

منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في مطلع العام الجاري، لم يكن من السهل قراءة مواقفه الخارجية أو ربطها بتسلسل منطقي واضح، فقد بنَى حملته الانتخابية على وعود صاخبة بإنهاء الحروب، بما في ذلك حروب الشرق الأوسط، ووضع حد لنزيف الدماء، وهو خطاب لامس تطلعات الكثيرين.
وانطلاقًا من هذه الأرضية، سعى فريقه السياسي مبكرًا إلى تحقيق إنجازات ملموسة قبل دخول المكتب البيضَوي، عبر الدفع نحو اتفاقات تهدئة تُقدَّم كنجاحات مبكرة للإدارة الجديدة. وبالفعل، مارست الإدارة الأمريكية ضغوطًا لتمرير اتفاق 19 يناير/كانون الثاني، الذي أتاح عودة النازحين شمالي قطاع غزة وأدى إلى إطلاق سراح 25 أسيرًا إسرائيليًّا.
غير أن هذا المسار سرعان ما انهار، مع انقلاب واشنطن على رعايتها للاتفاق، وتبنِّي ترامب لاحقًا خطةَ تفريغ غزة من سكانها، ثم السماح لرئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بالعودة إلى الحرب في منتصف مارس/آذار، في انسجام كامل مع أطروحات “الحسم العسكري”.
إن هذا التناقض بين الخطاب والواقع، بين وعود إنهاء الحروب وسياسات تعميقها، يكشف بوضوح حجم التأثير الإسرائيلي على توجهات الإدارة الأمريكية، ويجعل من تفكيك أهداف الموقف الأمريكي في غزة ضرورة لفهم المشهد الراهن ورسم ملامح السيناريوهات المقبلة.
مسار ويتكوف
شكَّل المبعوث الأمريكي، ستيف ويتكوف، اللاعب الرئيسي في إدارة خطوط الاتصال والضغط الفعلي في مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، فقد كان رجل الساعة حينما هبط في “تل أبيب” ذات يوم سبت، و”فرض” توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في يناير/كانون الثاني الماضي.
غير أنَّ ويتكوف نفسه هو مَن فتح الباب أمام نتنياهو للتنصل من استحقاقات المرحلة الثانية من الاتفاق، وذلك عبر مقترحه الأول الذي نصَّ على إطلاق نصف الأسرى الأحياء، على أن يبدأ اليوم الأول بخمسة أسرى أحياء مضافاً إليهم الأسير الأمريكي عيدان ألكسندر، مقابل تمديد الهدوء والتفاوض مجددًا حول التفاصيل، من دون الدخول في المرحلة الثانية التي كانت ستفضي إلى وقف كامل لإطلاق النار وانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة.
مثَّلَ هذا المقترحُ خروجًا واضحًا عن الاتفاق السابق، ووضعَ المقاومة أمام مقاربة خداعية مكشوفة، فقد بات الهدف الأمريكي جليًّا: الحصول على أكبر عدد ممكن من الأسرى الأحياء، من دون أي التزام بمسار جدي ينهي الحرب.
وقد شكَّل هذا الطرحُ المدخلَ المباشرَ لإطلاق عملية “عربات جدعون” العدوانية، التي أفضت إلى سيطرة جيش الاحتلال على نحو 70% من مساحة قطاع غزة، ترافق معها تدمير شامل لكل مظاهر الحياة، وتهجير جماعي للسكان ومنع عودتهم، ما أدى إلى تكدُّس أهالي القطاع ضمن ثلاث مناطق محصورة: غرب مدينة غزة، مخيمات القطاع الوسطى، والشريط الساحلي غربي خان يونس المعروف باسم “المواصي”.
وعلى مدار الأشهر الماضية الممتدة بين مارس/آذار وسبتمبر/أيلول، تكررت الآلية ذاتها: كلما اقتربت المفاوضات من صيغة قابلة للاتفاق كان ويتكوف يتدخل لإسقاطها عبر مقترحات أكثر تشددًا، كلها تدور في فلك واحد يقضي باستعادة أكبر عدد ممكن من الأسرى الأحياء من دون تقديم أية تنازلات جوهرية تُنهي الحرب.
