خصخصة الكهرباء في سوريا.. وحرمان الفقراء من النور

يتحدّث مسؤولون في سوريا اليوم عن أنّ الدولة لن تستثمر في إعادة الإعمار، وضمناً إعادة الخدمات العامّة، بل سيتمّ جلب استثمارات خاصّة ربطاً بتجارب شهدتها مناطق معيّنة أثناء سني الصراع السوري. وقد شكّل رفع أسعار الكهرباء لهذا الهدف صدمةً اجتماعيّة في البلاد وأحدث نقاشاً محتدِماً، برغم فقدان هذه الخدمات في أغلب المناطق والحاجّة الماسّة إليها، ما يتطلّب مراجعة جديّة لما تعنيه هكذا "سياسات عامّة".

عندما استقلّت الدول العربيّة، كانت واحدة من أكبر إنجازاتها أنّها عمّمت وصول الخدمات العامّة، كالكهرباء وماء الشرب والصرف الصحيّ والصحّة العامّة والتعليم المجاني إلى المناطق الريفيّة خارج المدن الكبرى وأحيائها الراقية القادرة على الدفع مقابل هذه الخدمات. لقد شكّل ذلك دوماً عبئاً كبيراً على ميزانيّة الدولة وأحدث لاحقاً تطوّرات اجتماعيّة وسياسيّة كبيرة.. وهذه حتمية التنمية والتاريخ.

إلاّ أنّه في زمن إطلاق حريّة التجارة والخدمات وتقليص دور الدولة، خضعت الدول العربية لضغوط ما كان يسمّى “توافق واشنطن” بين البنك وصندوق النقد الدوليين كي تتمّ خصخصة هذه الخدمات وتحرير الأسعار من أيّ دعمٍ حكوميّّ. لكنّ سياسات هذا “التوافق” فشلت في أغلب البلدان النامية، باعتراف البنك والصندوق، وظهرت بالمقابل أسس تمّ اعتمادها على التجارب الأكثر نجاحاً.

لم تنقُض هذه الأسس العالميّة إمكانيّة استثمار القطاع الخاص في الخدمات العامّة، ولكن ضمن أطر قانونيّة وتنظيميّة من الدولة، كإنشاء هيئة حكومية مستقلّة للإشراف على القطاع مهمّتها الأساسية هي حماية مصالح المستهلكين وضمان عدالة الأسعار وجودة الخدمة، وليس تحقيق أقصى ربح للمساهمين. وأن يتمّ تلزيم هذه الخدمة العامّة من خلال عقد امتياز مفصّل وطويل الأمد يحدّد بالضبط الالتزام بالخدمة الشاملة، أي إلزام الشركة بتوصيل الخدمة لجميع المناطق، بما في ذلك المناطق النائية غير المربحة، وتوحيد التعرفة، أي تحديد سعر موحّد للخدمة لا يختلف من منطقة لأخرى، بغض النظر عن تكلفة التوصيل، ومعايير لجودة الخدمة، مثل زمن الاستجابة للأعطال وعدم انقطاع الخدمة، وغير ذلك. وتضمّنت هذه الأسس آليّات مالية هدفها استخدام الأرباح من خدمة المناطق ذات الكثافة العالية والكلفة المنخفضة (مثل المدن الكبرى) لتعويض الخسائر الناتجة عن خدمة المناطق قليلة الكثافة والمرتفعة الكلفة (مثل القرى النائية). ما يعني أيضاً في حالة إعادة إعمار سوريا استخدام أرباح المناطق غير المدمّرة لتمويل نشر الشبكات في المناطق المدمّرة. وكذلك تضمّنت أسس عقود الالتزام أيضاً آليّات للشفافيّة حول الكلف ومشاركة المستهلكين في هيئة تنظيم القطاع وعقوبات على الشركات الخاصّة في حال عدم الالتزام وتحديد سقف للأسعار يتطلّب أحياناً دعماً حكومياً.

تجارب عربية 

لقد انتهجت الدول العربيّة مسارات مختلفة في مجال “خصخصة” الخدمات العامّة والكهرباء. هكذا فتحت المملكة العربية السعودية إمكانية الاستثمار في إنتاج الطاقة الكهربائيّة بشكلٍ تنافسيّ، دون التوزيع الذي بقي احتكاراً حكوميّاً. وبقيت الحكومة تدعم أسعار الكهرباء للمستهلك للحفاظ على استقرار الأسعار وضبط التضخّم. كذلك هو الأمر في الإمارات العربية المتحدة التي فتحت المجال لمشاريع الطاقة المتجدّدة بالشراكة مع القطاع الخاص (مثل مشروع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية). وكذلك أيضاً في مصر، مع خصوصيّة ضعف إيرادات الدولة وضرورة اعتماد سياسات تدريجيّة لرفع الدعم الحكومي الكبير لأسعار الكهرباء للمستهلك عبر برامج مساعدات دوليّة.

نادرةٌ هي الدول العربيّة التي حرّرت توزيع الكهرباء. مثل المغرب التي منحت امتياز التوزيع في الدار البيضاء إلى شركة Lydec التابعة لشركة Suez الفرنسيّة والتي تواجه نزاعات ملحوظة حول الاستثمارات وجودة الخدمة والزيادات في الأسعار برغم وجود هيئة ناظمة للكهرباء، مع مخاطر انسحاب الشركة في حال تغيّر أسعار صرف العملة الوطنية مقابل اليورو كما حدث في الأرجنتين. ومثل الأردن التي تقاسمت فيه ثلاث شركات خاصّة شمال ووسط وجنوب البلاد.

