سعادة الشامي بين الحقائق الاقتصادية الموجعة والأوهام المريحة: لا تضحكوا على الناس

في دراسة مطوّلة نشرها معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، يُقدّم نائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني السابق، الدكتور سعادة الشامي، شهادة سياسية – اقتصادية عن تجربة الحكم في واحدة من أحلك المراحل التي عرفها لبنان. يتأمّل الشامي، الاقتصادي الذي راكم أكثر من خمسة وثلاثين عامًا من الخبرة في مؤسسات دولية ولبنانية، في مسار إصلاحي حاول أن يشقّ طريقه وسط نظام طائفي صُمّم عمليًا لتعطيل التغيير.

شغل د. سعادة الشامي منصب نائب رئيس الحكومة بين أيلول/سبتمبر 2021 وشباط/فبراير 2025، وتولّى قيادة الملف الاقتصادي، وإدارة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي انتهت إلى اتفاق على مستوى الموظفين في نيسان/أبريل 2022. إلى جانب ذلك، ترأس عددًا من اللجان الحكومية المعنيّة بالإصلاحات الاقتصادية والهيكلية. سبق هذه التجربة عملٌ طويل في صندوق النقد الدولي امتدّ لعقدين، تولّى خلاله قيادة بعثات في الشرق الأوسط والمشاركة في برامج في أوروبا وإفريقيا وآسيا، قبل أن يصبح مساعد مدير في دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومديرًا لمركز المساعدة الفنية للصندوق في المنطقة. ثم انتقل إلى الأمانة العامة لهيئة الأسواق المالية في لبنان، فموقع كبير الاقتصاديين في بنك الكويت الوطني، كما قدّم مشورة للحكومة اللبنانية في الإصلاحات التي بُني عليها مؤتمر «باريس 3» عام 2007، ودرّس الاقتصاد والمالية في الجامعة الأميركية في بيروت، وعمل مستشارًا لمصرف لبنان وشركة «ماكنزي» ومؤسسات أخرى.

هذه الخلفية، كما يقدّمها الشامي، ليست سيرة ذاتية بقدر ما هي مدخل لفهم دوافعه لقبول منصب يدرك مسبقًا أنّه سيكون «ضدّ التيار»، وهو المعروف عنه بترعرعه في بيئة علمانية قريبة جداً من الحزب السوري القومي الإجتماعي.

لماذا قَبِل الشامي بالمنصب؟

في خضمّ الانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق، قَبِل الشامي تولّي منصب نائب رئيس الحكومة وهو واعٍٍ، كما يقول في دراسته، لحجم العوائق البنيوية التي تنتظره. لم تكن لديه «أوهام كبيرة» حيال طبيعة النظام السياسي والحوكمي في لبنان، ولا تجاه عمق تشابك الاقتصاد السياسي مع مصالح مجموعات نافذة مترابطة بالنخبة الحاكمة. كان يعرف أن أي مسار إصلاحي جدّي سيصطدم تلقائيًا بهذه الشبكة الراسخة.

ومع ذلك، اختار أن يدخل المعترك من باب القناعة والأمل معًا. فالمهمّة التي أُوكلت إليه – قيادة الملف الاقتصادي والتفاوض على برنامج إصلاحي مع صندوق النقد – كانت، بالنسبة إليه، ذات معنى عميق، وتمنحه فرصة لمحاولة «صنع فارق» حقيقي. راهن الشامي أيضًا على أن ضخامة الأزمة، التي تخطّت كل ما عرفه لبنان في تاريخه الحديث، ستدفع حتى أكثر السياسيين تجذّرًا في مواقعهم إلى تغليب المصلحة الوطنية على حسابات النفوذ، في وقت كان ملايين اللبنانيين يتحمّلون العبء الأكبر للانهيار.

لكن هذا الرهان سرعان ما تبيّن أنه في غير محلّه. فالطبقة السياسية وشركاؤها من رجال الأعمال، الذين راكموا امتيازاتهم في ظلّ النظام القديم، لم يكونوا قادرين – أو راغبين – في تخيّل نظام جديد قد ينتزع منهم بعض هذه الامتيازات أو يفرض تغييرات جوهرية على طريقة إدارة الاقتصاد.