فمن مقترح إطلاق 5 أسرى أحياء في اليوم الأول، إلى رفع السقف إلى 10، وصولًا إلى العرض الذي تبنَّاه ترامب بالتزامن مع عملية تدمير مدينة غزة، والذي نصَّ على إطلاق جميع الأحياء والجثث في اليوم الأول مقابل وقف عملية غزة وفتح مفاوضات جديدة حول إنهاء الحرب والانسحاب.
يعكس هذا المسار كله، الذي جسَّده ويتكوف، بوضوحٍ رؤيةَ الإدارة الأمريكية التي تهدف إلى إتاحة الفرصة الكاملة للاحتلال الإسرائيلي لحسم المعركة عسكريًّا، دون أن يدفع ثمنًا سياسيًّا داخليًّا في ملف الأسرى. وبهذا، يكون نتنياهو قد حقق مكسبًا استراتيجيًّا صافيًا، من غير أن يتكبَّد تكلفة تخلِّيه عن ورقة الأسرى.
ديرمر: مهندس المواقف
لا يمكن إغفال المحور الأساسي الذي يمثِّله وزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة الاحتلال، رون ديرمر، في معادلة إدارة خطوط التفاوض والضغط. تولَّى ديرمر مسؤولية ملف المفاوضات منذ إبرام اتفاق 19 يناير/كانون الثاني، وموقعه في هذه المعادلة محوري لا يُستغنى عنه.
يُعرف رون ديرمر بأنه العقل الاستراتيجي المقرَّب من بنيامين نتنياهو، وواحد من أبرز المهندسين للعلاقات مع الولايات المتحدة؛ له نفوذ واضح داخل صفوف الجمهوريين في الكونغرس، وتأثير ملموس على اللوبي الصهيوني هناك.
يتضمن سجلُّه قدرة على اختراق مواقف إدارات أمريكية متعددة، ومن أشهر محطات عمله ترتيبه وصياغته لخطاب نتنياهو الشهير أمام الكونغرس في العام 2015، الذي أثار توتُّرًا في العلاقات مع إدارة أوباما آنذاك.
شغل ديرمر حقيبة وزارية على الرغم من أنه ليس عضوًا منتخبًا في الكنيست، وكان موضعه من حيث الأداء الخارجي في كثير من الأحيان أكثر فاعلية من وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي لدى حكومة الاحتلال. ومنذ بداية حرب الإبادة، كان عضوًا فاعلًا في المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، ما جعله جزءًا لا يتجزأ من “مطبخ القرار” على المستويين الاستراتيجي والتنفيذي.
ومنذ استلامه ملف التفاوض، قلَّما جرت مفاوضات بالمعنى التقليدي، بل اعتمد نهجًا يقوم على تقديم “عروض جاهزة” تُفقد العملية التفاوضية جوهرها. وغالباً ما يصوغ ديرمر المقترحات في الولايات المتحدة وفق معايير الحكومة الإسرائيلية، ثم يُقدِّم هذه العروض عبر المبعوث الأمريكي لتُعرَض على المقاومة، وفي كثير من الأحيان تكون العروض مُعدَّة لتُرفَض، بما يفرِّغ دور الوسطاء من فاعليته الحقيقية.
وبينما كان نتنياهو يميل أحيانًا إلى حلول جزئية لأسباب سياسية داخلية، دفع ديرمر – بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية في مراحل عديدة – نحو مسار حلٍّ شامل أو حسمٍ شامل، وهو ما أنهى تردد نتنياهو لاحقًا وأغلق الباب أمام الصفقات الجزئية.
ويمكن القول إن ديرمر من أشدّ المؤيدين لسياسة الضغط العسكري الهادفة إلى تدمير بنيان المقاومة في غزة، أي اعتماد خيارات يمينية بعيدة كثيراً عن الاعتبارات الانتخابية، حتى لو ترتَّب على ذلك سقوط عدد من الأسرى الأحياء، إذ يرى، حسب منابر إسرائيلية وتصريحات متداولة، أن بقاء صفوف قتالية كبيرة للمقاومة في غزة يُبقي على إمكانات المواجهة مستمرة ويُعيق تحقُّق أهداف الاحتلال.
