خطر المفاهيم العنصرية للهوية اليهودية في العقيدة الصهيونية (2)

بعدما تناولنا في القسم الأول نشأة الصهيونية اليهودية، نتطرق في القسم الثاني من هذه الدراسة إلى الصهيونية المسيحية وأثرها على العقيدة الصهيونية ونشوء "دولة إسرائيل".

الصهيونية المسيحية هي أيديولوجية سياسية ودينية تتبنى، ضمن المسيحية، عودة الشعب اليهودي إلى الأرض المقدسة. وبالتالي فإن تأسيس “دولة إسرائيل” في عام 1948 كان متوافقًا مع النبوءات التوراتية المنقولة عبر العهد القديم: أن إعادة التأسيس الأخروي (eschatological) للسيادة اليهودية على فلسطين شرط أساسي للمجيء الثاني ليسوع المسيح. بدأ استخدام المصطلح في منتصف القرن العشرين، حيث احتشد أنصار هذه الأيديولوجية خلف الصهاينة لدعم الوطن القومي اليهودي[1].

البحث عن وطن قومي!

نمت الدعوة من جانب المسيحيين “لعودة” اليهود بعد الإصلاح البروتستانتي، وهي متجذرة في البيوريتانية (puritanism) الإنجليزية في القرن السابع عشر. تشير المؤرخة الإسرائيلية المعاصرة أنيتا شابيرا إلى أن البروتستانت الإنجيليين الصهاينة في إنجلترا “نقلوا هذه الفكرة إلى الدوائر اليهودية” حوالي أربعينيات القرن التاسع عشر[2]، بينما قوبلت القومية اليهودية في أوائل القرن التاسع عشر بالعداء إلى حد كبير من اليهود البريطانيين. إذ بينما تدعم الصهيونية المسيحية عودة جماعية لليهود إلى أرض إسرائيل، فإنها تؤكد على فكرة موازية مفادها أنه يجب تشجيع العائدين على رفض اليهودية وتبني المسيحية كوسيلة لتحقيق النبوءات التوراتية. وهذا ما دفع لعدم الثقة بين اليهود تجاه دوافع البروتستانت الإنجيليين، الذين كانوا يروجون لدعم “دولة إسرائيل” وتبشير اليهود في نفس الوقت.

بدأت تسمع الدعوة لاستعادة فلسطين كوطن قومي لليهود بين الجماعات المسيحية في ثمانينيات القرن السادس عشر بعد الإصلاح البروتستانتي. وذلك مع أن القادة البروتستانت الأوائل، بما في ذلك مارتن لوثر وجون كالفن، لم يعربوا عن أي وجهات نظر إسخاتولوجية (eschatological – أخروية) خاصة تضمنت عودة اليهود إلى فلسطين (متحولين إلى المسيحية أو غير ذلك). وقد كان لوثر يأمل أن يتحول اليهود إلى أسلوبه في المسيحية بمجرد انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية، لكنه إصبح معادياً لليهود بشدة في وقت لاحق. مثل الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، رأى لوثر وكالفن أن الكنيسة المسيحية هي “إسرائيل الروحية”، ومنذ يسوع المسيح، كان العهد مع الله مع المسيحيين المؤمنين حصريًا باعتبارهم “شعب الله”، بدون امتيازات خاصة أو دور قائم على النسب. ومع ذلك، سمح التركيز البروتستانتي على مبدأ (Sola scriptura) (الكتاب المقدس وحده) والتوزيع الواسع للكتاب المقدس عبر أوروبا باللغات العامية، للعديد من البروتستانت المتطرفين بتفسير الكتب المقدسة بطرقهم الخاصة، أي بطريقة لا تعكس تماماً التقاليد الكاثوليكية في العصور الوسطى، أو آراء القادة البروتستانت الأوائل أنفسهم[3]. إلى جانب هذا، كان هناك عبرانية ثقافية عامة بين البروتستانت الأكثر تطرفًا، حيث رأوا تبجيل القديسين عبادة أصنام وركزوا بشكل أكبر على البطاركة والأنبياء التوراتيين في العهد القديم.

