أنس الشريف شهيداً في زمن انكشاف الإبادة وتغيّر السّرديّات

كنت قد حلمتُ به قبل يومين في حلمٍ غامض، دار بيننا سلامٌ وأسئلة، وقد أوصيته بنفسه. وجدتني لهذا السبب أيضاً، ولرهبة وبرجفة الغموض المُحرّك، معنيةً أكثر بالكتابة. أنس الشريف، لم يُغتل في زمن الإبادة وحسب، بل قُتل- ومن معه- عمداً في زمن انكشاف الإبادة، وهنا كلّ المعضلة.

اغتيل أنس. اغتيل أبا شام وصلاح، ابن مخيم جباليا، وابن مدينة عسقلان/المجدل. اغتيل وهذا متوقّع. لن أجعل من حدث اغتياله أسطورياً وشاعرياً، والكلمات لن تصيّره بطلاً وإن كانت بطولته ناطقة بذاتها، وإن كانت كلماته في الوصيّة؛ التي خطّها؛ أبلغ في الرسالة والمعنى. لكن سأقول بما يقلّ عن الثّقة بقليل: لن يكون استشهاد أنس كاستشهاد غيره من الصحافيين. لن يكون نبأ إستشهاده كنبأ استشهاد اسماعيل الغول. ولا حتى شيرين أبو عاقلة، ولا كنبأ كلّ الصحافيين الذين اغتالتهم يد آلة الإجرام الصهيونية الداعشية في السنوات الأخيرة. لن يكون كذلك ليس على سبيل الأمنية، ولكن على سبيل التحليل ضمن سياق متطور قد يبدو أكثر تأثيراً بعد انقشاع الفظائع.

اغتيل أنس ومن معه. والجيش الإسرائيلي أعلن رسمياً نبأ الاغتيال عن سابق إصرارٍ وتصميم، بل ودراسة. فالإسرائيليون يعلمون جيداً ما يخسرونه في ميدان الصّورة والوعي. يعلمون أنّهم بدأوا يخسرون حقاً في صراع السّرديات، وكيف لا وهم أبناء الدولة التي قامت- يوم قامت- أولاً وأخيراً على السردية. عنجهيّتهم تدفعهم إلى المزيد من البطش لأنها لمّا تزل تعوّل على قدرتهم على الترميم، وقدرة القوّة العسكرية على تغيير الموازين، وتثبيت أي واقع مستجد ثمّ الإقناع به كأطروحة خلاص. لكنّ “الهولوكوست” التي يقترفونها على أرض غزة، جعلت مَن حمَل ذنب “الهولوكوست” في أوروبا مثلاً يشعرُ أنه تحرّر منه إلى الأبد، لأنّ ما يُصنع الآن أمام ناظريه لا يوازن كفّة التاريخ وحسب، إذا ما صُدّق أصلاً هذا التاريخ المرويّ وفق الحكاية التي أرادوها. إن كفّة المحرقة الراهنة أوزنُ وأوجع. وإذا كانت “الهولوكوست” في الماضي قد أسّست لمعطى سياسي جديد في منطقة الشرق الأوسط، فما أدرانا أن لا تؤدي المحرقة اليوم إلى تبدّلاتٍ سياسية معينة بعد تراكماتٍ دعائية بنّاءة، وبعد اقتران تبدّل السردية الصهيونية مع تبدّل سردية الديموقراطية المخلّصة أيضاً؟

بعد هذه المقدمة الراهنة، سأقتطع من الآن سياق الكتابة، لأنتقل من حدث أنس إلى آخر أقوال المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، ثمّ أعيدُ للسياق اتساقه كإجابة على سؤال رئيس: هل أن استشهاد أنس في زمن انكشاف الإبادة هو فعلٌ مؤسّس؟

تشومسكي والتحذير من الطوفان ومآسيه

لم تكن إجابة تشومسكي على سؤال، طرحه عليه هادي اللواتي في برنامج “حيرة” قبل ثلاث سنوات، حين سأله عن المقاومة المسلحة ومستقبل إسرائيل في العقود المقبلة، مجرد إجابة عادية، إذا ما وُضعت في سياق زمني يسبق بقليل أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإذا ما قورنت بها وبنتائجها.. سيغدو سؤال المُحاوِر بعد هذه المقارنة ضرباً من الحظ الفعّال، كما ستصبح معه إجابة تشومسكي شيئاً من النبوءة.