طغى الخطاب الشعبوي على الفعل الإصلاحي، وغابت الإرادة الحقيقية، فيما ظلّ الشامي متمسّكًا بقناعة أساسية: واجب المسؤول العام أن يحاول ترك أثر، وأن يقدّم نموذجًا في السلوك العام، وأن يرفض الانصياع للضغوط حين يكون في موقع خدمة الصالح العام.

من الانهيار إلى الاتفاق مع صندوق النقد

يُشدّد الشامي على أن صندوق النقد ليس «منقذًا» ولا «عصًا سحرية». فالدور الذي يلعبه هو توفير دعم مالي وتأمين مظلّة لحشد دعم دولي أوسع، لكن نجاح أي برنامج يبقى مرهونًا بمدى التزام البلد المعني بملكيّة الإصلاح وإرادته السياسية في تنفيذه

عندما تسلّم سعادة الشامي مهمّاته، كان النظام المالي منهارًا، وسعر الصرف في حالة سقوط حر، والودائع محتجزة في المصارف، والرواتب فقدت الجزء الأكبر من قيمتها، وعمليّة نزفٍ حادّ للكفاءات في اتجاه الهجرة، وثقة عامة في أدنى مستوياتها. وفي البيان الوزاري، كان هناك التزام صريح بالتفاوض على اتفاق مع صندوق النقد الدولي لوضع لبنان على مسار تصحيح.

تولّى الشامي رئاسة لجنة ضمّت وزير المالية ووزير الاقتصاد وحاكم مصرف لبنان ومستشارًا لرئيس الجمهورية، وانخرط مع فريق الصندوق في مفاوضات معقّدة ومرهقة انتهت إلى اتفاق على مستوى الموظفين في نيسان/أبريل 2022، أي بعد نحو ستة أشهر فقط على تولّيه المنصب. الاتفاق شكّل إطارًا إصلاحيًا شاملاً: استعادة التوازن المالي، وضع الدين العام على مسار مستدام، تحسين الخدمات العامة، تعزيز الحوكمة، بناء مؤسسات ذات مصداقية، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

لاقى هذا الاتفاق في بداياته ترحيبًا واسعًا، لكن سرعان ما انعكست الأجواء موجة معارضة حادّة وسيل من الانتقادات، قادتها إلى حدّ كبير الفئات التي كانت ستدفع ثمنًا مباشرًا في حال تطبيق الإصلاحات. الاتفاق استند إلى خطة إصلاحية شاملة أعدّها الفريق الحكومي. لم يدّعِ أحد أنها مثالية، لكنها مثّلت، في رأي الشامي، أفضل ما يمكن التوصّل إليه في الظروف القائمة، بل كانت «متساهلة نسبيًا» قياسًا بضخامة الانهيار غير المسبوق في تاريخ لبنان.

ومع ذلك، ضمّت الخطة إجراءات لا يمكن للنخب السياسية والاقتصادية أن تهضمها بسهولة، لأنها كانت تتطلّب تغييرًا جذريًا في طريقة إدارة الاقتصاد ومسارًا شاقًا نحو التعافي، في بلد لا توجد فيه «طرق سهلة» للخروج من الأزمة. كان ممكنًا، نظريًا، السير من دون صندوق النقد أو دعم خارجي، لكن ذلك كان سيعني إجراءات أكثر قسوة في غياب أي تمويل دولي. أما رفض المساعدة من دون القيام بأي شيء في المقابل، فلم يكن في نظره إلا وصفة لتفاقم الكارثة.

يُشدّد الشامي على أن صندوق النقد ليس «منقذًا» ولا «عصًا سحرية». فالدور الذي يلعبه هو توفير دعم مالي وتأمين مظلّة لحشد دعم دولي أوسع، لكن نجاح أي برنامج يبقى مرهونًا بمدى التزام البلد المعني بملكيّة الإصلاح وإرادته السياسية في تنفيذه. في تجارب عديدة حول العالم، سقطت برامج للصندوق بسبب تشخيص خاطئ، لكن عددًا أكبر فشل بسبب غياب الإرادة الداخلية. أما البرامج التي نجحت، فهي تلك التي تبنّت فيها الحكومات إصلاحاتها وسارت بها حتى النهاية.