ولعلَّ إشارته المبكرة إلى ضرورة تهجير السكان من القطاع -عندما اقترح على وزير الخارجية الأمريكي حينها، أنتوني بلينكن، أن تكون غزة “خالية من مدنيين” وإخراجهم إلى سيناء- توضِّح مدى النزعة التحويلية في مشروعه الاستراتيجي، الذي لا يكتفي بالحلول الجزئية بل يسعى إلى إعادة تشكيل الواقع الميداني والسياسي بصورة جذرية.
ترامب بين “الترند” و”النصر المُطلق”
يصعب قراءة سلوك الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ضمن قوالب التحليل السياسي التقليدية أو وفق مدارسها المعروفة، فالرجل لا يجد حرجًا في ممارسة مختلف أشكال النفاق السياسي والكذب والمراوغة الإعلامية، من أجل تمرير مخططات عدوانية أو تحقيق مكاسب آنية.
يتجلى هذا السلوك في نموذجين واضحين. فأما النموذج الأول، فاستغلال المفاوضات مع إيران كأداة تخدير سياسي، ما أتاح لـ”إسرائيل” شن عدوان موسع استند إلى فرضية أن نجاح الضربة الأولى سيهز أركان النظام الإيراني. وقد ساهم التدخل الأمريكي المباشر في وقف الحرب بعد تحقيق بعض أهداف العدوان.
وأما النموذج الثاني، فكان نصب العرض الأخير لصفقة توقف عملية “عربات جدعون 2” فخًّا لاستدراج قيادة حركة “حماس” إلى اجتماع تفاوضي، أتاحت أجواؤه للطيران الإسرائيلي تنفيذ غارة على الأراضي القطرية بجوار القاعدة الأمريكية الأكبر في العالم (العديد)، في عملية هدفت إلى تنفيذ اغتيال جماعي صدم الرأي العام العربي وأحرج الحليف القطري.
وعلى الرغم من التبرؤ الأمريكي من التواطؤ في غارة الدوحة، فإن السياق والملابسات عززت قناعة بأن الإدارة الأمريكية متورطة، وأنها تفتقد إلى الحد الأدنى من المسؤولية السياسية والأخلاقية في إدارة العلاقات الدولية.
مع ذلك، لا يمكن القول إن لدى إدارة ترامب رؤية متكاملة تجاه غزة، فهي من جهة تسعى إلى إنهاء الحرب وتخفيف التوترات العسكرية المباشرة، بما يتيح لها استكمال هندسة ترتيبات إقليمية في لبنان وسوريا تعزِّز الهيمنة الأمريكية وتخدم الحاجة الأمنية الإسرائيلية دون اللجوء إلى مواجهة عسكرية مباشرة. لكنها، من جهة أخرى، حريصة على ألَّا تُخرج المقاومة الفلسطينية من هذه الحرب واقفةً على قدميها، بل منهكة ومهشَّمة بما يمنح نتنياهو صورة “النصر الكامل”.
يكشف هذا التناقضُ قصورًا كبيرًا في إدراك الإدارة الأمريكية للمشهد الميداني، فهي غالبًا ما تتأثر بتقلبات الرأي العام والإعلام، مثلما ظهر في موقف ترامب من مسألة التجويع؛ إذ تبنَّى بداية السردية الإسرائيلية النافية، ثم اعترف لاحقًا بوجود تجويع بعد انتشار صور لا يمكن إنكارها، ما يدل على أن أقوى دولة في العالم ترسم سياساتها بناءً على “الترندات” وبعض الصور أكثر من اعتمادها على تقارير استخباراتية أو تقديرات موضوعية.
وفي سياق هذا القصور، برز تفويض ترامب شبه المطلق لنتنياهو، فقد أكد الرئيس الأمريكي في أكثر من مناسبة ضرورة أن “تنهي إسرائيل المهمة”، ما يعكس فهمًا قاصرًا لحقائق الميدان، حيث أن الحسم العسكري أبعد بكثير من الأطر الزمنية التي يتصورها البيت الأبيض. ويبدو أن بنيامين نتنياهو نجح منذ حملة دونالد ترامب الانتخابية في إقناعه بأن القيود التي فرضها الرئيس الأمريكي (السابق) جو بايدن كانت السبب في عدم حسم المعركة، وأن رفع هذه القيود كفيل بإنهاء الصراع في خلال أسابيع.