لبنان بعد الحرب الأهليّة كان النموذج الفاشل، برغم خصخصة جزئيّة للإنتاج والتوزيع، نتيجة الفساد والمحاصصة السياسية، وعدم تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء إلا بعد أكثر من عشرين سنة على صدور قانونها (تم تعيينها في أيلول/سبتمبر المنصرم)، وانتشار مولدات الكهرباء الخاصّة في الأحياء التي تقدّم الخدمة بأسعار مرتفعة، مع نفوذٍ سياسي كبير للقيمين عليها ولمزوّدي شركاتهم بالطاقة، وهذا أدّى إلى إفشال سياسات الكهرباء الوطنيّة.

هذا مع ملاحظة أنّه حتّى في حال خصخصة التوزيع تبقى البنى التحتيّة لخطوط نقل الطاقة بين المناطق ومحطات التحويل احتكاراً للدولة تدفع الشركات الخاصّة جعالات مقابلها تُمكِّن من صيانة وإصلاح هذه البنى. وكذلك حال بعض الدول الغربيّة التي خصخصت التوزيع، كما أوروبا، وترافق ذلك مع حريّة منافسة بين الشركات الخاصّة وحريّة اختيار للمستهلك. أي لا احتكار.

الخدمة.. العامة

من ناحية أخرى، أدخلت بعض الدول العربيّة عدّادات مسبقة الدفع لخدمة الكهرباء، كي يتمّ ضبط ما يسمّى “الهدر المالي” في الكهرباء، عبر التهرّب في دفع الفواتير. وانتشر هذا الأمر خاصّة في مصر والمغرب والأردن، وأقل من ذلك في دول الخليج، ويتمّ اليوم نشره في سوريا انطلاقاً من المناطق التي كانت خارج سيطرة الدولة والتي توزّع فيها شركات “خاصّة” الكهرباء دون ضوابط إداريّة.

العدّادات مسبقة الدفع سلاحٌ ذو حدّين. فهي في ظلّ دولة راعية اجتماعياً أداة لترشيد الاستهلاك وتحقيق كفاءة مالية مع الحفاظ على شبكة أمان قوية، مثل عدادات استثنائية تمنع انقطاع الكهرباء عن الأسر ذات الدخل المنخفض جداً في أوقات الطوارئ. في حين تتحوّل في يد شركة خاصّةٍ إلى أداة قاسية تُقصي الفقراء وتحرمهم من خدمة أساسية (إذ يُعاقَب الفقراء بشكلٍ فوري، حيث تنقطع الكهرباء فوراً عند انتهاء الرصيد، من دون أدنى مرونة)، وحيث يكون الهدف الأساسي هو ضمان الإيرادات بغض النظر عن الآثار الاجتماعية. لذا يُفترَض أن تقوم الهيئة الناظمة بوضع شروطٍ صارمة على استخدامها، مثل منع انقطاع الخدمة عن المسنّين أو ذوي الظروف الصحية الحرجة، وإنشاء صناديق طوارئ اجتماعية لتقديم “ائتمان طارئ” للعائلات في أوضاع ماليّة صعبة (وهم أغلبيّة السكّان في سوريا اليوم). هذا بالإضافة إلى شفافيّة كاملة حول كلف وأسعار خدمة الكهرباء.

إقرأ على موقع 180  هل هذه أوطان أم معتقلات؟

بالتالي يساهم نشر العدّادات المسبقة الدفع في تحسين إيرادات الكهرباء، لكنّ في حال غياب الأطر الناظمة، تحوّل العلاقة بين المواطن والخدمة من علاقة “حقوق/واجبات” إلى علاقة “بائع/مستهلك” بحتة، تُلغي عن الكهرباء حقيقة “الخدمة العامّة”، وتؤدي إلى تفكيك التضامن الاجتماعي. أضِف أنّ أغلب أنظمة التحويلات المالية المباشرة للفقراء تعويضاً عن رفع دعم الأسعار فشلت عالميّاً، عدا عن صعوبات أنظمة شحن العدادات على كبار السنّ وغير المتعلّمين، أي على الفئات الأكثر هشاشةً.

ويجدر التنويه إلى أنّ فاتورة الكهرباء غالباً ما تحتوي على ضرائب ورسوم، مثل أن يتمّ تحصيل رسوم مياه الشرب والصرف الصحيّ وجمع القمامة من خلالها. ولا يشكّل شطبها حقيقةً حلاًّ لأنّ ذلك يمنع عن السلطات المحليّة تقديم هذه الخدمات العامّة الأخرى عن المواطنين.

في المحصّلة، لا تكمُن الإشكاليّة في إعادة إعمار البنى التحتيّة والخدمات العامّة في سوريا في “خصخصّة” القطاعات وجلب الاستثمارات الخاصّة، بقدر ما تكمُن في غياب السياسات العامّة الناظمة للقطاع وانطلاق الخصخصة ومنح الامتيازات والاستثمارات دون شفافيّة حول العقود ودون ضوابط وأسس تؤمّن نهوض سوريا من محنة سنوات الصراع، سواءً لجهة العدالة الاجتماعيّة في بلدٍ تعيش الأغلبيّة العظمى من سكّانه تحت خطّ الفقر، وكذلك أمام انهيار ما بقي من قطاعه الصناعي أمام فتح الاستيراد من دون ضوابط على بضائع دولٍ تدعم قطاعها الصناعي والخدمات العامّة.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  كتابا "الحكومة الخفية" و"الأحجار".. تعطيل عقول العرب (2)