة منذ قيامته بقرار دولي، وبمشاركة المعسكرين العالميّين– الرأسمالي والشيوعي- في ذلك الحين. إن مجازر قِبية ودير ياسين، كما مجازر صبرا وشاتيلا وقانا في لبنان، لا تقلّ إجراماً عن مجازر غزّة. لكن احتكار وسائل الإعلام من قِبل الدول القويّة الحاكمة والنظام الرأسمالي أخفى الوقائع عن رؤية وسمع الرأي العام العالمي، بل قلب هذه الوقائع رأساً على عقب، فحوّل ضحيّة النازيّة إلى جلّادٍ يتقمّص أخلاقيّات ووحشيّة الجلّاد الحقيقي.

بعد الحرب العالميّة الثانية، ساد العالم نظامٌ أميركيٌ جديد، ورث إمبراطوريّات الاستعمار القديم وشروره، وأضاف إليها الكثير من عنديّاته ومن “التراث” النازي. أعطت الثورة الصناعيّة قدرات كبيرة، عبر تطوّر العلوم والتقانة، للاستعمار الأوروبي-الأميركي بشكل خاص، فتمكّنت دول مراكز النظام الرأسمالي من السيطرة على دول الأطراف وشعوبها بقسوة ووحشيّة وبسهولة كبيرة. مثال على ذلك حسم الجيش الإنكليزي معركة أم درمان في السودان سنة 1898 (والتي أسقطت السودان بيد بريطانيا)، بقيادة اللورد هربرت كتشنر، خلال ساعات، إذ تمكّنت من قتل 11,000 من الدراويش خلال ساعات الصباح من ذلك اليوم، ولم يتكبّد الجيش البريطاني سوى 48 قتيلاً. وعلى المنوال نفسه، كانت بندقيّة الجيش الروسي، الحديثة في ذلك العصر، قد مكّنت دوقيّة موسكو من التوسّع إلى بحر اليابان شرقاً.

أخطأت يا ماركس!

كان كارل ماركس مخطئاً جدّاً في توقّعاته بأن دول الغرب الرأسماليّة الاستعماريّة، المتقدّمة علميّاً وتقنيّاً، ستعيد بناء مستعمراتها اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وفق نموذجها، فتُخرج هذه الدول وشعوبها من التخلّف الشامل ومن الضعف.

عمل الاستعمار الأوروبي القديم، والأميركي الجديد – الإمبريالي – على تأبيد تخلّف الشعوب وإفقارها- كما في الهند، على سبيل المثال- ليعمّق تخلّفها وضعفها، ويستمر في نهب خيراتها وتخدير شعوبها. أعادت أميركا صياغة النظام الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالميّة الثانية ليكون في خدمة مصالحها ونهجها الإمبريالي.

أيضاً عملت أميركا وما زالت على قهر دول العالم الثالث، التي كانت ضحيّة الاستعمار التقليدي، وبخاصة تلك التي تمكنت من كسر حاجز التخلّف العلمي والتقني، وذلك عبر إعاقة تقدّمها العلمي والثقافي والتقني– كما فعلت في العراق الذي عملت على “تدميره حتى إرجاعه إلى العصر الحجري”، كما قال بوش الإبن. وسخّرت أميركا في سياستها تلك، فضلاً عن أذرعها العسكرية والأمنية، النظام المالي والنقدي العالمي وشروط التجارة الدوليّة التي تتحكّم بها.

ومنذ الحرب العالميّة الثانية، لم تسمح أميركا إلّا لكوريا الجنوبيّة وتايوان (وهما شبه مستعمرتين أميركيّتين) بكسر حاجز التخلّف وبناء صناعات متقدّمة فيهما، وذلك خدمةً لأهداف “الأمن القومي” الأميركي في محاولة التصدّي لنهوض الصين.

أمّا الدولة الثالثة التي سُمِح لها بالتطوّر، فهي “إسرائيل” التي رعتها أميركا حتى باتت بمثابة ولاية أميركيّة متميّزة؛ فقد دمجتها في الاقتصاد الأميركي وجعلت منها أكبر قاعدة عسكريّة أميركيّة خارج أميركا، كقبضة في قلب المشرق العربي، تستنزفه وتُخضعه للإرادة الأميركيّة. منعت أميركا حتّى الدول الرأسماليّة الكبرى المستتبعة لها، مثل اليابان وألمانيا، من تجاوز قدراتها الشاملة، لتبقى هي وحيدة على عرش العالم الرأسمالي.