في مواجهة أطروحات لبنانية تقول إن «الأمور ستصحّح نفسها تدريجيًا»، يحذّر الشامي من تجاهل الكلفة الإنسانية لهذا التراخي: الفقر المتزايد، تآكل الطبقة الوسطى التي تعدّ عماد أي تعافٍ ونمو، وتدمير ما تبقّى من الثقة بمؤسسات الدولة. ويذكّر بأن ثمن عدم التحرّك هائل، ويدفعه أولًا الناس الذين انزلقوا فعليًا إلى هاوية العوز.

المفارقة أن خبرته الطويلة في صندوق النقد، والتي يفترض أن تكون نقطة قوّة، تحوّلت في النقاش اللبناني إلى تهمة. فبعض الأوساط وصمته بأنه «رجل صندوق النقد» داخل الحكومة، وسُوِّق للبرنامج الإصلاحي على أنه «خطة سعادة الشامي» شخصيًا، في محاولة لتحويله إلى هدف مباشر للضغط والتشوي، فيما راح البعض الآخر يتهمه بأنه “خارج السياسة”!

جمعية مصارف لبنان، وإن لم تكن كل المصارف متماهية معها بالكامل، قادت حملة مركّزة لحماية مصالحها. في الخطاب العلني، ادّعت الدفاع عن المودعين؛ وفي الكواليس، عملت على نقل الخسائر من كاهل المساهمين والدائنين الكبار إلى الدولة، أي إلى عموم اللبنانيين. رفضت تحمّل مسؤولية واضحة عن جزء من الانهيار أو قبول شطب جزء من رؤوس أموالها

جبهة مالية اقتصادية ضد الإصلاح

ما إن تبيّنت ملامح البرنامج الإصلاحي حتى اشتغلت ماكينة الدفاع عن النظام القائم. مجموعات مالية نافذة – من بعض المصارف، ومن جمعيات رجال الأعمال، ومن حلفائهم السياسيين – قرأت سريعًا أن أي إصلاح حقيقي سيكشف الخسائر المتراكمة ويُهدّد امتيازات غير خاضعة للمساءلة راكمتها على مدى عقود. فاعتمدت استراتيجية واضحة: إنكار حجم المشكلة، تشويه سمعة المصلحين، وتعطيل كل قرار يمكن أن يحمّلها جزءًا من الكلفة.

جمعية مصارف لبنان، وإن لم تكن كل المصارف متماهية معها بالكامل، قادت حملة مركّزة لحماية مصالحها. في الخطاب العلني، ادّعت الدفاع عن المودعين؛ وفي الكواليس، عملت على نقل الخسائر من كاهل المساهمين والدائنين الكبار إلى الدولة، أي إلى عموم اللبنانيين. رفضت تحمّل مسؤولية واضحة عن جزء من الانهيار أو قبول شطب جزء من رؤوس أموالها، مع أن الدولة بدورها تتحمّل قسطًا من مسؤولية ما حدث، وكان منتظرًا منها أن تساهم في الحفاظ على التماسك الاجتماعي، لا أن تُحمَّل وحدها كامل الكلفة.

وبرغم تمسّك هذه الأطراف بموقف متشدّد يطالب بأن يخسر المساهمون كامل حصصهم قبل أن «يُمسّ دولار واحد» للمودعين، فإنها سعت في الوقت نفسه إلى تقويض الاتفاق مع صندوق النقد الذي سبق أن رحّبت به، وشنّت حملة لتصويره كخطة تستهدف الودائع، طالما أنه لم يُصَغ وفق شروطها. وعندما لم تتمكّن من فرض تغيير جذري في مضمون البرنامج، انتقلت بسرعة إلى خطاب شعبوي قدّمت فيه نفسها «حارسًا أول» لحقوق المودعين، من دون أن تتوقف عند واقع أن كل دولار يُحتفَظ به في رأس المال هو عمليًا دولار يُنتزع من أموال هؤلاء المودعين.

لاحقًا، انزلقت بعض جمعيات رجال الأعمال إلى تبنّي الرواية نفسها، بدوافع متصلة أيضًا بتمثيلها لمصالح مصرفية. خاضت هذه الجمعيات معارك إعلامية وسياسية ضارية لعرقلة البرنامج تحت عناوين شتّى، متّهمة الفريق الحكومي بأنه «يدمّر الاقتصاد». أُعطي لهذه السردية مكبّر صوت إضافي من خلال منابر إعلامية ومنصّات سياسية فضّلت «الأوهام المريحة على الحقائق المؤلمة».