بالتوازي مع نمو هذه الأفكار البروتستانتية في انكلترا وألمانيا، وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، في أعقاب الثورة الفرنسية وقرار الجمعية الوطنية الفرنسية في كانون الأول/ديسمبر 1789 بأن غير الكاثوليك مؤهلون لتولي جميع المناصب المدنية والعسكرية، حاولت الحكومة الثورية في فرنسا كسب ولاء اليهود، في منافسة مع بريطانيا. وخلال الحملة على مصر وسوريا، دعا نابليون بونابرت “جميع يهود آسيا وأفريقيا للتجمع تحت علمه من أجل إعادة تأسيس القدس القديمة”، وذلك على الرغم من أن بونابرت نفسه كان علمانيًا وكانت الفكرة مثالًا للصهيونية السياسية البراغماتية[4].

في مؤتمر “نياجرا” للكتاب المقدس في عام 1878، صدر إعلان من 14 نقطة جاء فيه: “إن الرب يسوع سيأتي شخصيًا ليقدم العصر الألفي، عندما يعود بنو “إسرائيل” إلى أرضهم، وتمتلئ الأرض بمعرفة الرب؛ وإن هذا المجيء الشخصي والألفي هو الرجاء المبارك الموضوع أمامنا في الإنجيل والذي يجب أن نبحث عنه باستمرار”.

في عام 1864، كتب سبورجون (Spurgeon) أحد كبار منظري الصهيونية المسيحية: “إننا نتطلع إلى الأمام، إلى هذين الأمرين (يقصد استعادة فلسطين وتحول اليهود إلى المسيحية). ولن أضع نظرية حول أي منهما سيأتي أولاً ــ سواء كانت ستتم الاستعادة أولاً، ثم التحول بعد ذلك ــ أو التحول أولاً ثم الاستعادة. لابد وأن تتم الاستعادة، ولابد وأن يتم التحول أيضاً”.

الغرب يشيّد الدولة اليهودية

التحولات الاستراتيجية السياسية والمصالح الاقتصادية ساعدت في التبني السياسي في الغرب لهذه المعتقدات الأخروية حتى بين العلمانيين منهم. فقد هدّد انهيار الإمبراطورية العثمانية الطريق البريطاني إلى الهند عبر قناة السويس وكذلك المصالح الاقتصادية الفرنسية والألمانية والأمريكية المتنوعة. ودفع الضعف المستمر للإمبراطورية العثمانية البعض في الغرب إلى التفكير في إمكانية قيام دولة يهودية في الأرض المقدسة. دعا عدد من الشخصيات المهمة داخل الحكومة البريطانية إلى مثل هذه الخطة، بما في ذلك تشرشل[5].

في أواخر القرن التاسع عشر، كانت هذه الحركة مدفوعة إلى حد كبير بالقلق بشأن مصير يهود الإمبراطورية الروسية، الذين كانوا يعانون من الفقر والمذابح الفظيعة. وكانت الدول الغربية لا ترغب في استقبال المهاجرين اليهود. كانت حركة “استعادة” وطن لليهود وسيلة لمساعدة اليهود المضطهدين دون قبولهم فعليًا كجيران ومواطنين[6].

أما في الولايات المتحدة، فقد تنامت أيضاً هذه الحركة الصهيونية. في عام 1818، كتب الرئيس جون آدامز، “أتمنى حقًا أن يصبح اليهود في يهودا دولة مستقلة مرة أخرى”، وكان يعتقد أنهم سيصبحون تدريجيًا مسيحيين وحدويين Unitarian Christians) [7]).

وفي عام 1844، نشر جورج بوش، أستاذ اللغة العبرية في جامعة نيويورك وابن عم أحد أسلاف الرؤساء بوش، كتابًا بعنوان “وادي الرؤية؛ أو عظام إسرائيل الجافة التي أُحييت”. وفي هذا الكتاب ندَّد “بالاستعباد والقمع الذي سحقهم (اليهود) لفترة طويلة إلى التراب”، ودعا إلى “رفع” اليهود “إلى مرتبة الشرف بين أمم الأرض” من خلال السماح بإعادتهم إلى أرض إسرائيل حيث سيتم تحويل الغالبية العظمى منهم إلى المسيحية. ووفقًا لبوش، فإن هذا من شأنه أن يفيد ليس اليهود فحسب، بل البشرية جمعاء، ويشكل “حلقة اتصال” بين البشرية والله”[8].

