في ظلّ هذا المشهد، تواجه دول الخليج، التي تعتمد تاريخيّاً على الغرب كشريكٍ أساسيٍّ في أسواق الطّاقة والاستثمارات الأجنبيّة، مجموعةٌ من التحدّيات المزدوجة، من ضغوطٍ على إيراداتها النّفطيّة جراء التحوّل الطاقيّ الغربيّ المتسارع، وقيودٍ متزايدةٍ على الحصول على التكنولوجيا المتقدّمة، وتراجعٍ في الاستثمار الأجنبيّ المباشر.
هذا التّحليل يستكشف كيف أجبرت هذه الضغوط دول الخليج على إعادة صياغة مقارباتها التّنمويّة، معتمدةً على صناديقها السّياديّة العملاقة لتعويض الفجوات والبحث عن شراكاتٍ استراتيجيّةٍ جديدةٍ في الشّرق، الأمر الذي يضعها في خضمّ لعبة توازنٍ محفوفةٍ بالمخاطر في عصر الاستقطاب العالميّ الجديد.
أولاً؛ ضغوطٌ على أسواق الطّاقة التّقليديّة
تُعَدّ دول الخليج من أكبر مصدّري النّفط والغاز عالميًّا، لكنّ هذا الدّور الاقتصاديّ المحوريّ يواجه تحديًّا وجوديًّا متصاعدًا يتمثّل في التحوّل الطّاقيّ الغربيّ المتسارع الذي يهدف إلى خفض الاعتماد على الوقود الأحفوريّ. هذا التّوجّه يفرض ضغوطًا مباشرةً على الإيرادات الخليجيّة، فبالرّغم من التّحديثات المستمرّة التي تصدرها وكالة الطّاقة الدّوليّة (IEA)، إلّا أنّ الاتّجاه العام يشير إلى أنّ الطّلب على النّفط مُرَشَّحٌ للتّباطؤ بشكلٍ ملحوظٍ خلال العقد المقبل، مدفوعًا بالانتشار الواسع لمركبات السّيّارات الكهربائيّة عالميًا وتبنّي الدّول سياساتٍ مناخيّةٍ أكثر صرامةً للوصول إلى الحياد الكربونيّ.
هذا التباطؤ يثير القلق بشكل خاص؛ إذ حذّرت منظّمة الدّول المصدّرة للنّفط (OPEC) من أنّ الاستثمارات الضّخمة في مشاريع الهيدروكربون باتت تواجه خطر التحوّل إلى “أصولٍ متعطّلةٍ” (Stranded Assets)، وهو مصطلحٌ يشير إلى الأصول التي تخسر قيمتها فجأةً قبل نهاية عمرها الافتراضيّ نتيجةً لتغيّرات السّوق والسّياسات المناخيّة. وتؤكّد تقارير وكالة الطّاقة الدّوليّة هذا التّهديد من خلال توقّعاتها لمستقبل الطّلب، بينما تعكس تحليلات أوبك حول استثمار المخاطر المتزايدة في القطاع. يهدّد هذا السّيناريو استقرار الإيرادات النّفطيّة التي تشكّل العصب الرئيس للموازنات الحكوميّة في المنطقة، ويُضْعَفُ قدرة هذه الحكومات على تمويل المشاريع التّنمويّة الضّخمة الرّامية إلى تنويع الاقتصادات بعيدًا عن النّفط، كما يجعلها أكثر عرضةّ للتّأثّر الشّديد بأيّ تقلّباتٍ غير متوقعةٍ في الأسعار العالميّة.