برلمان مسيّس.. وإعلام مسلّح

في هذا المناخ، لم يكن النقاش العام عقلانيًا. أدركت المجموعات المالية أن تشكيل الرأي العام لا يقلّ أهمية عن التأثير في القرار الرسمي، فانتقلت المعركة إلى البرلمان. الجلسات التي كان يُفترض أن تُخصّص لتشريح مشاريع القوانين تحوّلت، في كثير من الأحيان، إلى مسرح لغضب شعبوي ومزايدات سياسية. أصوات قليلة من النواب الذين أرادوا تغييرًا حقيقيًا ضاعت وسط ضجيج كتل أكثر نفوذًا. بعض اللجان رفض أصلًا الاجتماع، بحجة أن الحكومة لا تمتلك برنامجًا إصلاحيًا، فيما كان الهدف الحقيقي هو تعطيل الوقت وإرهاق المسار إلى أن يملّ الرأي العام من المتابعة.

توازى ذلك مع حملة إعلامية منظّمة ضخّت رسائل متكرّرة: «الخطة تشطب الودائع»، «ستدمّر القطاع المصرفي»، و«المؤسسات الأجنبية تُملي على لبنان سياساته». في بلد مُنهك ويفتقر أساسًا إلى الثقة، وجدت هذه الرسائل أرضًا خصبة. المودعون الذين تضرّروا أكثر من غيرهم تمسّكوا بأي وعود باستعادة مدخراتهم، حتى لو جاءت من الجهات نفسها التي استفادت من النظام السابق.

من خلال هذه التجربة، يستنتج سعادة الشامي أن مقاومة الإصلاح نادرًا ما تعلن نفسها صراحة؛ بل تعمل عبر التأجيل والتحريف والالتفاف. تختبئ خلف ذرائع قانونية، أو خطاب عن السيادة، أو طلب المزيد من الوقت والدراسة. كل تأجيل يضعف الزخم، إلى أن يتحوّل الشلل سياسة مُعلنة. وفي عالم السياسة اللبناني، يبدو أن «الزمن بلا قيمة»، كما يصفه، وأن كل يوم تأخير يمرّ من دون أن يدفع أحد كلفته.

تُظهر دراسة الشامي أن الأزمة لم تولد في فراغ. هي حصيلة عقود من السياسات السيئة التي احتضنتها منظومة حوكمة مشوّهة، تقوم على مبدأ التوافق الشامل الذي يتحوّل عمليًا إلى حقّ فيتو متبادَل. الترتيب الذي أعقب الحرب الأهلية، وكان مفترضًا أن يحفظ التوازن الطائفي، تطوّر تدريجيًا إلى آلة اصطدام تمنح كل طرف القدرة على تعطيل أي قرار من دون أن يتحمّل كلفة هذا التعطيل

حكومة منقسمة ودعم خجول

داخل مجلس الوزراء نفسه، لم يكن المشهد أفضل حالًا. مقترحات الإصلاح واجهت تردّدًا وتشكيكًا وصمتًا محسوبًا. بعض الوزراء، بمن فيهم من كانوا جزءًا من فريق التفاوض مع صندوق النقد، انقلبوا لاحقًا على الاتفاق، وشاركوا في مسيرات المعارضة، وظهروا على الشاشات مكرّرين خطاب الشارع ضد «الخطة» والمسؤولين عنها. دعم الحكومة للإصلاح ظلّ في أفضل الأحوال «فاتراً».

غياب خطاب حكومي موحّد زاد الأمر تعقيدًا. الإصلاح يتطلّب انسجامًا: حكومة تخاطب الداخل والخارج برسالة واحدة، واضحة ومتماسكة. لكن تعدّد الأصوات المتناقضة داخلها ضرب المصداقية وعمّق حالة اللايقين. في ظل هذا الضباب، يسمع الناس الكثير من الادعاءات والقليل من الحقائق، فيفقدون الثقة بالجميع.