أخلاقيات النظام الأميركي

استطاع الإنسان عبر التاريخ أن يوسع نطاق سيطرته على الكثير من قوى الطبيعة، وأن يُخضع بعضها لخدمته. استطاع أن يخترع الآلة، وأن ينقل تدريجيّاً ذكاءه إليها، حتّى وصل إلى الذكاء الإصطناعي الذي يهدّد استمرار نموّ الإنسان وحرّيته واستقلاله، كما يقول البعض، وربّما يسيطر عليه ويعرّضه للأخطار.

لطالما كان التقدّم العلمي والتقني منذ أمد طويل في خدمة تطوير القدرات العسكريّة للدّول. بل كان الإنفاق العسكري يستهدف تطوير علوم وتقانة تنقل قدرات الأسلحة إلى مستوى جديد، ومن ثم تُنقَل هذه التقنيّات إلى الاستعمال المدني. كان ثمن أسلحة الخط الأوّل (أي الأسلحة الأكثر تقدماً) يرتفع جيلاً بعد جيل بأضعاف معدّلات ارتفاع الناتج العالمي، بحيث توسّعت الهوّة في القدرات العسكريّة بين الدول الكبرى الغنيّة وبقيّة دول العالم، وذلك في عصر ثنائيّة القطبيّة الدوليّة، إلى سقوط الإتحاد السوفيتي وعصر الأحادية القطبية، وحتى دخولنا عصر التعدّدية القطبية. ونتيجةً لارتفاع تكلفة أنظمة التسلح الحديثة، أصبحت مراكز النظام الرأسمالي العالمي الثانويّة عاجزة عن بناء قدرات عسكريّة رادعة ضدّ “شياطين” (حقيقيّة أو موهومة) تهدّد أمنها، فلجأت للاحتماء تحت المظلّة العسكريّة الأميركيّة، والتي يبلغ إنفاقها العسكري أكثر من نصف الإنفاق العسكري العالمي (850 مليار دولار في سنة 2024).

إن دخول تكنولوجيا المعلومات إلى دائرة إنتاج الأسلحة، ليس كعنصر مساعد في تطوير قدرات الأسلحة التقليديّة، بل كعنصر أساسي فيها، يؤدي إلى مزاحمة عمالقة شركات المجمّع الصناعي العسكري الأميركي الثلاث، بكلفة متدنّية نسبيّاً وبفعاليّة مرتفعة. ويمكن لمجموعة من الحوّامات غير المأهولة أو المسيَّرات صغيرة الحجم ومتدنّية التكلفة أن تتغلّب على طائرة F-35 مثلاً، كما على سلاح المدرّعات والمدفعيّة الميدانيّة. يمكّن ذلك الدول الأفقر من بناء قدرات عسكريّة منافِسة، عبر قدرتها على التقدّم العلمي. أظهرت “حرب أوكرانيا” الأميركيّة فعاليّة الأسلحة الجديدة من إنتاج “سيليكون فالي”. يتم تطوير هذه الأسلحة من حيث برمجتها كل ستّة أسابيع تقريباً – حسب مجلّة “الإكونوميست” – لتحتفظ بتفوّقها وقدراتها القتاليّة، وعلى عكس الأسلحة التقليديّة المكلفة جدّاً، والتي تحتاج إلى سنوات طويلة لتطويرها، ما يجعلها غير كفؤة وأقل قدرة على خوض الحروب الجديدة.

ما تقوم به أميركا كقائدة للنظام الرأسمالي العالمي، بشنّها حرب إبادة، مباشرة وبالواسطة، من أجل “إعادة بناء الشرق الأوسط”، هو تعبير عن “أخلاقيّات” النظام الرأسمالي الأميركي ومصالحه الاقتصاديّة وثقافته التاريخيّة، في مرحلة أفوله القريب. يمكن القول إن أزمة أميركا العميقة والمتفاقمة، المتمثّلة بأزماتها الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة، تشكل خير تعبير عن أزمة النظام الرأسمالي العالمي في مرحلة متغيّرات عالميّة عميقة؛ في مرحلة مخاض ولادة نظام عالمي جديد.