غير أن مرور سبعة أشهر على انهيار التهدئة دون تحقيق “النصر المطلق” جعل ترامب متململًا من إطالة أمد الحرب، خصوصًا بعد فشل غارة قطر، وتصاعد التململ العربي، وتنامي الرفض الأوروبي لاستمرار الإبادة. زدْ على ذلك إلحاح ترامب على الفوز بجائزة نوبل للسلام لهذه السنة. هذه العوامل تضع الإدارة الأمريكية أمام مأزقٍ وتهديد للمصالح يفرض عليها التفكير في مسارات أخرى، بعد أن اصطدمت سياساتُها بالواقع الميداني وبحدود القدرة الإسرائيلية على الحسم.
تدويل غزة بين إعادة الإعمار ومحاولات التحييد
في تحرُّك يختلف عن التحركات السابقة، استثمر الرئيس الأمريكي اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك لعقد لقاءات مع قادة دول عربية وإسلامية حليفة للولايات المتحدة، هدفها بحث ملف قطاع غزة ومساعي وقف إطلاق النار.
جاء هذا الاجتماع مُكمِّلاً لاجتماع سابق لترامب وفريقه ناقش “اليوم التالي” في غزة، ويبدو أنَّ إدارة البيت الأبيض تبنَّت خطة قائمة على رؤية توني بلير–جاريد كوشنر تُعنَى بتدويل المرحلة الانتقالية في القطاع، ضمن مشروع أوسع لإعادة هندسة غزة اجتماعيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا – وبالأخص سياسيًّا.
تبدو الملامح الظاهرة لهذه الرؤية متآلفة مع أهداف الحرب الإسرائيلية المعلَنة، لا سيما فيما يتعلق بتحييد غزة عن معادلة الصراع، وتفكيك بنى المقاومة، وسحب السلاح، وبناء نظام جديد لا يمتُّ للمنظومة الوطنية الفلسطينية بِصلة، مع السعي في الوقت نفسه إلى إطلاق سراح الأسرى الموجودين لدى المقاومة.
وفي المقابل، تتضمن الرؤيةُ، وفق ما تشير إليه بعض التسريبات، تراجعًا أوليًّا عن خيار التهجير، وانسحابًا إسرائيليًّا واسعًا من أراضي القطاع، وإمكانية عودة السكان إلى مناطقهم، وهو ما يقلِّص من تأثيرات الحرب واستمرار مفاعيلها على نحو جزئي.
إذا ما أُدمجت هذه المعالم مع إدارة دولية للفترة الانتقالية بمشاركة عربية وإسلامية، فإن ذلك قد يسهِّل تدفُّق المساعدات والتمويل الطارئ لعمليات الإغاثة، ويهيِّئ أرضية لبدء تنفيذ خطة إعادة الإعمار.
ومع أن هذه الرؤية الأمريكية ليست خروجًا عن المحددات الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية، إلا أنها تصطدم مع استراتيجية نتنياهو القاضية بالمضي في إدارة الصراع وتمديده إلى أن يتحقق ما يطلبه سياسيًّا.
ومن زاوية أخرى، تمثِّل عملية تدمير مدينة غزة وتهجير أهلها نقطةَ تحوُّل جذرية، إذ إن قتل الأسرى في الحسابات الإسرائيلية أو خسارة الأرض والسكان في حسابات المقاومة، سيجعلان من أي تفاهم سياسي لاحق بلا قيمة، ويفتحان باب مرحلة من “صفرية الحسابات” قد تفضي إلى استنزاف طويل وممتد للاحتلال طالما بقي في مناطق القطاع ويضعه أمام ممر الحكم العسكري؛ وبالتالي، فإن سعي نتنياهو إلى شراء مزيد من الوقت لاستكمال ما يعدُّه مخططًا ميدانيًّا يستهدف مدينة غزة، سيتجاوز إعاقة المسار الأمريكي الجديد الذي بلغ مراحل متقدمة من التفاهم على مستويات رئاسية مع الأطراف الإقليمية المعنية، إلى إفشال كامل لهذا المسار.