هنا يشير الشامي إلى أن كثيرًا من النقاشات داخل مجلس الوزراء تعاملت مع الإصلاح بوصفه «عبئًا سياسيًا» لا «ضرورة وطنية». المشاريع كانت تُقاس بمدى تأثيرها الانتخابي أو الحزبي، لا بمضمونها التقني أو جدواها الاقتصادية. بعض الوزراء نقل حرفيًا حجج ممثلي القطاع المالي وجماعات الضغط، في مشهد يختصر كيف تصبح الحقيقة بلا وزن حين لا تخدم مصالح السلطة.

إقرأ على موقع 180  السعودية وآل الحريري.. شتّان ما بين الأب والإبن

ويقرّ بأن الحكومة أخطأت أيضًا في تقليل شأن «قوة السردية». لم تكن هناك استراتيجية تواصلية حقيقية لشرح ما تفعله الحكومة ولماذا تفعله، على الرغم من الحاجة الماسّة لذلك. الصحة التقنية وحدها لا تكفي في سوق سياسي يحكمه الخوف. حين تترك فراغًا في الشرح، تملأه القوى المتضرّرة بسرديتها الخاصة، التي تتزيّا بثوب «حماية الناس»، فيما تدافع عن امتيازاتها.

التراجع عن الإصلاح يعني القبول بانحدار مستمر. كلفة اللاقرار تُقاس أيضًا بجيل كامل من الشباب الذين يهاجرون لأنهم لم يعودوا يرون مستقبلًا في وطنهم. عندما تفشل الدولة في الإصلاح، تتنازل عمليًا عن شرعيتها، وتترك المجال مفتوحًا أمام قوى طائفية وزبائنية ومصالح خاصة تملأ الفراغ بسرعة

نظام مبني على تعطيل التغيير

تُظهر دراسة الشامي أن الأزمة لم تولد في فراغ. هي حصيلة عقود من السياسات السيئة التي احتضنتها منظومة حوكمة مشوّهة، تقوم على مبدأ التوافق الشامل الذي يتحوّل عمليًا إلى حقّ فيتو متبادَل. الترتيب الذي أعقب الحرب الأهلية، وكان مفترضًا أن يحفظ التوازن الطائفي، تطوّر تدريجيًا إلى آلة اصطدام تمنح كل طرف القدرة على تعطيل أي قرار من دون أن يتحمّل كلفة هذا التعطيل.

في مثل هكذا نظام، تصبح حتى الإصلاحات الأكثر إلحاحًا رهينة مساومات بلا نهاية. من حيث المبدأ، التوافق أمر إيجابي؛ لكن في مواجهة انهيار شامل، يصبح «التوافق الكامل» هدفًا مستحيلًا، وذريعة لعدم اتخاذ أي قرار. حين يستطيع كل مشارك أن يوقف القرار من دون أن يُحاسَب، تكون النتيجة شللًا بنيويًا، ولجانًا بلا نهاية، ومسؤولية تتبعثر في ضباب «الحكم الجماعي».

يؤكد الشامي أن الانهيار المالي كشف هذا الخلل بأوضح صوره: الجميع يقرّ بالحاجة إلى الإصلاح، لكن لا أحد يريد أن يكون أوّل من يتحمّل كلفته. السياسيون يخشون خسارة قواعدهم إن تبنّوا إجراءات قاسية؛ النواب يزايدون بخطاب طائفي وشعبوي؛ حتى التكنوقراط يتردّدون خوفًا على مستقبلهم الوزاري. هكذا ينتظر الجميع أن يتحرّك أحدهم أولًا، فلا يتحرّك أحد.

وهذا الشلل، كما يُشير، يتجاوز الاقتصاد. إنه يطبع معالجة كل قضية وطنية: من الكهرباء إلى التعليم، ومن الإدارة العامة إلى السياسة الخارجية. النظام يكافئ «ثقافة التهرّب»، حيث يصبح البقاء في السلطة مرادفًا لعدم اتخاذ القرار، مع أن كلفة هذا التهرّب، على المدى الطويل، تفوق بكثير كلفة أي قرار صعب كان يمكن اتخاذه في الوقت المناسب.

