

في أجواء الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله والأمين العام الذي خلفه الشهيد السيد هاشم صفي الدين ورفاقهما الشهداء القادة، يتساءل كثيرون، أين ثأرهم؟
في الواقع، كلما نفَّذ العدو عملية اغتيال لأحد قادة المقاومة، تشرئب أعناق الجمهور لردٍّ سريعٍ يؤلم العدو – ليس جمهور خصوم المقاومة الباحث دومًا عن تسجيل النقاط لتثبيط العزائم.
لا شكّ أنّ قيام المقاومة بتصفية أحد قيادات العدو سوف يشفي غليل الجمهور، ولكن، هل هذا هو الرد المناسب؟ الإجابة تتطلب دراسة بنية الجانبين: بنية المقاومة وبنية العدو.
تختلف مكانة القادة لدى جمهور المقاومة بشكل كبير عنها لدى العدو. فالقادة في صفوف المقاومة يتمتعون بمنزلةٍ كبيرةٍ وارتباطٍ وثيقٍ بجمهورهم، على عكس القادة السياسيين والعسكريين لدى العدو الذين يتلاشى ذكرُهم بعد سنواتٍ قليلةٍ، ولا يحظَون بنفس المنزلة لدى عامة الشعب الذي يعتز بقوة “الدولة” و”المؤسسة العسكرية”.
وسواء اعتبرتْ هذا نقطة قوةٍ أو نقطة ضعفٍ لأحد الجانبين، يبقى هذا هو الواقع. فالبنية غير متماثلة؛ ولذلك، الرد المناسب إذًا على اغتيال القادة لا يستلزم التماثل.
لقياس الرد المماثل لعملية اغتيال عماد مغنية مثلا، يجب معرفة دوره لتحديد نظيره لدى العدو. عماد مغنية لم يكن فقط رئيس أركان المقاومة في لبنان في الفترة الماضية، بل كان رئيس أركانها “إلى الأبد”. هذه هي منزلته. إذن، لو أرادت المقاومة الرد بالتماثل، لكان عليها تصفية كل رئيس أركان يُعيَّنه الجيش الإسرائيلي إلى ما شاء الله!
قاسم سليماني مثلا كان قائد أركان محور المقاومة “إلى الأبد”. التماثل يقتضي أن يقوم المحور بتصفية كل قائد أركان للجيش الأميركي إلى ما شاء الله!
السيد حسن نصر الله الأمين العام “إلى الأبد”. التماثل يقتضي أن تقوم المقاومة بتصفية رؤساء حكومة العدو إلى ما شاء الله!
قد يُقال: “فليكن، فلتسعَ المقاومة لعمليات أمنية لتصفية قادة العدو”. طبعًا، متى استطاعت المقاومة تنفيذ مثل هكذا عملية، فمن المفيد جدًا القيام بها، مع الأخذ بالاعتبار الظروف المحيطة، إلا أن الرد المناسب يكمن في مكان آخر.
قيمة مقابل قامة

اغتيل عماد مغنية بعملية أمنية في دمشق عام 2008. ومغنية الذي كان العقل الأمني لحزب الله وقائد أركانه، كان أيضًا حلقة الوصل مع قادة المقاومة الفلسطينية وعُرف باسم “الحاج فلسطين”. الثأر له يتجسّد بإعادة تشكيل البنية الأمنية للحزب، واجتياز الحدود إلى فلسطين.
أمّا قاسم سليماني فقد اغتيل بغارة أميركية في بغداد مطلع العام 2020. كان سليماني قائد قوة القدس ومنسق محور المقاومة. فيكون الثأر له بإخراج القوات الأميركية من العراق وسوريا.
