مستقبل النظام العالميّ.. بين صراع النماذج والتّعايش التّنافسيّ

يشهد النّظام الدوليّ تحوّلاتٍ عميقةٍ في العقدين الأخيرين، حيث يتراجع تدريجيّاً نموذج الهيمنة الأحاديّة الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة، لمصلحة مشهدٍ أكثر تعقيداً وتداخلاً، تتصارع فيه النّماذج وتتعايش في آنٍ واحد. هذا التّحوّل يثير تساؤلاتٍ جوهرية، هل يقود إلى صراعٍ مفتوحٍ بين النّماذج المتنافسة على قيادة النّظام العالميّ، أم إلى شكلٍ من التّعايش التّنافسيّ (Competitive Coexistence) الذي يسمح بإدارة الاختلافات دون الانزلاق إلى مواجهةٍ شاملة؟ وهل تستطيع الدّول صياغة أشكالٍ جديدةٍ من التّعاون متعدّد الأطراف تراعي الخصوصيّات الوطنيّة ولا تتخلّى عن المكاسب الجماعيّة؟ إنّ الإجابة عن هذه التّساؤلات ستحدّد ملامح الثلثين المتبقيين من القرن الحادي والعشرين، حيث بات من الواضح أنّنا ندخل حقبة "التّعدّدية القسريّة" و"التّحالفات المرنة" بدل القطبيّة الأحاديّة.

من منظورٍ تاريخيّ، تعكس المرحلة الحاليّة لحظات انتقالٍ سابقةً مثل تراجع الإمبراطوريّات الأوروبيّة أو نهاية الحرب الباردة، غير أنّ الفارق الأساسيّ اليوم هو درجة التّرابط غير المسبوقة بين الاقتصادات والمجتمعات عبر سلاسل التّوريد والتكنولوجيا والاتصال. هذا التّرابط يجعل تكلفة الصّراع الشّامل باهظةً للغاية، لكنه يتيح في الوقت نفسه استخدام الاقتصاد والتكنولوجيا كسلاحٍ للضّغط والنّفوذ. دراساتٌ مثل مشروع دراسة مؤسّسة كارنيغي حول «التّعايش الواقعيّ» تشير إلى أنّ الانتقال من القطبيّة الأحاديّة إلى التعدّدية لا يعني بالضّرورة الحرب، بل قد يقود إلى أنماطٍ هجينةٍ من التّعاون والتّنافس.

الاقتصاد وسلاسل التّوريد

الاقتصاد العالميّ يشكّل ساحةً محوريّةً لهذا التّداخل. فمن جهةٍ، تدفع المخاوف الأمنيّة والتكنولوجيّة بعض القوى الكبرى إلى إعادة هيكلة سلاسل التّوريد عبر سياسات “إعادة التّوطين” أو “فك الارتباط الانتقائيّ” في قطاعاتٍ حسّاسةٍ مثل أشباه الموصلات والطاقة. ومن جهةٍ أخرى، يبقى الانفصال الكامل غير عمليٍّ بسبب التّشابك العميق في الأسواق العالميّة. تقارير OECD تحذّر من أنّ إعادة تشكيل سلاسل التّوريد بشكلٍ عدائيٍّ قد يكلّف الاقتصاد العالميّ خسائر كبيرة في النموّ، وهو ما يجعل خيار التنويع (friend-shoring) أكثر واقعيّة. في هذا السياق، يمكن القول إنّ الاقتصاد سيدفع باتجاه التّعايش التنافسيّ لأنّه يمنح كلّ طرفٍ حوافز للبقاء داخل المنظومة العالميّة ولو بشروطٍ جديدة.

التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ

التكنولوجيا تمثل ساحةً أخرى يتجلّى فيها التّنافس الحادّ إلى جانب الحاجة للتّعاون. فالسّيطرة على البنى التّحتيّة التّقنيّة والبيانات تمنح تفوقاً اقتصاديّاً وأمنيّاً هائلاً. لكن في الوقت نفسه، غياب قواعد مشتركةٍ لحوكمة هذه التّقنيّات يضاعف من المخاطر، سواءٌ تعلّق الأمر بالّذكاء الاصطناعيّ أو الأمن السيبرانيّ. لذلك ظهرت مبادراتٌ مثل مبادئ الذّكاء الاصطناعيّ في OECD وإعلان هيروشيما لمجموعة السّبع حول AI كمحاولاتٍ لوضع قواعد مشتركةٍ حتى في ظلّ التّنافس. هذه الأمثلة تعكس إمكان نجاح أشكالٍ جديدةٍ من التّعاون متعدّد الأطراف إذا ارتبطت بمجالاتٍ محدّدةٍ وقابلةٍ للقياس.

إذا نجحت القوى الكبرى والدول المتوسّطة والمؤسّسات الدّوليّة في تطوير أشكال تعاونٍ متعدّدة الأطراف أكثر مرونةً، فقد يتحوّل القرن الـ21 إلى قرن “التعدّدية العمليّة” التي تدير التّنافس دون أن تنزلق إلى الصّراع. أما الفشل في ذلك، فقد يقود إلى انقسامٍ حادٍّ يهدّد استقرار النّظام الدّوليّ لعقودٍ مقبلة

الأمن والجغرافيا السّياسيّة

الأمن الدّوليّ يظل البُعد الأكثر حساسيةً في مسار التّعايش التّنافسيّ. مناطق مثل أوكرانيا وتايوان وبحر الصّين الجنوبيّ تمثل بؤراً محتملةً لتصعيدٍ عسكريٍّ واسع. ومع ذلك، فإن بناء تحالفاتٍ مرنةٍ مثل التّحالف الرباعيّ (Quad) أو التّعاون الأوروبيّ-الأميركيّ في إطار الناتو يعكس إدراكاً متزايداً لأهمّيّة إدارة الأزمات عبر قنواتٍ دبلوماسيّةٍ وأمنيّةٍ. أبحاث Brookings Institution تؤكّد أنّ التّعايش التّنافسيّ يظلّ السيناريو الأكثر ترجيحاً في ظل الكلفة الباهظة لأيّ مواجهةٍ شاملةٍ، خصوصاً مع امتلاك القوى الكبرى ترساناتٍ نوويةً تجعل الصّراع المباشر خياراً كارثياً للجميع.

القضايا المشتركة

على الرّغم من التّوتّرات، توجد قضايا عالميّةٌ لا يمكن التّعامل معها إلا عبر تعاونٍ عابرٍ للحدود مثل التّغيّر المناخيّ والأمن الصّحّيّ العالميّ. مبادراتٌ مثل تحالف الطّاقة النّظيفة أو اتّفاقيات المناخ المتعدّدة تُمثل مساحاتٍ يمكن أن تُبنى عليها أشكالٌ جديدةٌ من “التّعدّدية المتجدّدة” (plurilateralism)، حيث تعمل مجموعاتٌ من الدّول على قضايا محدّدة بعيداً عن البحث عن إجماعٍ عالميٍّ شامل. نجاح هذه المبادرات يعكس قدرة المجتمع الدّولي على الفصل بين التّنافس في مجالاتٍ معيّنة والتعاون في قضايا أخرى.

السيناريوهات المحتملة

يمكن رسم أربعة سيناريوهات لمستقبل النّظام العالميّ:

  1. التّعايش التنافسي المُدار (الأكثر ترجيحاً): حيث تستمر المنافسة الحادّة مع بناءٍ قواعد جزئيّةٍ للتّعاون في قضايا محدّدة.
  2. الانقسام المُحكَم (Cold Decoupling): يؤدّي إلى انقسام العالم إلى منظومتين اقتصاديتين وتقنيتين متوازيتين، وهو سيناريو مكلف اقتصاديّاً كما حذرت تقارير OECD.
  3. صعود أقطابٍ إقليميّةٍ: تبرز قوى متوسّطة كالهند والبرازيل والاتّحاد الأوروبيّ كأقطابٍ إقليميّةٍ قويّةٍ تتعاون قطاعياً فيما بينها، ما يعزّز “التّعدّدية القسريّة”.
  4. تصعيدٌ مسلّحٌ واسعٌ: نتيجة فشل آليات إدارة الأزمات في نقاطٍ حسّاسةٍ مثل تايوان أو أوكرانيا، وهو سيناريو أقلّ ترجيحاً لكنه يظلّ قائماً.

