جلباب الحريرية الضائع: سعد بماذا يشبه رفيق (1)؟
BEIRUT, LEBANON - FEBRUARY 22: Leader of Movement of the Future Saad Hariri holds a press conference on February 22, 2016 in Beirut, Lebanon. Saudi Arabia said Friday that it was stopping payment on $4 billion worth of military aid to Lebanon. (Photo by Ratib Al Safadi/Anadolu Agency/Getty Images)

يتوغل سعد الحريري في غابة السياسة اللبنانية. خمسة عشر عاماً، قد تكون كافية لأخذ العبر. بيان العزوف عن ترشيحه إلى رئاسة الحكومة، هو مؤشر على وجهة جديدة، فيها من القطع، بالسياسة، ما يبرره، ومن الوصل ما يعززه. هل تجوز المقارنة الظالمة بين الحريري الأب والإبن؟

حتماً لا يعيش سعد الحريري أسعد أيامه. موقعه الراهن يُضيق عليه ما هو ضيق أصلاً وورثه عن أبيه رفيق الحريري. الرجل مُكبل بقيد والده. هو أساساً ساعَدَ مُكبليه. يطل دوماً بسؤال “ماذا كان فعل الرئيس الشهيد لو كان على قيد الحياة”؟. ما لم يفعله، وكان يجب عليه فعله، هو بناء سرديته السياسية الخاصة. ما زاد من ضيقه حراجةً هو طاقم مستشارين ما زال معظمهم أسير ماضٍ لن يتكرر، أو لم يفلحوا في التنبه إلى سياقات سياسية استجدت على البلد، وهي سياقات تأسيسية كانت تعلن نهاية حقبة. أساساً اغتيال الأب كان إعلاناً فاقعاً عن ركيزة تأسيسية جديدة للوطن الهش والقابل على الدوام للتسويات السياسية. التسويات في السياسة تعني شيئاً واحداً: تأجيل الإنفجار إلى حين. هذا مُثبت بتاريخ لبنان. أو قُل بتواريخه الأهلية والسياسية كافة.

على امتداد سنوات حضور الابن خلفاً للوالد، كان الأول تحت رقابة مجهرية ترى بعين الراحل. ثمة سؤال يتكرر بلا هوادة: سعد بماذا يشبه رفيق، ولو كان الأخير محل الأول ماذا كان فعل؟. الأسوأ هو تذكير الإبن بأن الأب كان عملاقاً في السياسة. بعض هذه المقارنة ينطوي على شيء من الصحة. لكن بعضها الغالب ظالم للخلف، لأن المقارنات فاشلة، بأصلها وبنتيجتها، خصوصاً متى تعلقت بالطبيعة البشرية. ويصبح فشلها أشد وطأة ما لم تأخذ بالاعتبار أن عدم التشابه في المقدمات لا يعني إلا تناقضاً في النهايات.

المقارنة السياسية والسلوكية بين الأب والإبن فيها شيء من التعسف. وفيها الكثير من الاعتباطية في السرد. لكنها تبقى واجبة وجائزة في عالم الصحافة. وجوبها أو جوازها يفرضه تلكؤ الوريث عن إعلان ذاته السياسية والجهر بها أمام جمهوره.. وأمام الحلفاء والخصوم.

شغفه الأساس إطعام أسماك القرش، لكنه لم يتنبه إلى أن عالم السياسة هو نادي اسماك القرش. ورث جبلاً من الهموم، في طائفة تعيش مأزقاً فكرياً وسياسياً، وتمزقها التوترات السياسية والجماعات السلفية والعصبيات المذهبية

