منذ تأسيس دولة لبنان الكبير (1920) مرورًا بالميثاق الوطني (1943) وصولًا إلى اتفاق الطائف (1989)، ظلَّت الطائفية حجر الأساس الذي يُعيد إنتاج السلطة تبعاً لحراك الطوائف داخلياً وداعميها خارجياً. هذه هي حكياة لبنان منذ زمن القائمقاميتين حتى يومنا هذا.
غير أن هذه السلطة في لبنان لا تُبنى فقط على معطيات القوة المادية أو التوازنات الدولية، بل على معيار مختلف هو “سلطة الوهم”، أي السرديات الرمزية والخيالية التي تصوغها الطوائف والأحزاب لتبرير شرعيتها وضمان ولاء جمهورها.
إن مفهوم “الوهم” هنا لا يُفهم إلا بمعناه الأوسع كآلية لإنتاج مخيال جماعي يضفي على السلطة معنى يتجاوز الواقع الملموس. هذا الوهم يُترجم عبر صناعة السرديات واستدعاء الأساطير والرموز التاريخية، بحيث تصبح الهوية الطائفية أفقًا لا يمكن الخروج منه.
الوهم أو السردية اللبنانية تنطلق من ثلاثة أطر نظرية أساسية:
الجماعات المتخيَّلة: حيث تتشكل الأمة أو في الحالة اللبنانية الطائفة من خلال سرديات ورموز يتشاركها الأفراد حتى لو لم يعرفوا بعضهم بعضًا مباشرة.
صناعة الهوية: إذ لا تقوم الهويات على معطيات طبيعية فقط بل على بناء ثقافي وسياسي تقوده النخب.
الذاكرة الجمعية: حيث تُستعاد أحداث الماضي بشكل انتقائي لخدمة الحاضر السياسي.
لكل سرديته ورموزه
منذ استقلال لبنان، سادت نظرية الوهم المؤسس: لبنان “الرسالة” (كما صاغه البابا يوحنا بولس الثاني) ولبنان “الوطن النهائي” (كما أعلنه الرئيس بشارة الخوري). هذه الخطابات أضفت على الكيان اللبناني طابعًا قدريًا ورسوليًا، وهو ما يُعدّ شكلًا من أشكال الوهم السياسي الذي يحجب الصراعات البنيوية.
لم تعد الطائفة رابطة دينية بين جماعة ما فحسب، بل تحوّلت إلى فضاء للحماية والولاء السياسي والترقي، فتقدم الولاء الطائفي على الولاء الوطني واحتكرت الأحزاب الطائفية تمثيل جماعاتها عبر صناعة سرديات بطولية ورسولية واستحضار مظلوميات تاريخية أو معاصرة كـ”الإحباط المسيحي” أو «تهميش الشيعة تاريخياً» أو «استهداف السنة بعد 2005»، وتسليط القداسة على رموز مثل الشهداء والزعماء المؤسسين؛ وبينما تُبنى هذه السرديات لمنح شرعية رمزية، يواجه لبنان أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة تُظهر «سلطة الوهم» حين تُستَخدم الأساطير الكبرى لإخفاء واقع مأزوم وحرف النقاش ليقتصر على الحصص وشرعية التمثيل.
تلجأ الطوائف والأحزاب في لبنان إلى إعادة كتابة الماضي في شكل أسطورة؛ فحزب الله يربط معاركه بالخطاب الكربلائي، فيما تستعيد بعض القوى المسيحية “حروب الوجود” ضد الفتح الإسلامي أو الحرب الأهلية، وبينما تغيب الذاكرة اللبنانية الرسمية ويتعذر وضع كتاب تاريخ موحد، حسب نصوص اتفاق الطائف، نرى كيف تمكنت الطوائف من ملء هذا الفراغ بسردياتها الخاصة، فصار لكل جماعة حقيقة وتاريخ وأبطال، وتحوّل الرمز إلى أداة تعبئة عبر صورة القائد الشهيد والمكان المقدس والمناسبة الطائفية، ليُعاد بذلك إنتاج الانقسام وتثبيت الوهم، بحيث تدّعي كل سردية طائفية تمثيل “الوطن” في حين أنها عمليًا تُفتته، ويغدو الوهم الطائفي عاملًا يجعل التسويات السياسية هشّة، إذ يرى كل طرف نفسه قائمًا على “حق تاريخي” غير قابل للنقاش.
الأوهام تتحول انقسامات
النظام السياسي اللبناني، بما يتضمنه من منظومة طائفية-حزبية، هو نتاج مسار تاريخي طويل وتوافقات داخلية وخارجية منحت كل طائفة أو حزب دورًا رسميًا أو فعليًا في توزيع السلطة، غير أنّ هذه السلطة لا تقتصر على توازنات مؤسساتية أو اتفاقات دستورية، بل تمتد لتشكّل ميدانًا رمزيًا يُدار فيه الصراع على المعنى والشرعية.