النظام الرأسمالي العالمي

يرتبط مستقبل الكيان الصهيوني بمستقبل النظام الرأسمالي العالمي وقيادته الأميركية، أي بقدرة الإمبريالية الأميركية على إبقاء هيمنتها على العديد من دول العالم ومراكزه الرأسمالية الثانوية.

ظهر النظام الرأسمالي في العهد المركنتيلي، في المدن التجارية الأوروبية الكبرى ذات القدرات المالية والسياسية، والإيطالية منها بشكل خاص. يجعل هذا النظام من تراكم رؤوس الأموال، كمصدر لقوّته، هدفاً أساسياً له.

حمل هذا النظام، بطبيعة تكوينه التجاري ودوره الاقتصادي واستهدافاته المالية، بذور التوسع الاستعماري الأوروبي. أعطت الثورة الصناعية دفقاً كبيراً للقدرات الإنتاجية والتجارية الأوروبية، وللنمو الرأسمالي والتمدد الاستعماري الأوروبي في كافة أنحاء العالم. شكّل التجار والمصرفيون، ثم الصناعيون، بنى الطبقات الحاكمة في البلدان الرأسمالية، ولو في ظل نظام الملكية الأوروبية، حيث نمت أفكار وسياسات القومية الأوروبية، والتي وجهت قدراتها القتالية نحو التوسع الاستعماري، وتوقفت إلى حين الحروب البينية الأوروبية.

وقد تطورت المجتمعات الرأسمالية مع تطور أنماط الإنتاج ومهارات القوى العاملة. هذا السعي لمراكمة رؤوس الأموال ولّد منافسة حادة بين مؤسسات الإنتاج الرأسمالي، كما بين الدول الرأسمالية.

أخلاقيات السوق غير الأخلاقية!

في غاية النظام الرأسمالي “الحياة للأقوى”؛ لمن يسبق الآخرين في مراكمة رؤوس الأموال مراكمةً للقوة. تتم مراكمة رؤوس الأموال في الدول الأوروبية الاستعمارية بأشكال شتّى، وليس فقط عن طريق مراكمة “فائض القيمة” في دورات الإنتاج الرأسمالي، وبخاصة في علاقات هذه الدول مع الخارج الأوروبي، حيث تنعدم المقاييس الدينية والأخلاقية، فتتم مراكمة رؤوس الأموال عبر القتل والسلب والنهب. وسرعان ما ولّدت الوحشية الأوروبية مبرراتها الأخلاقية والدينية، فكانت العنصرية التي تصنّف البشر طبقات، وتتيح “للطبقة العليا”- البيضاء الأوروبية- السيطرة واستغلال الشعوب الملوّنة، فأُسقِطت الصفة الإنسانية عن بعض الشعوب، وضُمَّت لفئة الحيوانات التي “حلّل الله قتلها”، كما في القارة الجديدة، و”حلّل الله استعبادها”، كما في خطف الشباب الإفريقي والاتجار به في أسواق الرقيق، أو تخدير الشعوب لسلب ثرواتها ومنعها من المقاومة، كما في حروب الأفيون على الصين.

إن تبرير النهم لمراكمة رؤوس الأموال أسقط الكثير من القيم الإنسانية ومن القيم المسيحية، وأنبتت مكانها “أخلاقيات السوق” وعبادة الثروة. كما أن المنافسة على امتلاك القوة ولّد سعياً محموماً للابتكارات العلمية والتقنية. تسارعت هذه الابتكارات، التي نقلت الذكاء من الإنسان إلى الآلة، حتى وصلت، في حالة الذكاء الاصطناعي، إلى تطوير برامج المسيَّرات في حرب أوكرانيا كل ستّة أسابيع تقريباً؛ ويمكن أن تصبح الآلة الذكية خطراً على وجود الإنسان.

ويساهم النظام الرأسمالي- عبر تطوير إنتاجه- في تحسين مواصفات السلع والخدمات التي ينتجها، فيُنتِج سلعاً جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل. يسبق الإنتاج الطلب. تعمل الدعاية والإعلام على بناء أسواق لسلع جديدة، بعضها يُحسّن مستوى حياة الإنسان، وبعضها الآخر لا جدوى منه، وبعضها كان مضراً. تصبح بعض السلع المبتكرة حاجات وضروريات في المجتمعات المتحضّرة، مثل وسائل النقل والاتصالت الحديثة والعديد من الأدوية والعقاقير وبعض أدوات الاستهلاك المنزلي المعمّرة، وغيرها الكثير. كما يعمل الإنتاج الصناعي على تحسين أداء السلع المصنّعة وتوسيع طاقاتها، فيصبح استبدالها شبه ضروري، ولو لم يتم استهلاكها.