في السياق نفسه، لا يخفى على أحد أنّ السيد حسن نصرالله ويحيى السنوار قائدان اختصرا القضية الفلسطينية بشخصهما على طرفي الحدود اللبنانية-الفلسطينية في السنوات الأخيرة، فالسنوار، وهو اللاجئ المبعَد عن قريته، ثم المقاوم، ثم الأسير، ثم القائد، ثم المشتبك الذي أنهى حياته بالشهادة، هو التجسيد الأمثل للقضية الفلسطينية، هو فلسطين في رجل. والسيد حسن هو القائد الأممي الذي قدّم للأمة من البوسنة إلى أفغانستان، مرورًا بسوريا والعراق، وانطلاقًا من لبنان، ببوصلةٍ دالةٍ إلى فلسطين. أسّس نصرالله جيشًا من مئة ألف “غيفارا” يملأون العالم ضجيجًا كي لا ينام العالم بثقله على أجساد المستضعفين في فلسطين، وهو صاحب مقولة “لا يحق لأحد التنازل عن حبة تراب من تراب فلسطين، ولا عن حرف من اسم فلسطين”.
لا يجب أن يكون ثأر السيد حسن نصرالله ويحيى السنوار إذًا إلا بتحرير القدس. سيقول البعض، لحقدٍ أو ليأسٍ، إن هذا لن يكون، إلا أنّ النفوس المليئة بالثقة والإيمان تدرك أنّ التحرير حاصل، قد يحتاج لجيلٍ واحدٍ أو أكثر، وقد يكون أسرع من ذلك.
ويبقى ثأر جرحى أجهزة “البيجرز” واللاسلكي؛ التفجير الذي يُعد أكبر “ضربةٍ واحدةٍ” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا ليس ثأر حزب الله وحسب، بل ثأر أمة حزب الله.. ثأرٌ يكون بترميم البنية وتعديل الإجراءات والبروتوكولات الوقائية واستعادة الألق. أما ثأر المجتمع، فيكون بتحوله إلى “مجتمع حرب” حقيقي بعد أن كان بيئة حاضنة للمقاومة، وهذا بحثٌ لا بد من التوسع فيه.
ماذا بعد اغتيال القادة؟
لا شكّ أن المقاومة خسرت معظم قادتها التاريخيين في الحرب الأخيرة، من فؤاد شكر إلى إبراهيم عقيل والقائمة تطول، وكانت الخسارة الكبرى باستشهاد السيد حسن. إلا أن كامل قادة الصف الأول الشهداء هم في الستينيات من العمر، والأغلبية العظمى من قادة الصف الثاني قد أنهوا النصف الأول من الخمسينيات، وهم في عُرف الجيوش الحديثة في عمر التقاعد. أدّوا مهامهم ونقلوا خبراتهم. ولأنهم أعاروا الله جماجمهم منذ أيام الشباب، أبى الله، وهم في أيام المشيب، إلا أن يخرجهم من الدنيا بوسام الشهادة، فكان “التقاعد الإلهي”.
والآن، يستلم جيل يحاكي تطور العصر، عاش انتصارات الجيل الأول الذي ارتبطت به بطولات أمنية وعسكرية تاريخية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. لذلك، فإن هذا الجيل الجديد يسعى لأن يثبت نفسه ويصنع مجده كما صنعه الجيل الأول.
سيندم العدو على تلك الاغتيالات، وهو بعد أن خالف المثل الإنكليزي الشهير الذي تعود جذوره اللاتينية لمئات السنين: “الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي لا تعرفه”. عليه الآن أن يختبر من لا يعرفهم.
أما بالنسبة لخسارة السيد خصوصًا، فمن الممكن أن يرافق شعب المقاومة الحزن لآخر العمر، حزن الولد على أبيه، ولكن تأثير خسارة السيد لن يكون تأثير خسارة صبي في العاشرة من عمره لأبيه، لن يستمّر تأثير الفقد والصدمة طويلًا، فالسيد ودّع أمة حزب الله ولها من العمر اثنان وأربعون عامًا. والشاب الأربعيني عندما يخسر والده، يحس بخسارة سنده، إلا أنه يكون قد كوّن تجربته بعد أن أمضى عشرين عامًا بالعمل والتطور، وتعلّم كيف يمسك بزمام المسؤولية، وكيف يعنى بحماية أسرة، وتأهيل فتية وفتيات.
السيد إذًا بعد أن أدّى قسطه للعُلى، سلّم الراية، وصار الرمز والدافع. والمقاومة قطعًا ستكون أقوى، فرسمها البياني في تصاعد مستمر منذ عام 1982، كأنها الذهب مقابل الدولار، قد تشهد تراجعات مؤقتة، لكنها في الصورة الكلية، في صعود دائم.