بسلاسة السرد، قال تشومسكي يومها ما قاله: “المقاومة المسلحة تُبلي، لكنها انتحارية بالكامل. إسرائيل تعشقُ ذلك. الولايات المتحدة الأميركية تعشقُ ذلك. إذا انتقل الصراع إلى ميدان العنف والقوة، فإن لديهم القوة المهيمنة، سوف يستثمرونها في العنف.. لذلك إذا انتقل الصراع إلى ميدان العنف فهذا رائعٌ لهم. إن إسرائيل لا تحب أي شيء أكثر من أن تقوم قوى الجهاد الإسلامية بإطلاق صاروخ عليها، عندها يمكنها أن ترد بعنفٍ شديدٍ وهائلٍ، وتسحقُ أي حركة ممكنة باتجاه التحرّر من الاحتلال، بغض النظر عن أي شيء آخر. إنه لأمر عبثي تكتيكياً أن تتحرك إلى ميدان حيث يكون لدى خصمك قوة مهيمنة. هذا أمرٌ لا معنى له”..

أما عن إجابته حول الحل فيما يخص الصراع العربي الاسرائيلي، فيجيب تشومسكي: “الحل هو في تغيير الولايات المتحدة الأميركية لسياساتها.. وسياستها يمكن أن تتغير. الرأي العام الأميركي يمكن أن يتغير بشكل ملحوظ”. ثم يسرد عن التبدل في تأييد إسرائيل في السنوات العشرين الأخيرة داخل أميركا، كما يشير إلى التعتيم الإعلامي التام حول أسلحة اسرائيل النووية، على اعتبار أن الشعب لا يجب أن يعرف ذلك كون أنه يُعَدّ منافياً للقانون الأميركي، ما قد يعرّض القانون نفسه للمساءلة ويعرّض الموقف من إسرائيل، للتبدّل. وبالتالي يؤثر على مستقبل سياسة أميركا تجاه إسرائيل.

كلام تشومسكي حينها جاء في ذورة زمن الانزياح الأيديولوجي لمفهوم المقاومة، وذروة استثمار هذا التفسير لأجل فعل التحرير. عًبّء الشارع حينها باقتراب الأجل الإسرائيلي الموعود. لكنّ هذا الأجل كان ينتظر ظرفاً موضوعياً واضحاً لا أكثر، إيذاناً ببدء عملية التحرير.

بهذا المعنى، ووفق تلك المعطيات، كان نقد تشومسكي لفكرة المقاومة المسلحة الهجومية كوسيلة، لا كغاية أو حق، بمثابة توجيه إنذار مبكر، يثير في الفضاء العام ليس فقط مسألة واقعية الفعل المقاوم ومدى جدوائية النتائج، بل أيضاً في العمق معضلة أخلاقية النتائج في مقابل المبدأ الأخلاقي للفعل. هو يقول بمعنى أو بآخر: لا تكفي نُبل النوايا أو عدالة القضية، ولا يكفي إيمانك بالقضية وثقتك الشعاراتية بالقدرة على نصرتها، بل لا بدّ من أن تحتسب النتائج جيّداً وفي أكثر من بُعد لأي فعلٍ تقوم به في إطار القضية نفسها.

إذا كان “الطوفان” بالمنطق التكتيكي “انتحارياً”- وفق تعبير تشومسكي- فهل هو وفق المنطق الاستراتيجي بداية انهيار حقيقي للشرعية الأخلاقية لإسرائيل؟

إلى الآن، ستبدو الخُلاصة، وبناءً على النتائج المباشرة التي تمخّضت عن “طوفان الأقصى”، والتداعيات التي أدّت إلى تثبيت إسرائيل كقوة مهيمنة عسكرياً وسياسياً، أنّ حركة حماس قامت بفعل “عبثي تكتيكياً” وفق تعبير تشومسكي، وارتكبت فعلاً “لا معنى له”. لكنّ المُفارقة تكمن في الشّقّ الثاني من كلام تشومسكي، حين يضع الحلّ في تغيير سياسات الولايات المتحدة، كنتيجة للتبدل في الرأي العام.