التوظيفات المجدية

يحتاج النظام الرأسمالي إلى تحقيق معدلات نمو تمكّنه من تنمية قدراته الإنتاجية والتنافسية وتجديد وسائل إنتاجه التي تتآكل عبر عملية الإنتاج، فترتفع كلفة تجديد معدلات الإنتاج جيلاً بعد جيل، مع نمو القدرات الإنتاجية لهذه الآلات. وعلى مؤسسات الإنتاج، في كثير من الاحيان، تبديل وسائل الإنتاج دوريّاً، كي تحتفظ بقدراتها التنافسية.

وتحتاج مراكز النظام الرأسمالي ومؤسساته إلى تحقيق معدّلات مرتفعة من مردود التوظيفات الرأسمالية، كي يستمر توظيف رؤوس أموال جديدة في الإنتاج، وحتى لا تجتذب أسواق أخرى خارجيّة رؤوس الأموال الوطنية. فنمو الناتج الوطني يرتبط بنسبة التوظيف المجدي الثابت في الإنتاج. تأتي رؤوس الأموال المطلوبة من المدّخرات الوطنية، كما من التدفّقات الخارجيّة. وعلى النظام أن يعمل على تحقيق معدلات مرتفعة من النمو لرفع مستوى معيشة الشعب وتلبية طلبات الاستهلاك لديه، كما عليه أن يعمل على تأمين توظيفات جديدة ترفع إنتاجه وإنتاجيّته.

إن انخفاض مردود رؤوس الأموال يدفع بها إلى الهروب إلى الخارج أو التوجّه إلى توظيفات غير مجدية اقتصاديّاً، مثل المضاربة، مما يشكّل أخطاراً كبيرة على مستقبل الاقتصاد.

إقرأ على موقع 180  السيسي في أنقرة.. العلاقة التركية المصرية تدخل مرحلة جديدة

تنحو قوى رؤوس الأموال- وهي الحاكمة فعليا في النظام الرأسمالي- إلى رفع مردود رؤوس الأموال عبر إعادة اقتسام الناتج الوطني بين قوى رؤوس الأموال والقوى العاملة، ولمصلحة رؤوس الأموال، كما فعلت الليبرالية الجديدة، وبخاصة في أميركا وبريطانيا.

هذا المنحى يُولّد تفاقم اللامساواة بين الطبقات الاجتماعية وخفض المداخيل الحقيقية للطبقات العاملة. يولّد ذلك أيضاً توتّرات وصراعات داخلية، سياسية واقتصادية. لذا، يُمكن القول إن تدخّل الدولة ضروري لكبح جموح رؤوس الأموال وما تولّده من مخاطر سياسية واقتصادية في المجتمعات الرأسمالية.

النظم الرأسمالية

ليس هناك نظام رأسمالي واحد في العالم الرأسمالي. تعدّدت النظم الرأسماليّة في العالم حسب تجربة الدول والشعوب المختلفة، وحسب تطوّر تنظيمات القوى الحامية للطبقات العاملة فيها. يختلف النظام الرأسمالي البريطاني عن النظام الألماني ومعظم أنظمة الدول الأوروبية الشمالية. أُدخِلت تعديلات عديدة على النظام الألماني مع نمو الحركات العمّاليّة الألمانية وتهديدها للنظام الرأسمالي في القرن التاسع عشر، فعمد بسمارك على تهدئة “الثوريّة” العمّاليّة بإعطاء الطبقة العاملة العديد من الامتيازات، والتي ما زالت تشكّل صفة خاصّة للرأسماليّة الألمانية. وتتميز الطبقة العاملة الألمانية بتنظيماتها النقابيّة القويّة وبمشاركتها في مجالس إدارة الشركات ودورها الفاعل في سياسات مؤسّسات الإنتاج، كما لها تعويضات وضمانات اجتماعيّة كبيرة. لكن هذه الميزات لا تُخرِج النظام الرأسمالي الألماني من إطار النظام الرأسمالي العالمي الذي تهيمن عليه وتقوده أميركا.

