

الصفقة الأصلية
بعد الحرب الباردة، كانت الصين ما تزال دولة فقيرة، مغلقة اقتصاديًا وتعاني من المجاعة والفقر والعزلة. أما في نظر الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، فكانت تمثل فرصة ذهبية: مليار عامل رخيص يمكن تحويلهم إلى وقود لسلسلة التوريد العالمية. وهكذا، كان الاتفاق غير المعلن بسيطًا: الصين تصنع، وأمريكا تبتكر وتستهلك. الصين تنتج الأحذية، الألعاب، والإلكترونيات البسيطة. وأمريكا تدير رأس المال، والتكنولوجيا، والأسواق. كان الطرفان رابحين حيث أن الشركات الأمريكية جنَت أرباحًا ضخمة عبر الاستيراد من الصين والصين رفعت مئات الملايين من الفقر، وتحولت إلى قوة صناعية لا يمكن تجاهلها. لكن ما لم تتوقعه أمريكا هو أن الصين لن تقبل بدور “عامل المصنع” إلى الأبد.
نقطة التحول
ما إن فتحت الصين أبوابها، حتى تسلّحت بالطموح والعلم والعمل. لم تكتفِ بتجميع الإلكترونيات — بل بدأت بتصميمها. لم تكتفِ بصناعة السيارات — بل قادت ثورة السيارات الكهربائية (BYD) وأنشأت شركات مثل هواوي التي باتت تنافس في تكنولوجيا 5G، وCOMAC التي تطوّر طائرات تنافس “بوينغ”، وDeepSeek التي تخوض سباق الذكاء الاصطناعي، بل وحتى إنتاج رقائق 5 نانومتر. بكلمات أخرى، لم تعد الصين تُقلّد — بل بدأت تبتكر وتتفوق.
الصين لا تهدّد العالم بل تهدّد الهيمنة الأمريكية عليه فقط. أما رفض واشنطن الاعتراف بالواقع الجديد فلا يُضر بالصين، بل يضعف أمريكا. ففي النهاية، القرن الحادي والعشرون لن تحدّده “المؤامرة الصينية” كما يدّعي البعض، بل ستحدّده القدرة الأمريكية على التغيير أو العجز عن ذلك
انكسار العقد
العقد الضمني كان “الصين تُقلّد، أمريكا تُبدع“. لكن حين بدأت الصين تنتج ما لا تستطيع أمريكا إنتاجه — أو تنتجه بجودة أعلى وسعر أقل — تغيرت المعادلة وردت واشنطن بالذعر، وليس بالإعجاب وظهر مصطلح جديد في قاموس الشكوى الأمريكية وهو: “الطاقة الإنتاجية الزائدة“. لكن ماذا يعني ذلك فعليًا؟ يعني أن الصين أصبحت قادرة على إنتاج كميات هائلة من السيارات، الألواح الشمسية، الرقائق، السفن، وغيرها — بكفاءة وبتكلفة منخفضة. وهذا ليس “خطأً”، بل ميزة عالمية.
الحقيقة المقلقة
ليست الصين من أضعفت أمريكا، بل أمريكا أضعفت نفسها حيث بينما كانت الصين تبني الجامعات، وسكك الحديد، والمصانع، كانت أمريكا تغرق في: سيطرة وول ستريت على السياسة؛ تقشف في التعليم والابتكار؛ الاعتماد على الاستيراد؛ وتآكل الطبقة الوسطى .الصين لم تخرّب الاقتصاد الأمريكي — بل جعلت المستهلك الأمريكي أكثر ثراء ولكن الشركات الأمريكية لم تعد قادرة على المنافسة، والسياسيون وجدوا في الصين كبش فداء جاهز.
إن الخوف الحقيقي ليس من السلع الصينية، بل مما تمثّله الصين الآن كدولة تكنولوجية، صناعية، وممكنة عسكريًا. دولة لا يمكن عزلها، ولا السيطرة عليها، ولا التلاعب بمستقبلها. في السياسة الدولية، من يسيطر على التكنولوجيا، يسيطر على الاقتصاد، ثم الجيوسياسة. لهذا، لا تقبل النخب الأمريكية أن ترى الصين تصل إلى مستوى الهيمنة — أو تتفوق.
المؤامرة الصينية
السؤال الآن ليس“كيف نوقف الصين“؟ بل “هل أمريكا مستعدة لتحديث نفسها“؟ حيث يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل مع صعود الصين بإحدى طريقتين (1) التجديد الداخلي: الاستثمار في البنية التحتية، التكنولوجيا، والتعليم، وإعادة إحياء الصناعات أو (2) الإنكار والمواجهة: مزيد من الحظر، الرسوم الجمركية، والتخويف الإعلامي.
لكن التاريخ لا يرحم من يختار الخيار الثاني. الصين لا تهدّد العالم بل تهدّد الهيمنة الأمريكية عليه فقط. أما رفض واشنطن الاعتراف بالواقع الجديد فلا يُضر بالصين، بل يضعف أمريكا. ففي النهاية، القرن الحادي والعشرون لن تحدّده “المؤامرة الصينية” كما يدّعي البعض، بل ستحدّده القدرة الأمريكية على التغيير أو العجز عن ذلك.