ثانياً؛ قيود التّكنولوجيا والاستثمارات المشروطة
يمكن اعتبار القيود المتزايدة والمفروضة على تصدير التكنولوجيا المتقدّمة ذات الاستخدام المزدوج إحدى أبرز تجلّيات القوميّة الاقتصاديّة الغربية الحديثة، والتي تهدف بشكلٍ أساسيٍّ إلى حماية الميزة التّكنولوجيّة الاستراتيجيّة في سياق المنافسة العالميّة. فقد شدّدت قوىً رئيسيّةً كالولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ أنظمة الرّقابة على الصّادرات والاستثمارات الأجنبيّة، لا سيما تلك المتعلّقة بمجالات الذّكاء الاصطناعيّ، وأشباه الموصلات، ومشاريع الطّاقة المتجدّدة، والتّقنيّات الدّفاعيّة الحسّاسة، مستخدمةً أدواتٍ مثل ضوابط تصدير أشباه الموصلات الموجّهة ضد المنافسين. هذه السّياسات، التي وثّقها تحليلٌ صادرٌ عن مركز أتلانتيك كاونسل في العام 2024، تُضْعِفُ بشكلٍ مباشرٍ قدرة دول الخليج على استيراد المكوّنات التّكنولوجيّة الغربيّة الأساسيّة لدعم وتيرة تنفيذ خططها التّنمويّة الطّموحة، مثل “رؤية 2030” السعودية و«استراتيجيّة الإمارات الصناعيّة»، التي تعتمد في جوهرها على الرّقمنة والذّكاء الاصطناعيّ لتحقيق التّنويع الاقتصاديّ بناءً على تحليلات ماكنزي حول الذّكاء الاصطناعيّ في دول مجلس التّعاون.
وكنتيجةٍ حتميّةٍ لهذه القيود، باتت دول الخليج تبحث ببراغماتيّةٍ عن بدائل سريعةٍ لتلبية احتياجاتها التّقنيّة، متّجهةً نحو الأسواق الآسيوية، وخاصّة الصّين وكوريا الجنوبيّة، التي برزت كشريكٍ استراتيجيٍّ في أبحاث الذّكاء الاصطناعيّ وتوريد الرّقائق المتقدّمة، حيث تشير التّقارير إلى ارتفاع وتيرة التّعاون في قطاع الدّفاع والذّكاء الاصطناعيّ مع هذه الدول (لمزيدٍ من التّفاصيل حول التّعاون الدّفاعيّ يمكن الرّجوع إلى مركز الإمارات للسّياسات). ومع ذلك، لا يخلو هذا التّوجّه من مخاطر جديدةٍ، إذ يفتح الباب أمام التّعرّض للتّوتّرات الجيوسياسيّة المتصاعدة بين المحورين الغربيّ والشّرقيّ، ويجعل الدّول الخليجيّة طرفاً في حرب التّكنولوجيا الباردة الجديدة، لا سيما في ظلّ المخاوف الغربيّة من تحويل هذه التّقنيات المتقدّمة إلى جهاتٍ منافسةٍ.
ثالثاً؛ تراجع تدفّقات الاستثمار الأجنبيّ
بالتوازي مع ضغوط الطّاقة والتّكنولوجيا، أدّت السّياسات القوميّة الاقتصاديّة الغربيّة إلى تراجع جاذبية الاستثمار الخارجيّ، حيث أعادت هذه الدّول توجيه جزءٍ من رؤوس الأموال نحو الدّاخل لدعم سلاسل الإمداد الوطنيّة. يتفاقم هذا التّحدّي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة العالميّة، خاصةً بعد دورات التّشديد النّقديّ من قبل الاحتياطيّ الفيدراليّ الأميركيّ. وكما أشار صندوق النّقد الدّولي، فإن ارتفاع تكلفة الاقتراض عالمياًّ يرفع بالمقابل من تكلفة تمويل المشاريع طويلة الأجل في المنطقة، ويضعف شهيّة المستثمرين الدّوليّين للمخاطرة، خاصةً في الأسواق النّاشئة ذات الحاجات التّمويليّة المرتفعة.