ويشكّل النظام الرأسمالي الأميركي السمة الرئيسيّة للنظام الرأسمالي العالمي، فهو يحدّد أيديولوجيّته وتوجّهات مؤسّساته الدوليّة وبنية أسواقه التجاريّة والماليّة بشكل عام، وسياساته الاقتصاديّة والأمنيّة؟

وهل تستطيع النظم الرأسماليّة الثانوية الخروج على إرادة القيادة الأميركيّة أو الخروج من تحت مظلّتها الأمنيّة في عالم خرج من الأحادية القطبية؟

وهل يدفع ترامب بسياساته إلى حل مشاكل أميركا، أم إلى دفع شركاء أميركا للخروج عن إرادتها والبحث عن مكان آخر لهم في عالم متحوّل؟

عصبة الأمم.. عودة فاشلة  

نمت الرأسماليّة الأميركيّة في ظل الاستعمار البريطاني. ورثت التراث الاستعماري البريطاني، كما نمّا تراثها وثقافتها الخاصّة والمتميّزة نسبيّاً إبّان حروب الإبادة للشعوب الهنديّة وحروب التوسّع على حساب المكسيك، في غرب وجنوب القارّة الشماليّة؛ كما توسّعت في آسيا والمحيط الهادئ عند أواخر القرن التاسع عشر، وبوحشيّة كبيرة عبر حروب الإبادة، كما حدث في الفيليبّين سنة 1898.

بَنَت الرأسماليّة الأميركيّة قدراتها عبر نهب وإبادة الشعوب الهنديّة، ثمّ حمت نمو قدراتها الإنتاجيّة- بعد حرب الاستقلال- بأسوار مرتفعة جداً من الضرائب الجمركيّة. كانت بريطانيا، المهيمنة على النظام الرأسمالي العالمي، تملك قدرات تنافسيّة كبيرة في قطاع الصناعة، وتدعو إلى تحرير الأسواق العالميّة وفتحها أمام تدفّق سلعها ورؤوس أموالها وخدماتها. نما الاقتصاد الأميركي ونمت قدراته العسكريّة بالتوازي مع نمو قدراته الاقتصاديّة، وبطموح استعماري كبير، كامتداد لتاريخه التوسّعي. لحق الاقتصاد الأميركي باقتصادات الدول الأوروبية الكبرى عند بدايات القرن العشرين. شاركت أميركا، ولو متأخّرة، في الحرب العالميّة الأولى، ولكنّها “خرجت من المولد بلا حمّص”، كما يقول المثل. حصلت على بعض الجزر من بريطانيا مقابل بوارج قدّمتها لها، ولكنها لم تحصل على جزء مجزي من الإمبراطوريّة العثمانيّة، والتي اقتسمت أشلائها الإمبراطوريّتين البريطانيّة والفرنسيّة. فعاد الرئيس الأميركي ممتعضاً من باريس، بعد أن شارك في إطلاق عصبة الأمم، ولم يشارك في أعمالها.

استنزاف أوروبا

تغيّر الوضع بعد الحرب العالميّة الثانية، بعد دمار أوروبّا وإفلاس إمبراطوريّتيها. سمحت عهود الاستعمار الأوروبي لدول أوروبا الكبرى بمراكمة ثروات ضخمة ومداخيل وطنيّة مرتفعة، عبر سياسة النهب الاستعماري وسياسات “أكل لحوم البشر” (Vulture Capitalism)، فأعطت شعوبها وقواها العاملة مستوىً استهلاكيّاً مرتفعاً أكثر من قدراتها الإنتاجيّة الحقيقيّة. سمح ذلك لها بتجنيد شعوبها لخوض الحروب الاستعماريّة، ودقّ شبابها صدورهم بقبضاتهم حماسةً لبناء أمجادهم القوميّة، على حساب شعوب دول العالم ودمائها وبؤسها.

استنزفت الحرب العالمية الثانية دول أوروبّا وإمبراطوريّاتها الاستعماريّة، وألحقت بها دماراً كبيراً، بينما خرجت أميركا من الحرب التي خاضتها متأخّرة (قاتلت في أوروبّا بعد أن أخذت الجيوش النازيّة في التراجع أمام الجيوش السوفيّتيّة في السهوب الأوروبية) أقوى، وعلى شتى الصعد. لم تصل الحرب إلى البرّ الأميركي؛ لم تدمّر بنية الولايات المتحدة الإنتاجية، بل أحيتها ووسّعتها. دمّرت الحرب الإمبراطوريّات الاستعماريّة الأوروبية واليابانيّة، التي خرجت فيها ثورات التحرّر الوطني. ورثت أميركا النظام العالمي بعد أن سقطت بريطانيا عن عرشه. ورثت مستعمرات أوروبّا واليابان، وصاغت النظام الرأسمالي العالمي ليخدم مصالحها ويؤبّد هيمنتها على معظم دول العالم وشعوبها. ورثت أميركا المستعمرات وثوراتها التحرّرية معاً!

