النّزول في دار كارل بوبر.. هل ينفع الفكر الإسلاميّ جذريّاً؟ (2/2)

ذكرنا في ما سبق أنّه مع الاقتراب من الأمثلة المتعلّقة بمعطيات ومواضيع ذات طابع أو أبعاد دينيّة أو مقدّسة (أو "اسلاميّة" بطبيعة الحال كما نعبّر في العادة).. تزداد أهميّة طرحنا بالنّسبة إلى الجانب الأيديولوجيّ كما رأينا، ولكن أيضاً - وحتّى - بالنّسبة إلى الجانب الأنطولوجيّ (أي الوجوديّ) نفسه وهذا ما يتخطّى الاطار الكانطيّ المعتاد.

سبق وذكرنا الجانب الأيديولوجيّ في القضيّة في المقالة الأولى على ما أعتقد. ومن الواضح عموماً أنّ الخطر يزداد في مواضيع كهذه في ما يعني امكانيّة اعتبار الباحث – ظاهراً أو باطناً، عن وعي أو عن غير وعي – أنّه يصل إلى “المفهوم” الصّحيح دينيّاً أو أيديولوجيّاً أو أخلاقيّاً أو ما إلى ذلك. وهذه مشكلة حقيقيّة في ما يعني الكثير من الدّراسات “الاسلاميّة” بشكل خاصّ.

أمّا الجانب الأنطولوجيّ، فإنّ خطورته تكمن في السّؤال التّالي بشكل رئيسيّ: خلف النّصوص الدّينيّة الطّابع، أو المقدّسة بشكل مباشر أو غير مباشر.. من قال إنّ هناك معانٍ ومقاصد أصلاً، لا سيّما معانٍ ومقاصد “مفاهيميّة” في ما يعني مواضيع وحقول بحث معيّنة؟ مثلاً، وللتّقريب أكثر: من قال إنّ خلف النّصوص الفقهيّة الاسلاميّة، بما فيها الأصول وأصول الأصول إن جاز التّعبير (مثل الكتاب والسّنّة).. معانٍ “إلهيّة” معيّنة، أو معانٍ محدّدة ويُمكن ترجمتها من خلال مفاهيم حديثة؟ أمّا الباحث الثّيولوجيّ الإسلاميّ كما يُقال، أو الدّارس ضمن الجامعات والحوزات التّقليديّة، فلا بدّ له – في المبدأ – أن يفترض أو يُسلّم بوجود هذه المعاني و/أو المقاصد. ولكنّ الباحث “العلميّ” بالمعنى الحديث لا يُمكنه ذلك أبداً ضمن جهده البحثيّ.

من هنا، يأخذ طرح “المفهوم الاسلاميّ” كما نعرضه.. كلّ معناه، ويظهر عمقه ونفعه بشكل أوضح فأوضح. فمن دون أخذ أيّ موقف أنطولوجيّ من هذا القبيل، لا سلباً ولا ايجاباً، يقبل باحثنا – ضمن أيّ إطار مؤسّساتيّ كان – بأنّ “المفهوم” الذي يبنيه هو مجرّد “أداة بحثيّة”. وهدف هذه الأخيرة هو، باختصار، تمكين الذّهن الانسانيّ من دراسة المعالم الأساسيّة للظّاهرة أو للمعنى المقصود أو الممكن، قبل مقارنتها بتصّورات وفرضيّات أخرى.. من دون نسيان أهمّيّة مقارنتها مع معطيات البحث نفسها بطبيعة الحال.

نعود مجدّداً، وبوضوح، إلى هذا التّفكير المنهجيّ ثلاثيّ الأبعاد. فبعد بناء التّصوّر أو المفهوم الأوّليّ إن صحّ التّعبير: (١) نعمّق دراستنا لمعالمه الأساسيّة، ونحاول نقدها داخليّاً؛ قبل أن (٢) نقابل هذه المعالم بمعالم تصوّرات أخرى موجودة أو متخيّلة؛ من دون نسيان أن (٣) نقابل هذه المعالم ذاتها مع معطيات الواقع (قدر المستطاع). وكما بدأنا بالذّكر، فلكلّ من (١) و(٢) و(٣)، بالإضافة إلى مرحلة بناء المفهوم نفسها.. تبعات ومعانٍ مفاهيميّة ونظريّة ممكنة.