الأب والابن من عالمين مختلفين، وإن جمعهما الدم والمال. الأول، ابن “البستنجي” الصيداوي. عروبي بتأثير مما ساد عصره. شأنه في ذلك شأن كثيرين في ذاك الزمن. تحول إلى ملياردير بسبب من هجرته وعمله في السعودية التي كانت “عروبتها” مختلفة وحتى متناقضة مع ما شاع من عروبة نادى بها الناصريون والبعثيون. ما أن حمل لقب “الشيخ” حتى بدا كأنه يتملص بشكل ناعم من ماضيه العروبي الذي كان يستدعيه أحياناً للسجال اللبناني. اللقب المُستجد بسطوة المال والديوان الملكي، صالحه مع ما أراده من الهجرة. جعله سياسياً معولماً يشبه حركة المال التي تجوب كل العالم من دون أذونات ومن دون قيود. صار أيضاً “نموذجاً” لـ”ليبرالية إسلامية” تُشبه ملوك الخليج وأمرائه. أصبح صاحب نفوذ ومؤسسات ضخمة وشركات عملاقة. تملك قصوراً في لبنان وسوريا والسعودية كما في العديد من المدن الأوروبية والأميركية. العامل في حقول الحمضيات صار صاحب مَزارع شاسعة في اكثر من بلد. ملكياته العقارية امتدت من لبنان إلى الولايات المتحدة الأميركية. ومن كان علمه محدوداً بسقف الإمكانات المالية المحدود صار مانحاً لعشرات آلاف الطلاب ليدرسوا في أبرز الجامعات العالمية، الاوروبية والاميركية.

أما الوريث، فقد كان على الضد من المُوَرِث. لم يأت من أزمنة العروبة والنضال والشعارات العريضة والقضايا الساخنة. لم يقترب من السياسة، ولم يعرفها، إلا يوم وُليّ على الدم والإرث السياسي. لم يسبق له أن عرف شيئاً عن لبنان وتعقيداته الإنشطارية. أكثر من ذلك، فهو لا يُلم باللغة العربية إلا بتعبيراتها العامية. كان ذلك بسبب من تعليمه ونشأته. يُقال إن شغفه الأهم هو أن يتسكع مع ابنه على ضفة النهر. يهوى التزلج في جبال الألب الاوروبية، وقد اصيب بكسر في ساقه جراء ذلك. شغفه الأساس إطعام أسماك القرش، لكنه لم يتنبه إلى أن عالَم السياسة هو نادي اسماك القرش. ورث جبلاً من الهموم، في طائفة تعيش مأزقاً فكرياً وسياسياً، وتمزقها التوترات السياسية والجماعات السلفية والعصبيات المذهبية.

ما زاد الحريري الإبن إنهاكاً هو انه ورث الكثير من الشركات والمؤسسات التي لم تنجُ من الازمات والتحولات، حيناً بسبب سوء الإدارة والنهب العام من محيطه، وأحياناً بسبب من “المال السياسي” الذي هو أساس أمبراطورية الحريرية، أباً وإبناً وبقية ورثة. فشل هذه المؤسسات أضاف عليه طعناً وازمات. الفشل والانهيار كانا كافيين للطاعنين بشخصه، علماً أن بعضهم يتحمل مسؤوليات جسام في المآلات الكارثية التي انتهى إليها الإبن على مستوى الحضور السياسي والمالي والخدماتي.

تعسف المقارنة بين الأب والإبن تُثبته الفوارق بين زمنين وشخصين. زمن ما بعد اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية وآفاق السلام العربي ـ الاسرائيلي والوعود الكبيرة في مطلع تسعينيات القرن المنصرم. في المقابل، زمن ما بعد إغتيال الأب في العام 2005 وصعود الارهاب القاعدي وإندلاع الثورات وتفجر الساحات والحرب السورية وصعود حزب الله. شتان ما بين الزمنين. جاء رفيق الحريري في زمن فهد بن عبد العزيز وعبدالله بن عبد العزيز وحافظ الاسد وبيل كلينتون وجاك شيراك ومهاتير محمد. أما سعد، فقد جاء في زمن دونالد ترامب ونيكولا ساركوزي ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد وعبد الفتاح السيسي وبشار الأسد.

لم يخرج الابن من جلباب أبيه ولم يبق فيه أيضاً. بدا ضائعاً بين ابتكار دوره وتقليد والده. بين صناعة خطابه والاستناد الى تعابير والده. بقي ضائعا بين نشاط والده وبين كسله الموصوف. وقف حائرا أمام متاهات سياسات معقدة وصعبة وقاتلة، تبدأ في بيروت ولا تنتهي في باكستان وتمر في دمشق وصنعاء وبغداد وتصل الى واشنطن وباريس ولا تستثنى منها تل ابيب.