الذهب عملة عالمية

سمحت عهود الاستعمار القديم والجديد للنظم الرأسماليّة بمراكمة رؤوس أموال هائلة وتحقيق تقدّم علميّ وتقني. جابه النظام الرأسمالي تحدّيات سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة من قِبل المعسكر الاشتراكي، وبخاصة بعد انتصار الثورة الصينيّة. عمل النظام الرأسمالي على مجابهة هذه التحدّيات بطرق عدّة، من أهمّها تطوير قدراته العلميّة والتقنيّة وبناء قدرات عسكريّة متفوّقة تستند إلى اكتشافات علميّة جديدة، وحافظ على إنتاج أجيال جديدة ومتطوّرة من السلاح. انتقلت هذه العلوم والتقنيات الجديدة إلى إنتاج سلع وخدمات أميريكيّة متفوّقة. دعمت القدرات العسكرية المتفوّقة القدرات الاقتصاديّة الأميركيّة عبر فرض شروط في التجارة الخارجيّة لمصلحتها. غير أن الحروب التي خاضتها أميركا في كوريا ثم فييتنام استنزفت إمكانيّاتها الماديّة والبشريّة، وحوّلتها من أكبر دولة دائنة في العالم إلى دولة مدينة، كما ولّدت فيها صراعات داخليّة.

انزلقت أميركا إلى ركود اقتصادي سنة 1965. حاولت تحميل أعباء أزمتها إلى عاتق كلّ من اليابان وألمانيا الغربيّة، لإنهاء فوائض تجارتهما معها، وذلك عبر فرض سياسات نقديّة وماليّة عليهما. فشلت أميركا في حلّ مشاكلها بهذه الوسائل، فأسقطت تعهّداتها العالمية بإبدال الدولار بالذهب لمن يشاء بسعر ثابت قدره 35 دولارا للأوقية. جمعت أميركا، عبر ذلك التعهّد، معظم ذهب العالم واستبدلته بالدولار الذي حوّلته إلى عملة عالميّة. موّلت أميركا عجوزاتها الماليّة بعملتها، فضخّت إلى السوق الدوليّة كميّات هائلة من الدولارات توازي 4 أضعاف ما جمعته من دول العالم. بعد أن بدأ الجنرال ديغول بإبدال ما لديه من دولارات بالذهب، وبعد استفاقة دول العالم على مدى نهبها من قِبل أميركا، أسقطت الأخيرة تعهداتها بإبدال الدولار بالذهب بالسعر الثابت، فغيّرت بذلك نظام النقد الدولي من السعر الثابت إلى السعر العائم للدولار. حقّقت أميركا عبر هذا الانتقال أحد أكبر سرقات دول وشعوب العالم، إن لم يكن أكبرها بالمطلق، إذ استولت على ذهب العالم بسعر 35 دولاراً للأوقية، وبلغ سعر أوقيّة الذهب اليوم أكثر من 3850 دولاراً للأونصة الواحدة. ما زالت أميركا تسرق المزيد من ثروات ونتاج دول العالم عبر الدولار بإبقاء الأخير عملة عالميّة، وعاءً للادخار ومقياساً للقيمة وأداةً للتبادل. لا ترضى دول العالم بالدولار كعملة عالمية، بل تفرضه عليها أميركا عبر مؤسّسات الاقتصاد العالميّة الرسميّة مثل صندوق النقد والبنك الدوليّين.

