لو احتكمنا إلى النوايا، ثمة استعجال أميركي بالإنتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بما يشمل إنشاء “مجلس السلام العالمي” و لجنة تكنوقراط فلسطينية لإدارة القطاع والبدء بورشة إعادة الإعمار وإرسال قوة الاستقرار الدولي التي أنشئت بموجب قرار مجلس الأمن رقم ٢٨٠٣ الذي صدر في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، فضلاً عن مهمات أخرى نصّت عليها المرحلة الثانية، مثل البدء بنزع السلاح وتدمير الأنفاق والابقاء فقط على نحو 20% من القطاع تحت الاحتلال (أي الانسحاب حتى “الخط الأحمر”).
هذه النية الأميركية بالإنتقال نحو المرحلة الثانية تم التعبير عنها في الإجتماعات التي شهدتها الدوحة قبل أسبوعين، وشاركت فيها مجموعة من الدول، فيما قررت 17 دولة آسيوية وأوروبية عدم تلبية الدعوة، من دون تحديد الأسباب ما عدا إيطاليا وأندونيسيا؛ الدولتان اللتان اشترطتا نزع سلاح حركة حماس تمهيداً لانضمامهما إلى قوة الإستقرار الدولية، وأمكن القول إن محصلة الإجتماع كانت صفرية، واستدعت عقد اجتماع في مدينة ميامي الأميركية بين مسؤولين أميركيين وقطريين وأتراك ومصريين، ناقشوا أفكاراً محددة وأصدورا بياناً جددوا فيه دعمهم لتشكيل مجلس السلام وقوة الإستقرار، ورأوا أن المرحلة الأولى سجلت تقدماً ملحوظاً، تمثل في توسيع المساعدات الإنسانية، وعودة جثامين الرهائن الإسرائيليين (بقيت هناك جثة واحدة حتى الآن لمستوطن يدعى ران غفيلي)، وتنفيذ انسحاب جزئي للجيش الإسرائيلي وتراجع مستوى الأعمال القتالية داخل القطاع، وشددوا على أهمية تمكين هيئة حكم في غزة تعمل ضمن سلطة غزة الموحدة، لضمان حماية المدنيين والحفاظ على النظام العام، باعتبار ذلك ركنا أساسيا في ترتيبات المرحلة الثانية.
أما تل أبيب فإنها تُقدّم الدليل تلو الدليل بشأن نية استئناف الحرب والانقلاب على المرحلة الأولى، بذريعة أولوية نزع سلاح حماس وجعل القطاع منطقة منزوعة السلاح، فيما كان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو يتهم حركة حماس بخرق الإتفاق، خلافاً للوقائع وأبرزها استمرار الحصار واستشهاد أكثر من 410 مواطنين، وإصابة أكثر من ألف آخرين بجراح، إلى جانب عشرات حالات الاعتقال حتى الآن.
ومنذ اللحظة التي أعلن فيها دونالد ترامب خطته للسلام في غزة، بدا وكأنه يحاول هندسة نتائج الحرب وفقاً لأولويات إدارته لا وفقاً لرغبات تلّ أبيب. وفي هذا السياق، استغل نتنياهو غضّ الطرف الأميركي عن ملف غزة وانشغال الادارة الأميركية بقضايا أخرى كالنزاع الروسي – الأوكراني، كي يُكمل حربه المتقطعة على القطاع، قتلاً وتدميراً وحصاراً للمساعدات. وليس تفصيلاً في هذا السياق ما كشفته صحيفة “الغارديان” البريطانية مؤخراً من أن فريقاً إسرائيلياً يقوم بالتجسس على ما يقوم به الأميركيون المتواجدون في مركز التنسيق المدني – العسكري، الذي شيّد في جنوب فلسطين المحتلة (كريات غات)، ما يعكس اهتزازاً في الثقة بين الطرفين.
بالنسبة للمرحلة الثانية من خطة ترامب، فإنّ اشكاليات عديدة لا تزال تحيط بقوة الاستقرار الدولي وهياكل مجلس السلام وعملية إعادة الإعمار.