الرئيس الأميركي، هاري ترومان، وبعدما سمع بقيام دولة إسرائيل، صرخ في البيت الأبيض فرحاً وهو يقول: “أنا قورش الأكبر، أنا من سمح بعودة اليهود إلى فلسطين مرة أخرى”

في عام 1839، أرسلت كنيسة اسكتلندا أندرو بونار وروبرت موراي ماكشين وألكسندر بلاك وألكسندر كيث (Andrew Bonar, Robert Murray M’Cheyne, Alexander Black and Alexander Keith) في مهمة لتقديم تقرير عن حالة اليهود في فلسطين. وقد زاروا عدة بلدان، وبحثوا عن المجتمعات اليهودية واستفسروا عن استعدادهم لقبول المسيح، وبشكل منفصل، استعدادهم للعودة إلى إسرائيل كما تنبأ الكتاب المقدس. روى ألكسندر كيث الرحلة في كتابه الصادر عام 1844 بعنوان “أرض إسرائيل وفقًا للعهد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب”. وفي ذلك الكتاب أيضًا استخدم كيث الشعار الذي أصبح شائعًا بين المسيحيين الصهاينة، “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”[9].

ولا بد من ذكر ويليام هيشلر (1845-1931) وهو شخصية بريطانية لعبت دوراً مهماً في الدعم البريطاني “لاستعادة” اليهود لفلسطين، وهو رجل دين إنجليزي من أصل ألماني كان قسيسًا للسفارة البريطانية في فيينا وأصبح صديقًا مقربًا لثيودور هرتزل. كان هيشلر فعالاً في مساعدة هرتزل من خلال أنشطته الدبلوماسية، ويمكن، بهذا المعنى، أن يُطلق عليه مؤسس الصهيونية المسيحية الحديثة[10].

بالخلاصة، بدأت البروتستانتية مع الإصلاح الديني وحركة مارتن لوثر كينغ بفكر معادٍ للسامية وتحوّلت في مرحلة لاحقة إلى مؤسِّس للصهيونية. فقد اشتهر مارتن لوثر بمعاداة السامية ومناهضة اليهود كعرق وكتاريخ. واعتبر البعض أن مارتن لوثر هو الأب الروحي للحركات الفاشية والنازية، خاصة وأن الرايخ الثالث ظل لفترة طويلة يستثمره كذلك كل اليمين الأميركي مثل كو كلوكس كلان (Ku Klux Klan kkk) وغيره.

إقرأ على موقع 180  سعد لـ 180: نريد رئيساً "قبضاي" تجاه صهره وعائلته وطائفته وحلفائه!

لكن الكنائس المسيحية ستتبرّأ فيما بعد من هذا الإرث المعادي لليهود. أغلب الكنائس اللوثرية صارت تتبرأ مما قاله مارتن لوثر، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وتعتبر أنها غير ملزمة بما قاله لوثر عن اليهود. أيضاً الكنيسة الكاثوليكية ستتبرّأ من هذا الماضي من خلال المجمع الفاتيكاني الثاني (اختتم سنة 1965).

ترومان.. قورش الأكبر!

لكن المفارقة أن هذه الكنيسة المعادية والمناهضة في جوهرها لليهود (anti-Judaism) أو ما صار فيما بعد (anti-Semitism) هي في الأساس معاداة مبنية على أسس عقائدية ستتحول شيئاً فشيئاً إلى موقف داخل تفرعات الكنيسة الأنغليكانية مساعد لا بل إنه يؤسس الحركة الصهيونية.

الكنائس البروتستانتية وخصوصاً ذات التوجه الأنغليكاني الموجودة في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية عندها فهم خاص لبعض القضايا، مثل ما يسمى لاهوت العودة (la théologie de la restauration). هناك داخل تاريخ المسيحية شيء اسمه الحركة الألفية (millénariste) بمعنى أن بعد ألف سنة سيأتي المسيح. الكنائس المسيحية في البداية فهمت هذا المعنى بصورة مجازية (allégorique). غير أن هذا التيار الألفي استمر حياً في الكنائس الانغليكانية وقدّم فهماً معيناً لتاريخ اليهود ودور اليهود داخل عقيدة الخلاص المسيحية. لأن هؤلاء الأنغليكانيين كانوا يشدّدون على فكرة (le salut) أو الخلاص الفردي، وأن هذا الخلاص ممكن. وأحد الذين يتوجه إليهم الخلاص هم اليهود. المسيحية تتوجه إلى هؤلاء اليهود على أن يلتحقوا بركب الخلاص. الكنائس الأنغليكانية بموجب مفهوم الخلاص تعتبر أن المسيح سيأتي حقيقة وأن هناك تقريباً سبع مراحل. نحن الآن نعيش المرحلة السادسة السابقة لمجيء المسيح. ولكي يعود المسيح يجب أن يعود في المكان الذي ظهر فيه وهو فلسطين. ويجب أن يعود بين أهله أي اليهود. ستفهم هذه الكنائس البروتستانتية الأنغليكانية البريطانية والأميركية فكرة النظرية الألفية في معنى خاص يقول بضرورة تشجيع اليهود على العودة إلى فلسطين وتقديم كل التسهيلات المادية والعسكرية وغيرها من أجل التحضير لعودة المسيح. هذا المسيح الذي سيأتي سيدعو بطبيعة الحال هؤلاء اليهود إلى الايمان به وسيخيّرون بين أمرين بعد ذلك: إما الإيمان بالمسيح والدخول في المسيحية أو الإبادة. هذا هو جوهر الفكر البروتستانتي. ولذلك نجد أن هؤلاء البروتستانتيين الأنغليكانيين كانوا حاضرين في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل. وكان البعض منهم من كبار أصدقاء تيودور هرتزل. الرئيس الأميركي، هاري ترومان، وبعدما سمع بقيام دولة إسرائيل، صرخ في البيت الأبيض فرحاً وهو يقول: “أنا قورش الأكبر، أنا من سمح بعودة اليهود إلى فلسطين مرة أخرى”.