وصل الى رئاسة الحكومة لكنه لم يستطع ان يحكم. الأسوأ أنه صار أسير التناقضات اللبنانية، لكنه لم يفلح في فهم قواعد اللعبة في بلد صُنع أساساً ليكون ساحةً وليس دولةً. لم يكن لأكثريته النيابية فعالية حقيقية، بل بقيت “اكثرية وهمية”

دور الأب والأبن لا يُقرأ بعيداً عن محنة الشرق الاوسط القائمة على تعبير “لعبة الأمم” وسخطها. كان رفيق الحريري المراكم للسياسات قادراً على تدوير الزوايا والولوج إلى عوالم السياسة ومطابخها الخفية. أدار سياسته بحقائب تفيض مالاً ما لبث أن شح، أو حُجِب زمن إبنه. جاء الأب إلى السياسة اللبنانية بميعاد تم التحضير له جيداً طوال عقد من الزمن. ساعة الصفر هي بضعة إطارات أطلقت ثورة في الشارع أطاحت بحكومة عمر كرامي. الإبن حل ضيفاً على الزعامة، من دون موعد، قبل أن تُصاغ “لبنانيته السياسية” وهي استلزمت جهوداً استثنائية. أتى الإبن ليقف على ضفاف بركة دماء في وسط بيروت، ليُطلب بعدها منه دخول المغارة اللبنانية ممثلاً لعائلة وطائفة ومدد إقليمي.

إقرأ على موقع 180  أميركا من كييف إلى غزّة.. من "المستنقع" إلى "الطوفان"!

كان اغتيال الاب سبباً لطوفان الحلم السني. لم يقدر الإبن على استيعاب جمهور جارف، متطلب. لم يستطع ان يحوّل تياره مؤسسة. لا بل ترك تياره لموجة من المستفيدين الذين تعود جزء كبير منهم على ثقافة الاعاشة والـ”بايرول”، وجزء آخر كان ينتظر المواسم الانتخابية ليحصد ما يقدر من اموال ومساعدات.

نجح سعد حيث لم ينجح والده بسبب القبضة السورية. فقد حصد الإبن عدداً كبيراً من النواب من دون نتيجة. وصل الى رئاسة الحكومة لكنه لم يستطع ان يحكم. الأسوأ أنه صار أسير التناقضات اللبنانية، لكنه لم يفلح في فهم قواعد اللعبة في بلد صُنع أساساً ليكون ساحةً وليس دولةً. لم يكن لأكثريته النيابية فعالية حقيقية، بل بقيت “اكثرية وهمية” تلاعبت بها وبه الأحداث الأمنية والسياسية. أدرك متأخراً معنى التسويات وجاذبيتها عند اللبنانيين. لكن عندما أيقن “ضرورة التسوية”، عقدها وسط جمهور مهزوم ومأزوم لكنه يكابر، ويصر على وضع اللوم على الحريرية. وهذا كانت كلفته باهظة الثمن. في انتخاباته الأخيرة، لم يكن يملك في رصيده غير صُور “السلفي” وعبارات والده “ما حدا اكبر من بلده”. اتخم حياته بـ”السلفي” ويومياته بالوعود الكبيرة من مشروع “سيدر”، إلى وعد الـ 900 الف وظيفة، وسقطات كلامية مثل “انتخبوا صديقي جبران”. والأسوأ هو قبوله بخيار ميشال عون رئيساً للجمهورية.

لم يكن الإبن ضحية تهوره فقط أو ضحية بعض مستشاريه. بل كان في مكان ما ضحية تهور السياسة السعودية مرتين. الأولى، يوم أًجبر الرجل على الذهاب إلى دمشق بأمر من الملك الراحل عبدالله ونام في قصر الاسد “طبيب العيون” الذي قرأ في عينيه انه ليس مرتاحاً، على ما نُقِلَ ورُوِيَ. والثانية، كانت أفظع وأشد وطأة وعُرفت بـ”أزمة الاستقالة من الرياض”. أيضا كان ضحية مجموعة من حلفائه في 14 اذار الذين يريدونه رجل مال ورواتب في آخر كل شهر. محنته راحت تكبر شيئاً فشيئاً، حيناً بتطلب كتلته الإجتماعية والسياسية بأكثر مما يستطيع، ولا بل بأكثر مما يحتمله وزنه في المعادلة اللبنانية.. وأحياناً بسبب من خصومه في “محور المُمانعة” الذين قيّدوه داخلياً وطالبوه بأدوار خارجية ترد عنهم تغول المجتمع الدولي. وفي الحالين، حُملت “الحريرية السياسية” بنسختها الجديدة أكثر مما يريد الوريث. هو يريد أن يكون رئيساً للحكومة وزعيماً لتيار سياسي. طموح يقتضي منه التواضع هنا وشد العصب هناك.. بإختصار أُربِك سعد وأربَكَ الفرصة.