في الملف الأول، يبرز تردد من قبل قوى إقليمية ودولية كانت قد أبدت رغبتها سابقاً في المشاركة في عداد هذه القوة المزمع تشكيلها. الأطراف العربية والإسلامية تخشى بحال مشاركة قواتها في هذه القوة الأمنية، أن تصطدم بحركة حماس وهو أمر بالتأكيد لا ترغبه هذه الدول ولا المقاومة الفلسطينية. إضافةً إلى ذلك، ثمة دول عربية وإسلامية تريد وضع قواعد اشتباك واضحة لهذه القوة يحدّد مهامها ونطاق عملها. وفي جانب آخر لا يقل أهمية، ما تزال تلّ أبيب ترفض مشاركة تركيا في عداد هذه القوة خشية من تزايد نفوذ أنقرة. بالنسبة للجانب الإسرائيلي، فإنّ أنقرة باتت لاعباً سياسياً أساسياً في سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد وتنصيب أحمد الشرع رئيساً، وهي لا تريد بالطبع رؤية النفوذ التركي يزداد في مناطق أخرى كقطاع غزة.
في الملف الثاني، كان لافتاً للانتباه ما تحدثت عنه صحيفة “الفايننشال تايمز” من أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، أسقط من قائمة الأشخاص المحتملين لترؤس هذا المجلس بسبب دوره في حرب العراق وغرقه في وحولها. وتوازياً مع هذا الأمر، كان ترامب قد أعلن أنّ أسماء أعضاء المجلس، سيعلن عنهم مطلع العام المقبل.
في الملف الثالث، لم يُعرف لماذا أجلّت القاهرة مؤتمراً دولياً كان مفترض أن تستضيفه خلال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي للبحث في آليات إعادة إعمار القطاع. والأسباب هنا قد تكون عديدة: عدم اكتمال التجهيزات اللوجستية للمؤتمر؛ غياب رؤية واضحة للأطراف المعنية بكيفية السير بهذا الملف الشائك؛ تجميد أميركا هذا الملف لحين اكتمال ظروف المرحلة الثانية كون الولايات المتحدة وعلى رأسها ترمب أبدت حماسة لمشروع “ريفييرا غزة”؛ حذر الدول وخوفها من عودة الحرب وبالتالي تهديد استثماراتها إلخ.. وكان لافتاً للانتباه أن نقرأ في صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن الادارة الأميركية طلبت من إسرائيل تحمّل تكاليف إزالة الأنقاض في القطاع. وبغض النظر عن مدى صحة هذا الأمر، فإن الأنقاض الموجودة في غزة تشكّل عائقاً أساسياً قبل الشروع في عملية إعادة الإعمار إذ قدرت صحيفة “وول ستريت جورنال” كلفتها بنحو ٦٨ مليون طنّاً.
وفي السياق نفسه، أوردت وكالة “بلومبرغ” نقلاً عن مصادر مطلعة أن مؤتمر إعمار غزة “لن يُعقد على الأرجح إلا بعد أن يستكمل المسؤولون تشكيل “مجلس السلام” بقيادة ترامب، والمقرر أن يشرف على الحكومة الانتقالية”، وأشارت إلى احتمال عقده في واشنطن، ولم تستبعد أن تكون القاهرة من بين الأماكن المرشحة لاستضافة المؤتمر.
إذاً، يتضحّ أنّ الادارة الأميركية ليست فقط مستعجلة للإنتقال إلى المرحلة الثانية، بل تملك ملامح تفصيلية حول الخطوات الواجب اتخاذها. ولكنها لا تريد مشاركتها مع تلّ أبيب خوفاً من ردّة فعل نتنياهو إذ أنّه سيعمد على الأرجح إلى عرقلتها وبخاصةً أن الأخير لا يرغب بالظهور بمظهر المطيع لأوامر واشنطن وهو يعتقد فعلاً أن لديه هوامش سياسية يستطيع أن يفرضها على الإيقاع الأميركي. ولعلّ هذا السبب هو الأساس لتوجيه الدعوة إلى نتنياهو للقاء يُعقد مع ترامب في ٢٩ كانون الأول/ديسمبر المقبل في البيت الأبيض سيُخصّص الجزء الأكبر من جدول أعماله لبحث ترتيبات المرحلة الثانية من اتفاق غزة. بناءّ عليه، فإنّه من الضروري رصد نتائج هذا اللقاء ومخرجاته ليس لمعرفة تطورات الأوضاع في غزة فحسب، بل تأثيراته المحتملة على مجمل الإقليم، وبخاصة في ضوء التصعيد الإسرائيلي المفتوح والمتمادي في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان والتلويح مجدداً بشن جولة عسكرية جديدة ضد إيران وعدم توقف التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية.