الإصلاح.. التزام أخلاقي

في مواجهة هذه المعطيات، يُقرّ الشامي بأنه سأل نفسه مرارًا: هل ما يقوم به يستحق هذا القدر من العناء؟ كل مبادرة واجهت مقاومة، كل اقتراح تعرّض للتأجيل أو التفريغ من مضمونه أو التحريف. المفارقة أن المدافعين عن الوضع القائم – الذين شارك كثر منهم في صناعة الأزمة، وساهموا في تطمين الناس بعبارات من نوع «كل شيء تحت السيطرة» – هم أنفسهم من قدّموا النصائح للمصلحين، بدل أن يعتذروا أو يغادروا الحياة العامة.

لكن الاستسلام، في نظره، لم يكن خيارًا. التراجع عن الإصلاح يعني القبول بانحدار مستمر. كلفة اللاقرار تُقاس أيضًا بجيل كامل من الشباب الذين يهاجرون لأنهم لم يعودوا يرون مستقبلًا في وطنهم. عندما تفشل الدولة في الإصلاح، تتنازل عمليًا عن شرعيتها، وتترك المجال مفتوحًا أمام قوى طائفية وزبائنية ومصالح خاصة تملأ الفراغ بسرعة.

من هنا، يرى الشامي أن الإصلاح ليس تمرينًا تقنيًا باردًا، بل التزام أخلاقي بأن تكون «المصلحة العامة أولًا»، وأن تُصنع السياسات لخدمة الناس لا الفئات. المساعدة الخارجية، مهما بلغت، لا يمكن أن تحلّ محل الملكية الوطنية. لا برنامج لصندوق النقد الدولي ولا حزمة دعم دولية يمكن أن تنجح ما لم يقرّر القادة المحليون أن الحقيقة، مهما كانت مؤلمة، أفضل من الوهم.

صحيح أن أزمة لبنان عميقة وأن الطبقة السياسية متجذّرة، وربما لم يحن بعد وقت «العلاج بالصدمة» الذي يعيد تشكيل النظام السياسي من جذوره، لكن هذا لا يعني الاستسلام للشلل. حتى الخطوات الصغيرة، متى كانت مدروسة وذات صدقية، أفضل بكثير من الجمود. التغيير يبدأ حين تُقال الحقيقة ويُصَرّ على تكرارها. كل خطوة موثوقة تفتح المجال لخطوة أخرى، فلا يعود المطلوب «معجزة»، بل سلسلة جهود حازمة تعيد بناء الثقة بالتدريج.

لكن الوقت ليس في صالح لبنان. المنطقة تتحوّل بسرعة، والاقتصادات الناشئة تُسرّع خطاها نحو الرقمنة والذكاء الاصطناعي والاستثمار في رأس المال البشري.. ومن دون قفزة إصلاحية واضحة، لن يلحق لبنان بجيرانه، بل سيتخلّف أكثر. ففي عالم اليوم، الركود ليس ثباتًا بل شكل من أشكال التراجع.

دروس من التجربة

تستخلص دراسة الشامي مجموعة دروس لصانعي السياسات الحاليين والمستقبليين، يمكن تلخيصها في الآتي:

أولًا؛ وضوح الرؤية ووحدة الرسالة
لا يمكن لأي إصلاح أن يتقدّم من دون استراتيجية متماسكة ومفهومة للرأي العام. المبادرات المتفرّقة، مهما كانت نواياها حسنة، تغرق في الالتباس إذا لم تُبنَ على رؤية طويلة الأمد، بأهداف قابلة للقياس، ورسائل تُكرَّر وتُشرَح باستمرار. لا بدّ من الاعتراف الصريح بحجم الخسائر وعمق الأزمة؛ في الفراغ، يحتلّ الإنكار مكان الحقيقة، ويتحوّل «الإصلاح» شعارًا بلا مضمون.

لن يكون إصلاح لبنان «حدثًا واحدًا» ولا «خطة واحدة»، بل مسارًا طويلًا ومتدرّجًا يعيد بناء الثقة المهدورة، خطوة خطوة. كل إجراء ناجح يعيد جزءًا من هذه الثقة

ثانيًا؛ مؤسسات كفوءة وخاضعة للمساءلة
الإصلاح الناجع يجب أن يركّز على المؤسسات الحاسمة: مصرف لبنان، وزارة المالية، القضاء قبل غيرها. تقوية هذه الأعمدة وتحصينها من التدخّل السياسي والمالي يخلق قوة دفع على مستوى النظام برمّته. استقلالية المصرف المركزي، مثلًا، يجب أن تُستخدم لحماية السياسة النقدية، لا لخدمة طموحات سياسية. وفي المقابل، لا بد من شفافية ومساءلة حقيقية وتعيينات مبنية على الكفاءة.