وقد رأينا أهمّيّة هذه الطّريقة بوضوح، عندما عملنا مثلاً على نظريّة التّوزيع الثّانويّة – أي ما بعد الإنتاج – عند السّيّد محمّد باقر الصّدر ضمن كتابه الشّهير “اقتصادنا”[1]. ويُمكن للقارئ العزيز أن يفهم أهمّيّة طرحنا المنهجيّ والمعرفيّ معاً من خلال مقاربة الأسئلة التّالية المختصرة:

  • من قال لي، كباحث، إنّ هناك خلف هذه النّصوص الفقهيّة ذات الطّابع الدّينيّ، وحتّى خلف كتبها المقدّسة نفسها إن جاز التّعبير.. ما ينفعني في استقراء “مفاهيم” و”نظريّات” اقتصاديّة معاصرة؟ كذلك، مثلاً: من قال إنّ هناك “نظريّة” اسلاميّة في الاجتماع، عقلانيّة وربّما واقعيّة.. وموجودة خلف كلّ هذه النّصوص أصلاً؟
  • هل عليّ أن أفضّل مفهوماً ممكن البناء.. على آخر، وذلك من منطلق عقائديّ أو مذهبيّ أو أخلاقيّ؟
  • وهل هناك “مفهوم” اسلاميّ واحد يُمكن استقراؤه أصلاً بالنّسبة إلى هذا الموضوع أو ذاك؟ وماذا يعني وجود عدّة مفاهيم أو نظريّات “اسلاميّة” ممكنة؟ ألا يوصل ذلك إلى اشكاليّات كبيرة على المستوى الأنطولوجيّ ولكن أيضاً على المستوى الأبستمولوجيّ (أي المعرفيّ)؟
  • وماذا يعني وجود بعض الفروقات والتّباينات بين “المفهوم” الذي بنيته ابتداء.. وبين بعض معطيات هذا البحث (أي المعطيات المتواجدة في النّصوص الفقهيّة في أمثلتنا “الإسلاميّة” بالتّحديد)؟
  • وكيف نُفضّل مفهوماً ممكناً على مفهومٍ آخر ممكن، “أمبيريقيّاً” إن جاز التّعبير.. ومن دون الخروج عن الموضوعيّة إذن؟
  • وما هو بالمناسبة الدّور المفاهيميّ والنّظريّ الذي يُمكن أن تلعبه مقابلة هذه المفاهيم مع الواقع التّجريبيّ، أي مع أرض الواقع المعاصر هذه المرّة (أي الواقع الاقتصاديّ المعاصر في حالة نظريّة الصّدر المذكورة أعلاه مثلاً)؟
  • هذا وقد ذكرنا إلى الآن مثالاً قريباً من عالم المفاهيم والنّظريّات الاقتصاديّة، في ما يعني كتاب “اقتصادنا” خصوصاً.. فماذا عن المواضيع “الإسلاميّة” الأكثر حساسيّة، والتي سبق وذكرنا بعضها في ما سلف، مثل المواضيع المتعلّقة بصفات “الإله”، والمواضيع العقائديّة كافّة، والمواضيع التّاريخيّة المختلف عليها (إلى ما هنالك)؟ كيف يُمكن الدّخول إليها أو مقاربتها من خلال عقلنا الانسانيّ التّأويليّ.. من دون أن نغرق في شتّى أنواع الفخاخ الوجوديّة والمعرفيّة والمنهجيّة، ومن دون أن “نُكفّر” بعضنا بعضاً، دينيّاً أو معرفيّاً أو علميّاً؟ كيف؟

جميعها تساؤلات تزيد من قناعتي، وأرجو الأمر نفسه في ما يعني القارئ العزيز: أنّ خلاصة الحلّ أو المخرج الأنسب هي.. في قبول الباحث – ضمن اطار البحث أقلّه – بأنّه لا يُمكن له أن يصل إلى المعاني في ذواتها، وأنّ ما يُمكنه فعله من خلال ذهنه هو مجرّد “بناء مفاهيم” حولها، قبل العمل على تأييدها أو دحضها من خلال المقابلة مع مفاهيم أخرى، ومع الواقع المدروس نفسه. وفي ذلك طبعاً تحيّة مبطّنة كما بدأنا بالاشارة سابقاً: إلى شيخ نقديّ آخر، وهو شيخ العقلانيّة النّقديّة المعاصرة الأكبر، أي كارل بوبر (ت. ١٩٩٤ م)، أبي النّزعة الدّحضيّة (Falsificationnisme) وعَلَمِها الأخطر، والذي لا بدّ من العودة إلى زيارة داره بشكل أعمق.

إقرأ على موقع 180  كيف نقرأ نظريّة ابن خلدون اليوم؟

[1] راجع المصادر السّابقة باسمنا، بالإضافة إلى:

الصّدر، محمّد باقر، ١٩٨٧، اقتصادنا: دراسة موضوعيّة تتناول بالنّقد والبحث المذاهب الاقتصاديّة للماركسيّة والرّأسماليّة والإسلام في أسسها الفكريّة وتفاصيلها، بيروت: دار التّعارف للمطبوعات، الطبعة العشرون، 1408هـ/1987م.

(*) راجع الجزء الأول بعنوان: بناء “نظريّة إسلاميّة” معاصرة.. كيف يُصبح “علميّاً”؟ (1)

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الخيارات المعرفية النهائية: من كانط إلى فيبر وبوبر (4)