أسئلة “الطوفان” مجدداً

بعيداً عن القسم الإنساني القاسي للأحداث الرّاهنة، بما فيها حدث اغتيال الصحافي الألمع في نقل ما يجري في غزة، يمكن القول إنّ تشومسكي أمضى حياته كلها تقريباً في تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات التي يبغي منها إحداث تغيير منشود في الوعي العام الغربي أو الأميركي فيما يتعلق بمسألة الصهيونية. هنا، ومجدّداً، ورغم الكلفة الباهظة لـ”الطوفان” التي من الوقاحة واللاأخلاقية في مكان الكتابة في “استثمارها”، إلا أنّ العنف الذي حلّ بالفلسطينيين، صحيحٌ أنه لم يكن أداة نصر، لكنّه كان ولما يزل بدون أدنى شكّ أداة كشف فاقت بأشواط كلّ المحاولات التي قام بها تشومسكي في كشف وفضح الصهيونية وأبعادها وأدواتها. فهل ستتبدّل الخُلاصة هنا؟ وهل سنستطيع القول إن تبدلاً ما في السياسة الأميركية قد يلوح في الأفق القريب/ البعيد بفعل النجاح الدعائي لـ”الطوفان” إن جاز التعبير، وبالتالي تتحقق نجاعة الوسيلة التي بالغ تشومسكي في التركيز عليها؟ أم أن لإسرائيل القدرة على إعادة خلق السرديات وترميمها؟

إقرأ على موقع 180  لا خوف على الدين الإسلامي إلا من أصحابه

ثمّ هل كان “الطوفان” أصلاً وسيلة اضطرارية أم عبثية؟ هل ما ينطبق على المقاومة الفلسطينية ينسحب على اللبنانية وغيرها أم له خصوصيته؟ هل كان “الطوفان” قراراً أيديولوجياً بـ”العنف” أم رد فعل على لا جدوى السلمية والموت البطيء أو السكون “العبثي” كما يصطلح البعض؟

وإذا كان ثمّة من نَعتَ فعل “الطوفان” بالجنون، فهل من الممكن أن تنتج اللاعقلانية التكتيكية عقلانية استراتيجية؟ إذا كان “الطوفان” بالمنطق التكتيكي “انتحارياً”- وفق تعبير تشومسكي- فهل أنه وفق المنطق الاستراتيجي بداية انهيار حقيقي للشرعية الأخلاقية لإسرائيل؟

كلها أسئلة وجب طرحها مع كل حدث يُستَجّد، علماً أن العقل لم يكن وحده هو المحرّك للتغيير في محطات كثيرة من تاريخ البشر، بل على العكس من ذلك، كانت لحظات الجنون، أو ما بدا كذلك في زمانها، هي التي فجّرت التحولات الكبرى. ما قد يُسمى اليوم “رؤية ثاقبة” كان بالأمس ضرباً من الجنون أو اللاعقلانية الخلّاقة. أمكننا هنا أن نُعيد تأويل مفهوم الجنون، ليس كمقابل للحكمة، بل كقوة صادمة قادرة على إعادة تشكيل الواقع حين تفشل الواقعية في كسره. بل وأمكننا أيضاً تسليط الضوء على جانب من البعد السكوني الذي يفرضه العقل في مقابل بعد إنتاج الحركة الذي يخلقه الجنون.

على أن الجنون هي التهمة التي يُعلي الإنسان في سقف النقد بها عندما لا يريد للنقاش أن يكون مطروحاً بسلاسة. أنت حين تصف خصمك بالجنون ابتداءً، فإنك تنزع عنه صلاحية المناقشة حتى في الأفكار، كون أنها لا تندرج ضمن الإطار المنطقي والعقلاني. وبالتالي تنزع عنه الأهلية في أن يكون صاحب رأي أو قدرة على الفعل واتخاذ القرار.

نتنياهو و”الدعاية المجنونة”

في هذا السياق، ليس غريباً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ومن على منبر الأمم المتحدة، وقف بكل الثّقة المعهودة والكاريزما التي طوّرها في ذاته، قبل حوالي العام من الآن، ليصف التهم الغربية بحقّ إسرائيل بأنها ترتكب إبادة جماعية على أنها تهم مجنونة: “هذا ضرب من الجنون”.. “نحن الذين ندافع عن أنفسنا من الإبادة”. ثمّ يزيد: “أدخلنا 700 ألف طن من الغذاء إلى غزة، هذا يعني أكثر من 300 سعرة حرارية يومياً لكل رجل وامرأة وطفل في غزّة”.. “هناك خلط أخلاقي عميق عند من يسمون أنفسهم بالمتقدمين ويقومون في السير بمظاهرات ضد إسرائيل. ألا يدركون أنهم بذلك يدعمون الإرهابيين”.. هذه مسخرة.

لم يكتفِ هنا نتنياهو برفع سقف التّهم لصدّها، بل ركّز في السياق على السردية كما “يجب أن تكون”، وهذا ما يهمه أكثر من أي شيء آخر.