ثالثًا؛ تسلسل وحسم معًا
الإصلاح لا يعني فعل كل شيء دفعة واحدة، بل ترتيب الأولويات مع اتخاذ قرارات حاسمة في نقاط مفصلية. اعتماد إطار واضح وموثوق لمعالجة أوضاع المصارف كان سيشكل، برأي الشامي، إشارة أساسية للمودعين وللشركاء الدوليين على جدّية النوايا. لكن غياب التسلسل الصحيح، مع جدل لا ينتهي حول «ما يجب أن يأتي أولًا»، تحوّل إلى ذريعة مثالية لعدم فعل أي شيء.

رابعًا؛ الشفافية كدرع ضد التضليل
في مجتمع منهك من انعدام الثقة، لا يمكن التعامل مع الإفصاح باعتباره ترفًا. نشر بيانات اقتصادية دقيقة، إجراء تدقيقات في مؤسسات الدولة، وتقديم تحديثات دورية عن مسار الإصلاح، كلها عناصر ضرورية لمواجهة حملات التضليل ونظريات المؤامرة، ولتأسيس حدّ أدنى من المساءلة.

خامسًا؛ الدعم الدولي مهمّ لكنه لا يكفي
الشراكة مع المجتمع الدولي ضرورية لتخفيف ألم التكيّف، لكنها لا يمكن أن تحلّ محلّ المسؤولية المحلية. دعم الشركاء كان – وسيبقى – مشروطًا بخطوات تتّخذها الحكومة نفسها. على الإصلاح أن يُبنى في مؤسسات لبنانية وبقيادة لبنانية؛ وإلا تحوّلت أي خطة إلى «إملاء خارجي» في نظر الرأي العام، بدل أن تُفهَم كضرورة وطنية. وفي المقابل، الاكتفاء برفع شعار «الاعتماد على الذات» يتطلّب إجراءات قاسية قد لا يحتملها المجتمع.

سادساً؛ كسر الرابط العضوي بين السياسة والمصالح الخاصة
أي إصلاح لن يدوم ما دام «التحالف السياسي–المالي» مسيطرًا. هذا التشابك بين السياسيين والفاعلين الماليين والتجاريين الأقوياء حوّل رسم السياسات إلى معركة دفاع عن البقاء الشخصي، والبرلمان إلى ساحة تعطيل. فكّ هذا الترابط يتطلّب تشديد قواعد تضارب المصالح والتنظيم، لكنه يحتاج أيضًا إلى كشف آليات التأثير التي تجعل المصلحة الخاصة تملي السياسة العامة. هنا يبرز دور الإعلام. غير أن الإعلام نفسه، حين يغدو جزءًا من هذا التحالف، يضيف إلى المعادلة ضلعًا ثالثًا، ما يسميه الشامي «PoliFinMed» – أي التزاوج بين السياسة والمال والإعلام، في كتلة واحدة تعيق التغيير.

سابعًا؛ التقدّم التدريجي يصنع زخمًا
لا يتوقّع الشامي إصلاحًا جذريًا للنظام السياسي في المدى القصير. لكن هذا لا يعني الانتظار. حتى الإجراءات المتواضعة يمكن أن تنتج زخمًا إذا كانت ذات صدقية. الزخم يغيّر التوقعات ويعيد رسم الحوافز، ويفتح الباب على تحوّلات أوسع كانت قبل ذلك غير متخيَّلة.

ثامنًا؛ الإصلاح عملية مستمرّة لإعادة بناء الثقة
لن يكون إصلاح لبنان «حدثًا واحدًا» ولا «خطة واحدة»، بل مسارًا طويلًا ومتدرّجًا يعيد بناء الثقة المهدورة، خطوة خطوة. كل إجراء ناجح يعيد جزءًا من هذه الثقة. لكن شرط ذلك توافر استمرارية في الحكم، وهي، كما يلاحظ الشامي، لم تتوفّر كثيرًا في التجارب اللبنانية الأخيرة.

