

في مثل هذا اليوم (17 أيلول/ سبتمبر) قبل سنة، لم يكد ينطوي ذلك المساء، حتى كانت الآلاف من أجهزة “البيجرز” تنفجر أمام عيون حامليها وبين أيديهم، في معظم المناطق اللبنانية ولا سيما ضاحيةً وجنوباً وبقاعاً، وفي اليوم التالي، تم تفجير مئات أجهزة اللاسلكي (توكي ووكي) وأظهرت حصيلة هذين اليومين الدمويين سقوط عشرات الشهداء وأكثر من أربعة آلاف جريح، بينهم أغلبية من النساء والأطفال والعاملين في الجسم المدني لحزب الله، بالإضافة إلى مئات المقاومين.
أتت هذه العملية ضمن سياق حساب مفتوح مع العدو منذ عقود من الزمن، تخللته انجازات للمقاومة، يحاول هذا النص تسليط الضوء عليها.
أولاً؛ لا بد من الاعتراف أن عملية “البيجرز” إنجاز أمني للعدو لا يُستهان به، وذلك في سياق حرب الأدمغة بين المقاومة والعدو الإسرائيلي والتي أبدع فيها المقاومون طوال عقود من الزمن، كانت فصولها تتكامل مع حرب المعادلات النفسية التي كان يرسم خيوطها وفصولها شهيدنا الأقدس الشهيد القائد السيد حسن نصرالله
ولعل أبرز انجازات المقاومة في إدارة “حرب الأدمغة” ما يُعرف بكمين أنصارية في الخامس من أيلول/سبتمبر ١٩٩٧ والذي أسمته المقاومة بكمين “كف العبّاس”، عندما لعبت المقاومة بعقول كبار ضباط المؤسستين الأمنية والعسكرية بعد تخطيط لا يقل ذكاءً عن عملية “البيجرز” حينما تم استدراج وحدة الكوماندوس البحري “شييطيت ١٣” إلى شاطئ بلدة أنصارية جنوب صيدا بعد متابعة دقيقة استمرت عدة أشهر تمكنت خلالها المقاومة من اختراق التكنولوجيا والتقنيات الإسرائيلية، لحظة بلحظة وخطوة بخطوة، وكانت مجموعة الكوماندوس بكاملها تحت أعين المقاومين منذ اللحظة الأولى وصولاً إلى نقطة المكمن الذي خطّطت له المقاومة بدقة وحرفية حتى استطاعت القضاء على جميع أفراد المجموعة الخاصة، ما تسبب بأزمة داخلية في الكيان العبري.
ثانياً؛ ثمة عملية أمنية معقدة استدرجت خلالها المقاومة العقيد الصهيوني الحنان تننباوم وهو في كامل وعيه وذلك في العام ٢٠٠٠ بعدما عملت المقاومة لأشهر عديدة لتحقيق مرادها من العملية حيث أطلقت سراح أكثر من أربعمائة أسير من سجون العدو وكان أبرزهم الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج أبو علي مصطفى الديراني.
وقد شاهد العالم كله من خلال الفضائيات ووسائل الإعلام عملية تبادل العقيد تننباوم ومعه أشلاء ٣ جنود كانوا قد قتلوا في عملية الأسر التي نفذها المقاومون في العام ٢٠٠٠ قرب بوابة مزارع شبعا.
ثالثاً؛ وفي سياق “حرب الأدمغة” وكذلك الحرب النفسية والإعلامية، اقتحمت المقاومة موقع الدبشة في التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر من العام ١٩٩٤، وهو أحد أكبر مواقع الإحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني وتبلغ مساحته ستة آلاف متر مربع وكان محصناً بطريقة استثنائية ومزوداً بأهم الأسلحة ورادارات المراقبة الحديثة. برغم كل هذه الإجراءات تمكنت المقاومة من رفع رايتها على ساتره الترابي وغنم المقاومون يومها عدداً من الأسلحة والذخائر.
وحاول العدو التقليل من أهمية العملية عبر وسائله الإعلامية، كالقول إن حامية الموقع تعرضت للنيران قبل أن تجبر عناصر حزب الله على التراجع. وظلّ العدو الإسرائيلي يكذب في بياناته حتى وقت متأخر ليلاً، إلى أن نشرت المقاومة شريط فيديو للعملية تظهر كيف وصل المقاومون إلى الموقع ورفعوا راية المقاومة على دشم الحماية وأصبحت صورة شك العلم في الدبشة أيقونة الإعلام الحربي في تلك المرحلة.
رابعاً؛ نفذت المقاومة عدداً من العمليات النوعية كان عنصر “حرب الأدمغة” عاملاً حاسماً واستثنائياً فيها، الأمر الذي سبّب رعباً لقادة الكيان ومن أبرز هذه العمليات عملية اغتيال العميل عقل هاشم في ٣٠ كانون الثاني/يناير ١٩٩٩ في عقر داره في بلدة دبل الحدودية وأيضاً هناك عملية إغتيال قائد وحدة الاتصال في لبنان الجنرال إيريز غيرشتاين في ٢٨ شباط/فبراير ٢٠٠٠ وكان معروفاً بدهائه واجراءاته الأمنية التي تمكنت المقاومة يومها من اختراقها رصداً ومتابعة فائقة الدقة، ما سرّع الانسحاب الإسرائيلي المذل في ٢٥ أيار/مايو ٢٠٠٠.
خامساً؛ من عملية الإستشهادي أحمد قصير ضد مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في خريف العام 1982، إلى الإستشهادي عمار حمود (كاظم) قبل نهاية العام 1999، شريط من الإستشهاديين الذين استطاعت المقاومة تأمين عبورهم من المناطق المحررة إلى المناطق المحتلة.. وأحياناً عبر حواجز الإحتلال.. وفي ذلك خرق أمني لا مثيل له.
هل كان مُستغرباً أن ينتقم العدو من المقاومة في السابع عشر من أيلول/سبتمبر 2024، من خلال عملية تفجير “البيجرز”؟
إنها حرب الأدمغة ولو أن العالم كان شاهداً كيف كانت المقاومة لا تقترب من الأهداف المدنية، على عكس ما فعلت إسرائيل، عندما قررت أن تستهدف بواسطة جهاز نداء إنساني يستخدم بشكل أساسي في المستشفيات، آلاف المواطنين ومعظمهم من الأبرياء، وهذه يصح القول فيها بأنها حرب غير إنسانية”، وهذا دليل آخر على كيفية هروب العدو من المواجهة الميدانية المباشرة مع المقاومين ولعل “كف العباس” في أنصارية ما زال يؤلم وجوه قادة الاحتلال حتى يومنا هذا.