ولمواجهة هذا التّباطؤ، عزّزت دول الخليج بشكلٍ كبيرٍ من دور صناديقها السّياديّة العملاقة، مثل صندوق الاستثمارات العامّة السعوديّ وجهاز أبو ظبي للاستثمار (ADIA) ، كـ”المستثمر الأوّل” أو “مشتري الملاذ الأخير” لتمويل مشاريعها التّنمويّة. وفي هذا السّياق، أكّدت دراساتٌ حديثةٌ (أشار إليها صندوق النقد) أنّ الاعتماد المتزايد على التّمويل الدّاخلي للصّناديق السّياديّة، على الرّغم من ضخامته (بأصولٍ تقدّر بتريليونات الدولارات)، قد يكون أقلّ فعاليةً بمرتين ونصف في توليد نموّ النّاتج المحليّ الإجماليّ غير النفطيّ مقارنةً بالاستثمار الأجنبيّ المباشر القادم من الخارج. ويكمن الخطر هنا في أنّ هذا الاعتماد الكبير على الصّناديق السّياديّة لتمويل البنية التّحتيّة محليّاً يقلّل من تنوّع مصادر التّمويل ويعرّض الاقتصادات المحلّيّة لمخاطر أكبر، كاحتمال اضطرار الحكومات إلى السّحب من أصول الصّناديق لتغطية أيّ عجزٍ مستقبليٍّ في الميزانيّة، أو بطء نمو النّاتج غير النّفطيّ بالوتيرة المطلوبة لتحقيق أهداف التّنويع.
رابعاً؛ نحو تنويعٍ جغرافيٍّ جديدٍ
تضطلع الصّناديق السّياديّة الخليجيّة، التي تدير أصولاً ضخمةً وتقود صفقات الاستثمار الحكوميّة عالميّاً، بدورٍ محوريٍّ في سدّ الفجوات الاستثماريّة المحلّيّة ودفع خطط التّنويع. إلا أنّ البيئة العالميّة أصبحت أكثر تعقيداً؛ فقد أدّى تشديد الغرب لإجراءات الامتثال الماليّ (Compliance) والتّدقيق في الاستثمارات الأجنبيّة، خاصةّ في القطاعات الحسّاسة مثل التّكنولوجيا والبنية التّحتيّة، إلى زيادة تعقيد تحرّكات هذه الصّناديق في الأسواق التّقليديّة. هذا الضّغط، الذي أشارت إليه تقاريرٌ (مثل ما نشرته رويترز وبلومبيرغ) دفع الصّناديق لاتّخاذ قرارٍ استراتيجيٍّ بتنويع محافظها الجغرافيّة بعيداً عن الأسواق التّقليديّة في أوروبا وأميركا الشّماليّة.
واستجابةً لتلك القيود وتعزيزاً لاستراتيجيّات التّنويع، تتّجه بوصلة الاستثمارات الخليجيّة بقوةٍ نحو آسيا، لا سيما الصّين والهند، وأفريقيا الواعدة، حيث يُنْظَرُ إليها كبدائل أسرع نموّاً وأقلّ تعقيداً من النّاحية التّنظيميّة. هذا التّحوّل يشمل استثماراتٍ ضخمةً في البنية التّحتيّة والموارد الطبيعيّة، كما يتّضح من الدور الإماراتيّ كـرابع أكبر مستثمرٍ في أفريقيا بصفقاتٍ كبرى. وعلى الصّعيد القطاعيّ، تُعيدُ الصّناديق تصميم استراتيجيّاتها للتّركيز على قطاعات المستقبل، مثل الذّكاء الاصطناعيّ، والبنية التّحتيّة الرقميّة، والطّاقة المتجدّدة، بهدف تحقيق عوائد مستدامةٍ وتلبية احتياجات الاقتصادات المحلّيّة.
