تقصد جو بايدن الاعلان عن ايعازه للجيش الأميركي بإنشاء الميناء البحري الموقت خلال خطاب “حال الإتحاد” ليوحي بالأهمية التي يوليها لمسألة إيصال المساعدات إلى الفلسطينيين في غزة، بعدما كانت طائرات النقل التابعة لسلاح الجو الأميركي تتشارك مع الأردن في إلقاء مساعدات من الجو فوق القطاع.
الجسر البحري يحتاج إلى أسابيع كي يكون جاهزاً من الناحية اللوجستية، بينما المساعدات التي تسقط بالمظلات عديمة الفعالية بشهادة وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة. ويمكن أن يكون القاء المساعدات من الجو مفهوماً لو كان ذلك يتم في أراض “عدوة”، أما وأنّ إسرائيل، الدولة الأقرب للولايات المتحدة، تحتل معظم القطاع والإدارة الأميركية غير قادرة على اقناعها بادخال المساعدات الانسانية من البر، فتلك معضلة تستعصي على الفهم.
مجلة “الإيكونوميست” البريطانية سخرت مما سمته مفارقة إلقاء إسرائيل قنابل أميركية الصنع على غزة بينما سلاح الجو الأميركي يلقي مساعدات إنسانية!
نائب مساعد مدير وكالة التنمية الاميركية السابق ديف هاردن، قال لموقع “بوليتيكو” الأميركي عن إلقاء المساعدات من الجو: “إنها تظهر ضعفنا مئة في المئة.. مسؤولو الإدارة يفعلون ذلك كي يشعروا بالارتياح”.
والزميل البارز في معهد الشرق الأوسط تشارلز ليستر يقول: “إننا نفعل ذلك بينما نستمر في ارسال الأسلحة إلى الجيش الذي يجبرنا على إلقاء المساعدات من الجو”.
قائد القيادة المركزية السابق فرانك ماكينزي يرى فائدة وحيدة لالقاء المساعدات من الجو “وهو عدم وجود تهديد فوري للقوات الاميركية”.
صحيفة “النيويورك تايمز” وصفت الإجراءات الأميركية بأنها محاولة من بايدن “لإيجاد دور متوازن في حرب الشرق الأوسط غير المتوازنة”.
لا بايدن في وارد الدخول في مواجهة مع نتنياهو، ولا غانتس هو الرجل القادر على قلب الطاولة في إسرائيل. ومن هنا، حرص بايدن على عدم استقبال عضو مجلس الحرب الإسرائيلي، برغم أن برنامج الزيارة حفل بمواعيد
وتعبيراً عن هذا المأزق، يقول النائب الديموقراطي عن ولاية كاليفورنيا رو كهانا: “لا يمكنك أن تتبنى سياسة منح المساعدات الإنسانية، وفي الوقت نفسه تمنح إسرائيل القنابل لقصف الشاحنات التي تحمل هذه المساعدات”.
غاية بايدن، كما صار معروفاً، أن يُظهر للجناح اليساري في الحزب الديموقراطي، أنه مهتم لأمر السكان المدنيين في غزة. والقرارات التي يتخذها في شأن المساعدات أتت من منطلق خوفه من أن يكلّفه الدعم المطلق لإسرائيل، خسارة الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل أمام الرئيس السابق دونالد ترامب.
ولم يعد بايدن قادراً على عدم الأخذ في الاعتبار حجم كتلة الناخبين الديموقراطيين المعترضين على سياسته حيال الحرب على غزة، بعد نتائج “غير الملتزمين” في ولايات ميشيغن ومينيسوتا وماساشوستس.
السناتور عن ولاية فيرمونت بيرني ساندرز، دعا بايدن إلى اختصار المراحل ووقف المساعدات العسكرية لإسرائيل، لحملها على القبول بوقف النار.
خطوة لا يرفضها بايدن فقط، بل إن صحيفة “الوول ستريت جورنال”، كشفت أن الإدارة الأميركية تلجأ إلى “وسائل مقنّعة” من أجل إرسال عشرات آلاف الأسلحة من قنابل وذخائر ذكية إلى إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وذلك كي لا تكون مجبرة على أخذ موافقة الكونغرس، وكي لا يواجه الرئيس الأميركي مزيداً من الاحراج أمام الديموقراطيين الداعين إلى وقف فوري للحرب.
ضجة بيني غانتس
وفي الوقت نفسه، يُدير بايدن الخلافات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، باعتماد المناورة والضغط من بعيد تفادياً للاصطدام المباشر. وفي هذا السياق، اندرجت زيارة الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس لواشنطن أوائل الأسبوع الماضي.
وأوحت الظروف التي أحاطت بزيارة بيني غانتس، بأن العلاقات الأميركية-الإسرائيلية على حافة الهاوية، وأن البيت الأبيض على وشك اعلان طلاق علني مع حكومة نتنياهو، وأن الهدف من دعوة غانتس إلى الولايات المتحدة تفجير أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً قومياً ودينياً، من الداخل، بعدما سُدّت الطرق أمام استجابة نتنياهو لخريطة الطريق الأميركية للخروج من الحرب وصولاً إلى تسوية دائمة.
