

من الناحية النظرية، يعرف هؤلاء الحد الأدنى من قواعد النقاش، وأصول تداول الرأي، وطبيعة الهواجس المتبادلة بين الأطراف. لكن عند اشتداد الأزمة، يتراجع العقل إلى الصفوف الخلفية، ويتقدّم المشهدُ بلغة أشبه بثأر عشائري، أو تسجيل نقاط، أو استعراض بلاغي مشحون بالشتائم والمفردات المبتذلة. وغالبًا ما يُستعان بمنشورات انتقائية يكتبها “العوام” من الجهة المقابلة، لتُعمَّم بوصفها تعبيرًا عن فريق بأكمله، في مشهدية توظّف التحريض بدل التفكيك العقلاني.
هذه المعمعة تكشف أمرين متلازمين: ضعف الحجة وركاكة القراءة التاريخية، إلى جانب لجوء ممنهج إلى “مونتاج” الخلافات السابقة بما يُشوّه الحقائق ويزيد احتمالات تفاقم الانقسام. النتيجة المباشرة هي تمهيد طريقٍ لأيام أكثر سوءًا، تنطلق من خفّة في التعامل مع القضايا المصيرية، وكأن الفضاء العام مسرحٌ لتصفيات شخصية أكثر منه مجالًا لبناء وعي جماعي.
من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن تفهّم انفعالية الجمهور العريض، إذ يتسم في أوقات الشدّة بالميل إلى الاستقطاب السريع واستعراض القوة الرمزية، لكن المعضلة الحقيقية تكمن حين تنخرط “الطبقة الواعية” في هذه الدينامية البدائية، متخلية عن تراكم الخبرات وفوائد الدروس السابقة. لبنان، في هذا المعنى، أشبه بـ”معهد دائم” لتدريس فنون الخلاف وإدارة الأزمات، لكن النخب تبدو وكأنها تُكرّر المواد نفسها بلا ترقٍ لا بل تحرق المراحل.
سيكولوجيًا وعصبيًا، يمكن تفسير هذا الانحدار إلى الانفعال المحض عبر ما يقوم به الجهاز الحوفي في الدماغ، وتحديدًا “الأميكدالا” (Amygdala)، المسؤولة عن إطلاق استجابات الخوف والتهديد، حتى في البيئات غير المهدِّدة جسديًا. عند لحظات الانقسام الحاد، تعمل “الأميكدالا” على تعطيل نشاط القشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal Cortex)، المسؤولة عن التفكير التحليلي وصنع القرار المتزن. النتيجة أن الأفراد، بمن فيهم النخب، يتصرفون بآليات “القتال أو الهرب” (Fight-or-Flight) في فضاء النقاش العام، وكأنهم في مواجهة ميدانية حقيقية، لا في حوار سياسي أو ثقافي.
هنا يبرز تشبيه يمكن استعارته من كتاب “البجعة السوداء” لنسيم نيقولا طالب، حين يتحدث عن النخب الاقتصادية التي تشغل مواقع استشارية في أكبر المصارف العالمية، ومع ذلك تجرّ مؤسساتها إلى الخسائر، برغم امتلاكها الأدوات النظرية اللازمة للتنبؤ بالأزمات وتجنّبها. الفارق أن هذه النخب تمتلك “واجهة نخبوية” لكن بعقول “غوريلات” تتحرك بغريزة الصراع لا بحسّ الرؤية الاستراتيجية، حيث تحكمها لحظة “الأميكدالا”، لا بصيرة القشرة الدماغية.