تجذّرت السردية الطائفية في الخطاب السياسي اللبناني عبر قادة صاغوا حضورهم من خلال استدعاء التاريخ وإعادة تفسيره بما يخدم موقعهم. فقد بُنيت شرعية بشير الجميّل جزئيًا على رواية التحرير والسيادة والـ10452كلم2، حيث ظهر كقائد «يعيد الحق» لقومه، فيما كرّست خطاباته ثنائية التضاد مع الخصم واستدعاء المآسي المسيحية لتأطير صراعه بوصفه وجوديًا أكثر منه سياسيًا. أما ميشال عون، فقد قدّم خلال «حرب التحرير» سردية تقوم على مواجهة الغريب و”الجيش هو الحل”. وفي المقابل، صاغ كمال جنبلاط صورة مؤسِّسة للبرجوازية الريفية الدرزية في علاقتها بالحداثة والدولة، بينما وظّف وليد جنبلاط لاحقًا ذاكرة المذابح والمطاردات والمآثر الثقافية للدفاع عن الهوية الدرزية وإعادة تعبئة قاعدته.
على الضفة الأخرى، شكّلت القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع نموذجًا لتحوّل التنظيم المسلّح إلى خطاب سياسي قائم على الدفاع عن حقوق المسيحيين. خطابها خلال الحرب وما بعدها استند إلى المظلومية والردّ، وانتهى إلى محاولة صياغة مشروع دولة بديلة بعناوين مقنع. أما نبيه بري، وريث السيد موسى الصدر على رأس حركة المحرومين، فقد جعل من حركة أمل ظاهرة سياسية طائفية-اجتماعية تستند إلى مظلومية تاريخية في تأطير مطالبها، ما جعلها رافدًا أساسيًا في الشرعية الشيعية الحديثة.
حزب الله نموذجاً
يُعَدّ حزب الله نموذجًا بارزًا في توظيف الخطاب السياسي والديني لبناء سردية متماسكة تعزّز شرعيته وتوسّع نفوذه. فمن خلال استحضار الرموز الدينية والتاريخية، نجح الحزب في إعادة تعريف مفهوم المقاومة، وجعلها جزءًا من الهوية الوطنية اللبنانية، حيث جمع خطابه بين البعد الإسلامي والمقاومة المسلحة. وظّف الحزب رمزية الإمام الحسين وواقعة كربلاء لتعزيز شرعيته، مستندًا إلى مفاهيم الشهادة والتضحية كأساس لبناء وعي جمعي يقوم على المظلومية والواجب الديني. هذا المزج بين الأسطورة والتاريخ والدين مكّنه من تحويل المقاومة إلى واجب مقدس يربط الماضي بالحاضر، ويمنح الصراع السياسي والعسكري بعدًا وجوديًا، يتجاوز حدود التكتيك إلى صياغة هوية جماعية متجذّرة.
ومع مرور الوقت، تطوّر خطاب الحزب ليجعل من السلاح أكثر من مجرد أداة عسكرية، إذ تحوّل إلى جزء لا يتجزأ من الهوية الشيعية، السياسية والاجتماعية والدينية. بعد انسحاب إسرائيل عام 2000، اتخذ السلاح أبعادًا أوسع، فأصبح رمزًا للكرامة والقدرة على حماية الطائفة، وأداة تأثير في النظام اللبناني والسياسة الإقليمية. بذلك، لم يعد السلاح وسيلة دفاعية فحسب، بل صار هوية كاملة مرتبطة بالماضي والمظلومية التاريخية، ومرتبطة في الوقت ذاته بالدين والسياسة والمجتمع. وقد نجح الحزب عبر هذا الخطاب في إعادة إنتاج الهوية الطائفية، ووضع المقاومة المسلحة في قلب السردية الشيعية التي تربط الدين بالتاريخ والهوية بالسياسة، ليغدو السلاح تجسيدًا لجوهر مشروعه المقاوم داخل لبنان وخارجه.
تُشكّل «سلطة الوهم» أكثر من مجرد خطاب سياسي أو ثقافي؛ فهي بنية معرفية متكاملة تعيد إنتاج الانقسام من خلال استدعاء رموز وسرديات تستند إلى الماضي لتبرير الحاضر. هذا البناء لا يقتصر على الكلام المسموع أو المكتوب، بل يتجسّد عبر جهاز متكامل من الوسائط: إعلام حزبي، منابر دينية، مناهج تعليمية، أفلام، شعارات، وحتى «ذكريات» محلية مثل مقابر الشهداء والتماثيل واللوحات التذكارية. كل هذه العناصر تعمل على ترسيخ السرديات الطائفية وإعادة بثها في الوعي الجمعي، بحيث تصبح مألوفة ومتداولة، فتُكسبها قوة التأثير والاستمرارية.
في قلب هذه السرديات ينتصب العدو كرمز مركزي، سواء في صورة «الخائن»، أو «المؤامرة»، أو «العدو الوجودي». عبر هذا الإطار، تُبسّط الأحزاب أحداثًا تاريخية معقّدة وتحوّلها إلى أساطير يسهل تداولها: معارك تُصاغ كملحمة بطولية، وخيانات تُختزل في روايات مظلومية. هذه الأساطير تعمل في مستوى ما قبل العقلاني، إذ تنقل الوقائع من حيّز التاريخ المتنازع إلى مرتبة القدر والمصير. ومع ذلك، فالذاكرة الجمعية التي تُبنى على هذا النحو ليست شاملة أو محايدة؛ بل انتقائية، تُبرز أحداثًا بعينها مثل مجازر أو بطولات، وتُخفي أخرى كالتواطؤ أو إخفاق القيادات. هكذا يُعاد إنتاج الانقسام باستمرار، ويُعاد تشكيل الوعي وفق مصلحة الفاعل الطائفي أو الحزبي.