دراسة معهد السلام الدولي حول “مؤشّر التعدّدية” تشير إلى أنّ المؤشّرات الحاليّة ما زالت تميل إلى السيناريو الأوّل مع وجود مخاطر واقعيّةٍ من السيناريوهين الثاني والرّابع.

شروط نجاح التعدّدية الجديدة

نجاح التعدّدية الجديدة يتوقّف على توفّر عدّة عوامل، أوّلها، وجود منافع ملموسةٍ يمكن قياسها كما في اتّفاقيّات الكربون أو التّحالفات المناخيّة. ثانيها، مشاركةٌ فاعلةٌ للدّول المتوسّطة والصّغيرة في صنع القواعد بما يعزّز الشّرعية الدّوليّة. وثالثها، بناء أطرٍ معياريّةٍ قابلةٍ للتّبني بسرعةٍ مثل المبادئ التي وضعتها UNESCO وOECD للذكاء الاصطناعيّ. لكنّ الفشل محتملٌ إذا غلبت النّزعات القوميّة الحمائيّة أو احتكرت قلّة من الدّول والشّركات الكبرى مفاصل التّكنولوجيا، وهو ما يضعف الثقة بالنّظام المتعدّد الأطراف.

إقرأ على موقع 180  "زوبعة نانسي".. ومراهقة «ديبلوماسية المواجهة»!

التّوصيات العمليّة

يمكن تلخيص التّوصيات على ثلاثة مستوياتٍ:

  • القوى الكبرى (أميركا، الصين، أوروبا): التّفاوض على قواعد واضحةٍ للقطاعات الحسّاسة مثل أشباه الموصلات والأمن السّيبرانيّ بدلاً من الصّراع المفتوح.
  • الدّول المتوسّطة والصّغيرة: الدّخول في تحالفاتٍ قطاعيّةٍ مرنةٍ تضمن مصالحها مثل تحالفات الطّاقة النّظيفة أو معايير الذّكاء الاصطناعيّ.
  • المؤسّسات الدّوليّة: تبنّي نهج “التّحالفات المرنة” (coalitions of the willing) بدلاً من البحث عن إجماعٍ شاملٍ يصعب تحقيقه، كما تقترح تقارير Brookings.

الخاتمة

من الواضح أنّ النّظام العالميّ في العقود المقبلة لن يتّسم بهيمنة نموذجٍ واحدٍ كما في الماضي، بل سيجمع بين صراع النّماذج والتّعايش التّنافسيّ. الخيار بين الانحدار إلى صدامٍ مكلفٍ أو بناء تعدّديةٍ مرنةٍ تعكس خصوصيّات الدّول وتحقّق مصالح جماعيّةً سيعتمد على مدى قدرة اللاعبين على الابتكار المؤسّسي وصياغة قواعد جديدةٍ للّعبة الدوليّة. وإذا نجحت القوى الكبرى والدول المتوسّطة والمؤسّسات الدّوليّة في تطوير أشكال تعاونٍ متعدّدة الأطراف أكثر مرونةً، فقد يتحوّل القرن الـ21 إلى قرن “التعدّدية العمليّة” التي تدير التّنافس دون أن تنزلق إلى الصّراع. أما الفشل في ذلك، فقد يقود إلى انقسامٍ حادٍّ يهدّد استقرار النّظام الدّوليّ لعقودٍ مقبلة.

(*) راجع المقالة السابقة بعنوان: أزمة العولمة ومستقبل العالم الجديد.. عودة الدولة الوطنية؟

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  مصر في عين العاصفة..ما الذي يُخطّطهُ الصهاينة لها؟