طلال سلمان من بيروت إلى الكويت… وبالعكس

ليست هذه الصفحات سيرة حياة، وإن كانت بعضها. كذلك، هي لا تطمح لأن تكون تأريخاً للصحافة في لبنان، وإن كانت تصبّ في سياقها العام. إنها بعضٌ من حكاية فتى لم يكن يملك أن يختار قدره، لكنه استطاع أن يصمد في امتحان الجدارة. هي خطوات على الطريق إلى الصحافة التي تكون شهادة للوطن بقدر ما تكون شهادة على نظامه الفاسد المُفسد.

وعندما استعدت حريتي اكتشفت أنني فقدت عملي.

وهكذا ارتضيت ان أرتحل الى جنة الكويت حيث كانت السيادة للطوز خلال نصف سنة، وللحر القاتل خلال النصف الثاني، ولم تكن الثروة النفطية قد حولتها الى جنة مبردة بعد. وكان علي أن أعمل والفريق الذي صحبته ليلاً ونهاراً كي نصدر أول مجلة سياسية، بغلاف ملون، في الكويت في عيد الجلوس الواقع فيه 25 شباط/فبراير 1963، وكانت بعنوان «دنيا العروبة» لصاحبها مؤسس الصحافة في الكويت الراحل عبد العزيز المساعيد. وغني عن البيان أن مجلة بهذا الاسم يستحيل صدورها الآن، حتى كنشرة سرية.

عدنا والعود أحمد، بدليل أنني اضطررت إلى استخراج جواز سفر بدلاً من ضائع، واستدانة ثمن تذكرة السفر. لكن فرحي كان عظيماً: لقد تحررت من كلمة «لو»… لو أنني سافرت إلى الخليج لكنت؛ لو أنني قبلت المغامرة لكنت قد ملأت أكياسي بالدنانير؛ لو، لو، لو.

عدت إلى الشياح، وكنت قد استأجرت شقة في عمارة محترمة في شارع أسعد الأسعد. وعين الرمانة في مواجهتنا تماماً، وبين عناوين جيراننا الأديب العالمي الذي كان «مجرد صحافي» مثلي، انما بالفرنسية، أمين معلوف.

ولقد بقيت فيه حتى انفجار الحرب الأهلية وتحول الشارع إلى جبهة.

عرفت بيروت من شرقها، ومن شمالها، ومن جنوبها، ومن قلبها، هي التي سكنت قلبي، قبل أن أستقر مع عائلتي، عائلتي الصغيرة وعائلة «السفير». أما جنة الغرب فلم اعرفها لأن علاقتي بالبحر نظرية، وكثيراً ما أنقذني بعض من أغواني بمصارعة الأمواج من الغرق تبرعاً

وكنت قد أصدرت «السفير» من شقة سكنية ارتضى صاحبها المغفور له الحاج عيسى مكي، أن يؤجرها لنا، وهي تقع ضمن بناية مكي في شارع منيمنة، نزلة السارولا، غير بعيد عن مقرها اليوم، فكان لزاماً علي ان أجد بيتاً قريباً منها، وهكذا سكنت مرة تحت البريستول، ومرة في مواجهة البريستول. أما الآن فأسكن عمارة أعلى من البريستول هي عمارة «ما شاء الله» في قريطم … ومن أسماها «ما شاء الله»، كان يعرف بالتأكيد أنني سأسكن فيها!

المشي فوق المتفجرات

هكذا تجدون أنني عرفت بيروت من شرقها، ومن شمالها، ومن جنوبها، ومن قلبها، هي التي سكنت قلبي، قبل أن أستقر مع عائلتي، عائلتي الصغيرة وعائلة «السفير». أما جنة الغرب فلم اعرفها لأن علاقتي بالبحر نظرية، وكثيراً ما أنقذني بعض من أغواني بمصارعة الأمواج من الغرق تبرعاً!

وها أنا ما زلت أمشي في شوارع بيروت التي أعطيتها قلبي وبعض دمي وكل أيامي، وأعطتني ما يفوق أحلامي عبر ناسها الذين احتضنوا «السفير» منذ صدورها في السادس والعشرين من آذار/مارس 1974، وعلى امتداد السنين الست والثلاثين الماضية بكل ما حفلت به من أحداث مصيرية، وحموها حين عطلها قرار جائر فتدفقوا الى مكاتبها ثم الى قصر العدل يدافعون عنها بوطنيتهم وباحترامهم تاريخها معهم، مقدّرين لها صمودها كعنوان لصمودهم في مختلف مراحل المقاومة، بدءاً من نهايات الستينيات، مروراً بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي صيف العام 1982 والمقاومة التي صدته تحت العنوان ـ الراية: «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء».

وبين الصفحات التي لا تطوى في تاريخ بيروت و«السفير»:

تفجير المطابع في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1980؛

محاولة نسف المنزل بسيارة مفخخة، ثم محاولة تدميره على رؤوس سكان البناية جميعاً بغير ذنب إلا جيرتنا في أوائل 1981؛

محاولة اغتيالي فجر يوم الرابع عشر من تموز/يوليو 1984، أمام باب منزلي بعد يوم طويل من التعب.

ولقد تعرض كثيرون مثلي، ومؤسسات عدة مثل «السفير»، للاعتداءات ومحاولات التغييب من دون ألم… لكن بيروت سرعان ما عوضت عليهم بروحها الوثابة وبقدرتها الهائلة على التجدد وبث الحياة في أهلها والعابرين فيها، من جديد.

لكن “عمر الشقي بقي”، كما يقول إخواننا المصريون. وهكذا قُيض لي أن أعيش وأن أتابع جهدي في «السفير» مع زملاء كبار، بعضهم من قضى نحبه وبعضهم من بقي وما بدل تبديلا، وبعضهم الثالث جاء إلينا ليكون في المقاومة المجاهدة من اجل التحرير والعزة والكرامة ومعها، فالصحافة رسالة أيضاً، وليست وريقات تتزاحم في أعمدتها التصريجات التي جلّها ثرثرات جنباً إلى جنب تهديدات العدو الإسرائيلي الناطق بالأميركية.

(*) يُنشر هذا النص لمناسة مرور الذكرى الثانية لرحيل صاحب “القلم الأخضر” الصحافي والكاتب العربي الكبير طلال سلمان.

(**) راجع الحلقة الأولى بعنوان: “هكذا دخلتُ إلى بيروت”

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  السعودية وسوريا.. وإيران مائدتهما!
طلال سلمان

رئيس تحرير جريدة السفير

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  السعودية وسوريا.. وإيران مائدتهما!