نُردّد مع درويش “وطني ليس حقيبة”!

كنا نردد من بعض محمود درويش الكثير، كنا ننبهر من كم المعانى فى الكلمات البسيطة وكنا نحفظ شعره وندس كتبه بين كتب المقررات، كما وردة الحب بين صفحات الكتب.

كنا فى تلك المكتبات نصاب بنشوة لا تشبهها نشوة عند رؤية كتبه بين كم الدواوين الشعرية العالمية.. أحيانا يكون صوتنا وكثيرا ما يكون ذاك النداء للاستيقاظ من السبات الذى طال ربما!
عندما قال فى «يوميات جرح فلسطينى» وأهداها إلى فدوى طوقان:
نحن فى حل من التذكار
فالكرمل فينا
وعلى أهدابنا عشب الجليل
لا تقولى: ليتنا نركض كالنهر إليها،
لا تقولى!
نحن فى لحم بلادى.. وهى فينا!
آه يا جرحي المكابر
وطنى ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إننى العاشق والأرض حبيبة.

***

سرحنا بعيدا ونحن نرفع شعارات الدفاع عن الوطن وحلمنا كثيرا بأوطان لا يسكنها العسس ولا تكون سجونها أكثر من عدد مدارسها ومستوصفاتها ومسارحها وفرقها الموسيقية وقاعات الفنون وفضاءات مفتوحة للإبداع بكل ما تعنيه الكلمة.

***

ورددنا مع درويش عندما ضاقت ببعضنا الأوطان أو لفظت بعضنا أو طاردتهم حتى ضاقت الأرض الواسعة ولم يكن هناك مفر إلا الرحيل، رددنا معه «وطنى ليس حقيبة وأنت لست مسافر».

***

مات درويش بعدها وبقيت أشعاره ودواوينه أقوى منهم. ممن سرقوا الوطن وبقيت قصائده وكلماته تضج مضاجعهم رغم كل ما يبرز اليوم من تصور بأنهم انتصروا وأنهم دخلوا مدن العرب رافعى رايات النصر المزيفة.. بقى هو وكل حرف نقشه يطاردهم فى أكثر ساعات الانتصارات المزيفة.

***

وبقينا نحن نردد «وطنى ليس حقيبة وأنا لست مسافر» حتى أصبحنا نحن من يبحث عن وطن فى تفاصيل تزداد بعدا عن تلك الصورة التى كان عليها، كلما اقتربت منه كلما بعد هو عنك أو عن تلك الصورة التى كان عليها الوطن بكثير من بساطته وتراب أرضه وأزقته وحواريه وشوارعه الضيقة بعيدا عن الاوتوسترادات التى غزته الآن كالأخطبوط الذى يخنق صاحبه!

***

كلما وضحت صورة وطن درويش لنا ولكل البشر، كلما خفتت صورة وطننا نحن أو ذاك الذى كنا نعرف ونحب بل نهوى حتى العشق.. ذاك الذى عندما ينطق أحدهم باسمه تدمع العين شوقا له.. ذاك الذى قالوا عنه وتغزلوا ببحره ونخله وناسه الطيبين.

***

كم تشتت العرب فى بقاع الأرض وكلهم يبحث عن وطن عندما لفظت الأوطان أبناءها إلا بعضهم ووضعت لوائح خاصة لتوصيف المواطن الحق رغم أن تعبير المواطنة نفسه لا مفهوم له فى أوطاننا سوى «الولاء» والطاعة.

***

كثيرون هربوا من البطش وآخرون من الجوع وبعضهم من قلة الحيلة والعوز وهو ليس فى مجمله عوزا ماديا بل توقا لمساحة تحترم آدمية البشر فنحن فى أوطان تشبه أسواق النخاسة. المتجملة والحضارية جدا والمصطنعة أيضا.. أى عبيد بملابس أحرار.

***

وطنى ليس حقيبة قال ورددنا نحن حينها بكثير من القناعة حتى تحولت الحقيبة غصب عنا إلى وطن فيها بعض صور أو بقايا لحظات ماضية، وبعض جمال، وكثير من المحبة المخزنة فى تفاصيل أشيائنا الصغيرة التى نمسك بها وكأنها الأمل الوحيد الباقى.

***

وأكمل.. وأنا لست مسافر.. صحيح يا درويش ما قلت أنت لست مسافر بل أنت ابن فلسطين وطنك التى لن تكون حقيبة أبدا بل أجمل الأوطان وأكثرها حضورا.. فيما بقينا نحن ربما يطلق علينا أتباعك كما أتباع الطرق الصوفية، بقينا نردد «وأنا لست مسافر» «وأنا لست مسافر» فى محاولة لإقناع الدماغ أو القلب بأننا عائدون إلى أوطان تشبهنا أو أوطان كنا نعرفها وكنا نحبها حد العشق وحد التضحية بكل شىء من أجلها.. يأتيك صوت من بعيد ولكنه الوطن وهو ليس ملكا لهم أو أى أحد. إنه ملكك أنت وأنا ونحن جميعا.. إنه وطننا بل هى أوطاننا كلنا نحن العرب المنتشرين فى بقاع الأرض الباحثين عن مساحات لا تخنق فيها الكلمة ولا تكتم فيها الأصوات ولا تخاف عندما تجتمع بأكثر من خمسة من أصدقائك ولا تبعدون الهواتف عن مكان لقائكم لأن العسس لا يتوقف عن تسجيل كل كلمة بل كل حرف وكل لفتة أو تعبير وكل نفس.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  شمال شرق سوريا بين فكي الحصار.. وداعش!
خولة مطر

كاتبة من البحرين

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أية تداعيات إستراتيجية ستترتب على الرد الإيراني.. الحتمي؟