تاسعًا؛ النزاهة الشخصية لا تزال ضرورية
تحت ضغط التسويات والمساومات، يتعرّض المسؤولون لإغراءات متواصلة لتليين المواقف وتأجيل الخطوات وتجنّب المواجهة. لكن التنازل في مسائل المبدأ، في رأيه، يعني خيانة جوهر الخدمة العامة. في لحظات الشك، تصبح هذه المبادئ نقطة ارتكاز تمنح الوضوح وسط ضباب السياسة.

يصرّ الشامي على أن الخدمة العامة داخل نظام معطوب ليست فعلًا عديم الجدوى، بل فعل إيمان بإمكان مستقبل أفضل. المهمّ هو الحفاظ على الاعتقاد بأن الحكم يمكن أن يكون نزيهًا، وأن المبادئ لا تزال قادرة على توجيه السياسة، وأن الجيل المقبل ليس محكومًا بوراثة التراجع وحده

ما معنى القيادة؟

تستدعي دراسة الدكتور سعادة الشامي تعريفًا للقيادة لا يقوم على البقاء في السلطة، بل على الاستعداد لخسارتها إذا تطلّب الأمر. القيادة، كما يصفها، هي شجاعة مواجهة القوى المتجذّرة، والجرأة على قول الحقيقة حين يكون الصمت أكثر أمانًا، والاستعداد لتحمّل الأكلاف الشخصية في سبيل الصالح العام. هي أيضًا القدرة على شرح القرارات غير الشعبية والتمسّك بها.

بينما يظلّ التوافق مطلوبًا، لا يمكن اختزال اتخاذ القرارات بشرط التوافق الكامل. على القادة الحقيقيين أن يكونوا مستعدين للتضحية بمناصبهم في سبيل قضية صحيحة، لا الاحتفاظ بها من أجل أسباب خاطئة. قد لا ينجح المصلحون دائمًا، لكن بإمكانهم، في الحد الأدنى، رفض إعطاء شرعية لنظام قائم على الخداع. فالناس يقبلون التضحيات إذا شعروا أن توزيعها عادل وأن لها هدفًا واضحًا؛ ما لا يقبلونه هو النفاق.

المقاومة بدل التواطؤ

حين يتأمّل الشامي تجربته في الحكومة، لا يلفت نظره فقط عداء مجموعات أصحاب المصالح، بل أيضًا تراخي العديد من صانعي القرار الذين عرفوا الحقيقة وفضّلوا تجاهلها أو تحريفها أو الصمت عنها. الخوف، المصلحة الشخصية، وراحة الوضع القائم، تبقى في نظره أكبر العوائق.

تعافي لبنان لن يأتي، كما يختم، من المساعدات الخارجية أو من الشعارات الرنّانة، بل من تحمّل المسؤولية: حين يعود معنى الخدمة العامة إلى أصله بوصفه واجبًا لا امتيازًا، وحين يظهر قادة يمتلكون الشجاعة للتحرّك في أصعب الظروف.

عندما تفشل الأنظمة، يبقى أمام من يعملون داخلها ثلاثة خيارات: التكيّف، أو التواطؤ، أو المقاومة. يختار الشامي «المقاومة» – لا لأن النجاح مضمون، بل لأن الصمت شكل من أشكال التواطؤ. الإصلاح، في الجوهر، هو محاولة لاستعادة النزاهة كمبدأ حاكم للحياة العامة.

ومهما بدت الصورة قاتمة، يُصرّ الشامي على أن الخدمة العامة داخل نظام معطوب ليست فعلًا عديم الجدوى، بل فعل إيمان بإمكان مستقبل أفضل. المهمّ هو الحفاظ على الاعتقاد بأن الحكم يمكن أن يكون نزيهًا، وأن المبادئ لا تزال قادرة على توجيه السياسة، وأن الجيل المقبل ليس محكومًا بوراثة التراجع وحده. سيعود الأمل، كما يقول، يوم تتقدّم شجاعة القيادة على الإنكار والخوف، وتصبح الحقيقة، مهما كانت قاسية، معيارًا للسياسة بدل أن تبقى ضحية حساباتها القصيرة الأمد.

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  المقاومة ليست.. تهمة