في العمق، الأمور لم تصل إلى هذه اللحظة بعد. لا بايدن في وارد الدخول في مواجهة مع نتنياهو، ولا غانتس هو الرجل القادر على قلب الطاولة في إسرائيل. ومن هنا، حرص بايدن على عدم استقبال عضو مجلس الحرب الإسرائيلي، برغم أن برنامج الزيارة حفل بمواعيد تدرجت من نائبة الرئيس كامالا هاريس التي أوكل إليها بايدن (وهو قلما أوكل إليها بمهمات رئيسية في الأعوام الثلاثة من ولايته) مهمة استقبال غانتس في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاءات مع الوزراء الأساسيين في الإدارة وقادة الكونغرس.
وفي الوقت نفسه، لم يبدر عن غانتس، باستثناء ترتيبه الزيارة من دون ابلاغ نتنياهو بها، ما يشي بأن رئيس حزب “الوحدة الوطنية” مستعد للذهاب بعيداً في المواجهة مع نتنياهو. وهو الذي كان صرح في كانون الأول/ديسمبر أن نتنياهو “لم يكن يوماً عدوي.. عندما تنتهي الحرب سنكون متنافسين سياسيين”. هذا علماً بأن نتنياهو انقلب على غانتس عندما حان دوره في ترؤس حكومة الوحدة الوطنية عام 2021، والكل يعلم أن الود مفقود بين الرجلين، على خلفية طموحاتهما السياسية.
نتنياهو لم يعد شريكاً موثوقاً
ترافقت الزيارة مع توتر نشب بين العضو الثالث في مجلس الحرب وزير الدفاع يوآف غالانت، ونتنياهو، بسبب دعوة الأول المفاجئة إلى تجنيد شبان الأحزاب الحريدية، الأمر الذي اعتبره نتنياهو بمثابة إثارة لقضية قد تطيح بائتلافه الحكومي، إذا ما قرّر الوزيران ايتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش الانسحاب من الائتلاف لأنهما يرفضان تجنيد اليهود المتدينين من أتباع حزبيهما “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية”.
وغالانت، الطامح إلى خلافة نتنياهو في زعامة الليكود، أقرب إلى غانتس في مواقفه، بينما يرفض الثلاثة قيام دولة فلسطينية، مضافاً إليهم زعيم المعارضة يائير لابيد، الذي أيّد في الكنيست مشروع قانون اقترحه نتنياهو الشهر الماضي، ويدعو إلى رفض الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية من جانب واحد، وذلك رداً على تلميحات بدرت عن وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ورئيس الوزراء البلجيكي ألكنسدر دي كرو ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، حول امكان الاعتراف بدولة فلسطينية، في حال لم يقبل نتنياهو بوقف للنار في غزة، والمضي في مسار سياسي يوصل إلى حل الدولتين.
ولا مرة خلال زيارته لواشنطن ومن بعدها للندن، قال غانتس كلاماً يُستشف منه موقفاً معارضاً لتوجهات نتنياهو، إلا إذا كانت تصريحات عضو حزب “الوحدة الوطنية” غادي آيزنكوت، وهو عضو مراقب في مجلس الحرب، التي انتقد فيها أكثر من مرة الأهداف “غير الواقعية” لنتنياهو في غزة، تُعبّر أيضاً عن وجهة نظر غانتس.
غاية بايدن، أن يُظهر للجناح اليساري في الحزب الديموقراطي، أنه مهتم لأمر السكان المدنيين في غزة. والقرارات التي يتخذها في شأن المساعدات أتت من منطلق خوفه من أن يكلّفه الدعم المطلق لإسرائيل، خسارة الانتخابات الرئاسية
تغطية سياسية كاملة
إذن، على ماذا تراهن إدارة بايدن من وراء دعوة غانتس إلى البيت الأبيض والاحتفاء به؟ على هذا يجيب المفاوض السابق في عملية السلام بالشرق الأوسط والزميل البارز الآن في معهد كارنيغي للسلام الدولي آرون ديفيد ميلر في صحيفة “الوول ستريت جورنال” الأميركية بقوله إن الإدارة الأميركية أرادت أن تبعث بإشارة “لا لبس فيها عن عدم ارتياحها لنتنياهو، وبأن هناك قلق من أنه من الممكن أن لا يعود الشريك الموثوق الذي تحتاجه الولايات المتحدة”.
ولدى النائب في حزب غانتس، مايكل بيتون، تفسير للزيارة يقوم على أنه “بات ملحاً جداً إيجاد حل وبناء علاقات مع الشركاء الأميركيين وغانتس مقبول بشكل جيد ومعروف بشكل جيد في واشنطن”.
أما السفير الإسرائيلي السابق لدى واشنطن مايكل أورين فيعزو الزيارة إلى التنافس السياسي الداخلي، فيقول إنه “في الحكومة الأميركية ما من وزير يرى نفسه، من الممكن، أن يكون رئيساً. لكن في الحكومة الإسرائيلية، كل عضو فيها هو رئيس وزراء محتمل”.
في الخلاصة، لا تكتسب زيارة بني غانتس طابعاً انقلابياً طالما أن توازنات الإئتلاف الانتخابي بقيادة نتنياهو ما زالت قائمة، لكن هل يُمكن أن يتطور الخلاف بين نتنياهو والإدارة الأميركية ويبلغ حد الإفتراق بين الجانبين؟
وحتى الآن لا يبدو أن الإدارة الأميركية بوارد التمايز في أي أمر يُمكن أن يُخل بموازين القوى لغير مصلحة إسرائيل، ولذلك تستمر بتوفير التغطية السياسية الكاملة للحرب من مجلس الأمن إلى الجسر العسكري الجوي المفتوح مروراً بمحكمة العدل الدولية.. حتى لو كان الثمن اسقاط بايدن نفسه في الإنتخابات الرئاسية المقبلة!