وهي السردية نفسها التي تهم المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف. ولهذا حضر بنفسه إلى غزة لينقل “الحقائق” للرأي العام، وقد صرّح: “لا توجد مجاعة”. هذا هو الحرص الغربيّ اليوم على السردية. حرصٌ جعل إلى حد الآن الصحافة هناك خالية من صورة جوية واحدة للجريمة في غزة، فيما تسرد الصحافة الأوروبية أرقام الضحايا مُستتبعة بالجملة الآتية: “وفقاً للسلطات الطبية التابعة لحركة حماس”!

تراجع سرديتين حكمتا العالم

يقول زميل لي، يعمل في شركة ملاصقة لمبنى السفارة الإسرائيلية في إحدى الدول الأوروبية، إنه دائماً ما كان يحاول استفزاز الموظفين بإطلاق نقد واضح تجاه إسرائيل. يحكي لي تفاصيل عن تطور نمط الردود. يقول إنّهم في البداية كانوا يطلبون إبعاد السياسة عن ميدان العمل، ثمّ تطور الأمر إلى الاكتفاء باللاتعليق، ثم بالأسئلة والجدل، والآن بابتداء الكلام نقداً طبعاً، وبوتيرة تكاد تكون يومية..

برغم كل القتامة والآهات، ثمّة نور بثّه أنس في حضوره لن يودّع عالمنا بعد رحيله. هو لم ينكفء عن المشهد الإعلامي، بل بدأ الآن به. ومن الإعلامي الشاهد إلى الإعلامي الشهيد، مسارٌ ربّما سيكون مغايراً واستثنائياً هذه المرّة أكثر

هو تطوّر ينقله غيره من الزملاء أيضاً وفي محطات وبلدان أخرى. واللافت للانتباه، والمهم، أن هذا التبدل اقتُرن مع تطور آخر دفع به الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشخصه هذه المرة، له علاقة بعدم الوثوق بكل ما له علاقة بالنظام الدولي وبالديموقراطية والمؤسسات، من حيث أنه يجاهر علناً بعدم إعطاء الاعتبارية أو القيمة لها. تغيران اثنان، متى تزامنا واقترنا ببعضهما البعض، يؤسسان معاً، وليس كلّ على حدا، لتغيير غير عابر، على مستوى مساءلة كل البديهيات من جديد. وهذا ما من المفترض أن يكون له تبعاته – ولو البطيئة – على السياسات فيما بعد، خصوصاً وأن الدول الأوروبية التي تحارب اليمين الشعبي في بلدانها، تجد نفسها متورطة تماماً في الدفاع عن اليمين بنسخته الإسرائيلية التوراتية الفاشية. وهذه “مصيدة استراتيجية”، وفق تعبير رئيس أركان جيش الاحتلال يائير زامير.

إسرائيل في صلب المصيدة

قبل يومين فقط، صادق مجلس الوزراء الإسرائيلي على خطة لفرض السيطرة الكاملة على غزّة. ساعاتٌ وابتدأت/استكملت الخطة عملياً بقتل الشاهد الأساس وناقل المشهد، وبتصريح فجّ من نتنياهو: “كثير من زعماء العالم يقولون لنا نعلم أنكم محقون ولا يمكننا مجابهة الرأي العام ببلداننا وبخاصة أوروبا”.. هو لطالما شدّد في كلماته في الأمم المتحدة أنه يحارب عن الغرب بأسره ويدافع عن قيم الحضارة الغربية.

سيشاهد بعض من هم في أوروبا وأميركا، خصوصاً بعد وفاة الأب، شريط فيديو لشام، ابنة أنس الشريف، تم تصويره منذ مدة، تكشف فيه واقعهم المرعب، وتعرب فيه عن خوفها على أبيها من القصف. سيتفاعلون اليوم أكثر مما تفاعلوا معه قبل سنة حول اغتيال الصحافة بما يخالف القانون الدولي. شيء ما سيتغير مع الوقت. اغتيال أنس اليوم جاء ضمن هذا السياق المؤسس. جريمة ربما تحقق له رغبته التي كتبها في الوصيّة: “اللهم اجعل دمي نوراً يضيء درب الحرية لشعبي وأهلي”..

ثمة نور برغم كل القتامة والآهات. ثمّة نور بثه أنس في حضوره لن يودّع عالمنا بعد رحيله. هو لم ينكفء عن المشهد الإعلامي، بل بدأ الآن به. ومن الإعلامي الشاهد إلى الإعلامي الشهيد، مسارٌ ربّما سيكون مغايراً واستثنائياً هذه المرّة أكثر. مسارٌ سيؤسِّس.. ربما!

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  المغرب: التطبيع "يفضح" المعلوم.. و"الإخوان" أبرز "المُطبّلين"!