من هنا، نفهم أن المسألة في فلسطين لها بالإضافة إلى الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، جانب ديني له دور في صناعة القرار في العالم. فالكنائس الانغليكانية ترى أن لليهود حقاً في أرض فلسطين، تبعاً لما يسمى بثيولوجيا الأرض (ايريتز). هذه الكنائس تعتبر أن هذه الأرض ملك للشعب اليهودي وأن الشعب اليهودي هو شعب مختار فعلاً. حتى قيام المسيحية لم يلغِ أن هذا الشعب هو شعب مختار في انتظار أن يصل في النهاية إلى الاعتراف بالمسيح. وهذه الأرض يرثها هؤلاء اليهود ويجب أن يعودوا إليها بمقتضى هذا الميراث لأن هذا الميراث ينسحب على أبناء اسحق وليس على أبناء اسماعيل. وإذا كان الله بملء إرادته قد قرّر إعطاء اليهود هذه الأرض، فيحق لهم أن يطردوا من فيها. وهكذا، فإن صراع اليهودية المرير مع المسيحية والذي وصلت قمته إلى الشوا choa المحرقة النازية، سينتهي كاثوليكياً مع المجمع الفاتيكاني الثاني، وسينتهي بدعم إسرائيل عن طريق هذه العقيدة البروتستانتية.

(*) في الحلقة المقبلة من هذه السلسلة سنتناول كيفية بناء مفهوم العرق اليهودي من خلال الفكر الصهيوني.

المراجع:

[1] – Ben Barka, Mokhtar. “The New Christian Right’s relations with Israel and with the American Jews: the mid-1970s onward”Aix-Marseille University. December 2012. And: Sharif, Regina, “Non-Jewish Zionism: Its Roots in Western History”, 1983, London, UK: Zed Books.

[2]Shapira, Anita, “Israel: A History”, The Schusterman Series in Israel Studies, 2014, p. 15.

[3] – ibid.

[4]Christian Zionism – Wikipedia. (6\9\2024)

[5] – Friedman Isaiah, “The Question of Palestine: British-Jewish-Arab Relations, 1914–1918”, Transaction Publishers, 1992.

[6] – Clark Victoria, “The Rise of Christian Zionism”, Yale University Press, 2007, p. 111.

[7] – Kark, Ruth, “American Consuls in the Holy Land, 1832–1914”, Wayne State University Press, 1994, p. 23.

يؤكد المسيحيون الوحدويون على الطبيعة الوحدانية لله باعتباره الخالق الوحيد والفريد للكون، ويعتقدون أن يسوع المسيح كان موحى إليه من الله في تعاليمه الأخلاقية وأنه مخلص البشرية، لكنه ليس مساويًا لله نفسه. وفقًا لذلك، يرفض الوحدويون المجامع المسكونية والعقائد المسكونية، وهم مصنفون خارج المسيحية التقليدية السائدة.

[8] – en.wikipedia.org/wiki/Christian_Zionism#cite. (28\8\2024)

[9] – ibid.

[10] – Merkley, Paul Charles, “The politics of Christian Zionism, 1891-1948”, London: F. Cass, 1998, p. 240.

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إسرائيل "تناور" وتتأهب تحسباً لرد حزب الله