القطب العالمي الأوحد

تمكّنت أميركا حتّى اليوم من سدّ عجوزاتها التجاريّة والماليّة المتفاقمة بعملتها الوطنيّة، بينما تحتاج دول العالم لفعل ذلك إلى العملات الصعبة، وعلى رأسها الدولار. مكّن ذلك أميركا من خدمة شركاتها ومؤسّساتها الاقتصاديّة والماليّة وتقوية رؤوس أموالها على حساب دول العالم وشعوبه. تمكّنت، عبر تغيّير سعر الصرف الحقيقي للدولار والفائدة عليه، من دفع العديد من دول العالم إلى فخ المديونيّة، كما فعلت في أميركا اللاتينيّة إبان ثمانينيات القرن الماضي. رفعت أسعار النفط بمعدّلات كبيرة سنة 1979 (وليست دول أوبك من فعل ذلك) وأغرقت أسواق أميركا اللاتينيّة بأموال ساخنة (قصيرة الأجل) تحمل فوائد منخفضة جداً. امتصّت بعض دول أميركا اللاتينيّة (وبخاصّة المستوردة للنفط) هذه الأموال لشراء النفط كما للتوظيفات الثابتة في مؤسّسات الإنتاج. سمحت الخزينة الأميركيّة للمصارف الأميركيّة بتجاوز كل “الخطوط الحمر” والقوانين المرعيّة في إقراضها لتلك الدول، ثم عمدت إلى رفع سعر الدولار مقابل العملات العالميّة ورفع معدّلات الفائدة عليه. ثم طلبت بسحب قروضها بالدولار من تلك الدول المقترضة.

وأمام عجز تلك الدول عن سداد الديون وخدمتها، وعجز الشركات عن تسييل موجوداتها الثابتة، فرضت أميركا، وبمساعدة صندوق النقد الدولي، على هذه الدول إبدال ديونها بموجودات حقيقيّة، وبنصف ثمنها الحقيقي. كما أجبرت الدول هذه على تغيير تشريعاتها لتفتح أسواقها أمام التوظيفات الأميركية بلا قيود، وأن تعدّل قوانين العمل الحامية للطبقة العاملة. كرّرت أميركا فعلتها هذه مع “النمور الآسيويّة” في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إذ أصبحت هي القطب العالمي الأوحد، وانتفت حاجاتها الأمنيّة والعسكريّة لهذه الدول، وقبل بروز الصين كقوّة اقتصاديّة عالميّة تنافسها. ثمّ كانت إعادة نهوض الاتحاد الروسي وتواصل نمو القدرات الصينية الشاملة، لتطرح أميركا قضية الاحتواء المزدوج لروسيا والصين كاستراتيجية جديدة لها.

لقد استطاع النظام الأميركي أن يخوض سلسلة طويلة من الحروب الإمبرياليّة ضدّ دول وشعوب العالم الثالث في أميركا اللاتينيّة وآسيا وإفريقيا، في ظل سكوت القوى العاملة في أميركا أو حتى تأييدها الحرب (كما في حرب فييتنام)، وذلك برشوة هذه القوى العاملة ورفع دخلها الحقيقي بأعلى من إنتاجيّتها، وجعلها مستفيدة من سياسات النهب الإمبريالي، وأيضاً عبر أدوات القمع (مثل المكارثيّة إبان خمسينيات القرن الماضي)، وعبر السيطرة الكاملة على كافة وسائل الإعلام، والاستفادة من نمط الإعلام النازي وتجربته الناجحة.

بدأت أزمة النظام الرأسمالي الأميركي تتكوّن وتنمو مع نجاح العديد من حركات التحرّر الوطني في تقليص مدى النهب الإمبريالي لدول العالم الثالث، نتيجة متغيّرات أقنية التجارة الدوليّة، مع نمو إنتاجيّة منافسة لها ومتفوّقة عليها، كما مع خروج بعض الدول والشعوب من “الحضيرة” الأميركية، ولو جزئياً، والسير على طريق التنمية المستقلّة الشاملة والدائمة. إنّ تقلّص مدى النهب وكمّيته، وارتفاع كلفة الحروب (مع ارتفاع ثمن الأسلحة الجديدة بأضعاف معدّل ارتفاع الناتج الأميركي وبنية المجمّع الصناعي العسكري الأميركي الاحتكارية) بحيث فاقت كلفة الحروب مردودها الشامل، دفع النظام نحو فخّ المديونيّة الخطر، وزاد من ربحيّة الشركات الرأسماليّة الخاصة.

(*) في الجزء الثاني: ماذا عن أميركا والعولمة وثقافة العنف الأميركية وإبادة الشعوب الأصلية وشيطنة الضحية

Print Friendly, PDF & Email
غالب أبو مصلح

خبير وباحث اقتصادي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الحزب الشيوعي اللبناني: أوهام جديدة بخطاب قديم (1)