كانت الشخصنة ولا تزال تسيطر على السياسة السعودية التي كانت تعتقد في تلك الفترة أن فتح الباب امام علاقات شخصية يمكن أن يؤدي الى تسهيل التفاهمات السياسية

إرتباك الرؤية السعودية ساهم في تفكيك الحريرية في الوقت الذي كانت تعتقد المملكة انها تساهم في تفعيلها. فقد اعتقد الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز أن الانفتاح على سوريا تحت عنوان العروبة والمصالح المشتركة كفيل بلجم الحضور الإيراني، وتسوية الخلافات العالقة بين الأسد والحريري، فكان أن زار ملك السعودية سوريا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2009 فاتحاً الباب أمام زيارة سعد الحريري إلى سوريا ولقائه ببشار الأسد في أواخر العام نفسه. أفرزت هذه الزيارة انقساما حادا في تيار المستقبل من ناحية وفي وسط حلفائه الآذاريين من ناحية أخرى.

كانت الشخصنة ولا تزال تسيطر على السياسة السعودية التي كانت تعتقد في تلك الفترة أن فتح الباب امام علاقات شخصية يمكن أن يؤدي الى تسهيل التفاهمات السياسية. لم تسر الامور على هذا المنوال إذ ارتفعت حدة التوترات بين سعد الحريري من جهة والنظام السوري وحزب الله من جهة ثانية، وكان أن تجلت في إسقاط حكومته، واضطراره للخروج من البلاد في العام 2011 بعد ورود سلسلة من التقارير الأمنية المخابراتية التي “زعمت” بوجود نية حقيقية لاغتياله.

في هذا العام، إرتفعت ألسنة نار الحريق السوري الكبير. قرر سعد الحريري ان يؤيد “الثورة السورية”، وراهن على نجاحها في إسقاط الأسد وأن عودته ـ هذه المرة إلى السراي الكبير ـ ستكون عبر مطار دمشق، ولكن عودته كانت عبر مطار رفيق الحريري في بيروت. إثر عودته صنع تفاهما نقل العونية من وضعية الحالة لتصبح “العهد” الرئاسي الذي لا يرتبط فقط برئاسة العماد عون بل اتخذ صفة صانع معالم الرئاسة في لبنان بغض النظر عن شخص الرئيس.

كان الاب صاحب ثروة بالمليارات. وصاحب طموح كبير أفضى إلى إنشاء كبريات الشركات عبر العالم وصولاً إلى أصغرها شركة سولديدير. كان سباقاً في الاعلام وبنى مؤسسات خيرية. قاد نخبة من المستشارين عملوا الى جانبه في الثقافة والاعلام وحوار الأديان. أما الإبن فحصد العاصفة. ذهب الى التغريد عبر “تويتر”. لكن التغريد شابه أحياناً “نعيق البوم” فقاده إلى سجالات انطوت على شيء من “السذاجة” السياسية. بساطة قادته رغماً عن إرادته إلى درجة التهور. بعض المستشارين والعاملين عند والده من قبله خرجوا عليه بعدما نالوا ما نالوه من سلطة عزيزة المنال. وهكذا سادت موجة “قلة الوفاء” لدى بعض الحريريين. وقلة الوفاء هذه رهن بقراءة تحركات السفير السعودي في لبنان، ففي لحظة لجأ أحد الكتبة الى إعلان “نهاية الحريرية السياسية”، وما ان وصل السفير السعودي إلى بيت الوسط حتى تغير الموقف (غداً الجزء الثاني والأخير).

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  "كاريش" مُجمّد والحرب مستبعدة.. و"الترسيم" آتٍ