وبالرّغم من هذه الجهود الطّموحة، تظلّ أسواق المال المحلّيّة عرضةً لـتقلّبات أسعار النّفط العالميّة، حيث يرتبط أداؤها ارتباطاً وثيقاً بمسار عائدات الطّاقة، كما أكدت تحليلات Markets.com، ما يُبْقي الاقتصادات الخليجيّة في حالة انكشافٍ جزئيٍّ. إنّ هذا التّداخل بين ضغوط الامتثال الدّوليّ التي تحدّ من حرّية الحركة في الغرب، والتوجّه نحو أسواقٍ ناشئةٍ جديدةٍ، واستمرار التعرّض لمخاطر أسعار النّفط، يجعل من الضّروري على الصّناديق السياديّة أن تُواصِلَ إعادة تصميم استراتيجيّاتها بشكلٍ أكثر مرونةً وشفافيّةً، مع تعزيز معايير الحوكمة للتّقليل من المخاطر الجيوسياسيّة والاقتصاديّة.
خامساً؛ فرص التحوّل الاستراتيجيّ
برغم الضّغوط النّاجمة عن القوميّة الاقتصاديّة الغربيّة وتشديد إجراءات الامتثال، فإن هذه التّحدّيات خلقت فرصاً غير مسبوقةٍ لدول الخليج لإعادة تشكيل شبكة شركائها الدّوليّين، الأمر الذي يعزّز من استقلاليّة قراراتها الاقتصاديّة. وقد شهدت الأعوام الأخيرة توسعاً لافتاً في الاستثمارات والشّراكات المشتركة مع القوى الآسيويّة الكبرى، مثل الصّين والهند وكوريا الجنوبيّة، على حساب الأسواق الأوروبيّة والأميركيّة، ويُعْزى هذا التّحوّل إلى التّقارب في الأهداف التّنمويّة ونقل التكنولوجيا.
ويُظْهِرُ هذا التوجه الجديد انخراطاً خليجياً أكثر وضوحاً في المحور الآسيوي. فكما أشار تقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي (2025)، أصبح الانفتاح الخليجي على الشركاء غير الغربيين أكثر رسوخاً، خاصة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والطاقة المتجددة، وتطوير البنية التحتية الرقمية. هذا التبادل لا يقتصر على الأموال، بل يمتد إلى توطين سلاسل الإمداد، مما يدعم بشكل مباشر أهداف الرؤى الوطنية (مثل رؤية 2030) لتنويع الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي. وتُظهر التوقعات نمواً كبيراً، حيث يتوقع للتجارة الخليجية-الصينية أن تتجاوز نظيرتها مع الغرب بحلول عام 2027، وفقاً لتقديرات Asia House.
غير أنّ هذا التوجّه يحمل معه معادلةً جيوسياسيّةً دقيقةً. ففي الوقت الذي يعزّز فيه تعميق العلاقات مع آسيا من الاستقلاليّة الاقتصاديّة لدول الخليج، فإنّه في الوقت ذاته يعرّض المنطقة لمخاطر الوقوع في قلب المنافسة الجيواقتصاديّة بين القوى الكبرى، أي بين الولايات المتّحدة وحلفائها التقليديين من جهة، والصين وروسيا من جهةٍ أخرى. ويشكّل الحفاظ على “التّوازن الاستراتيجيّ” تحدّياً مركزيّاً، حيث تسعى دول الخليج للحصول على المظلّة الأمنيّة الغربيّة التقليديّة مع الاستفادة من التدفّقات الماليّة والتّقنيّة الآسيويّة، ما يتطلّب جهداً دبلوماسيّاً واقتصاديّاً مستمرّاً لضمان أن تكون الشّراكات الآسيويّة عامل توازنٍ وليس استقطاب.
في الختام، يُظْهِرُ التحليل أنّ اقتصادات الخليج تقف اليوم عند مفترق طرقٍ تاريخيِّ، حيث لم تعد مجرّد أسواقٍ نفطيّةٍ تتأثّر بالأسعار العالميّة، بل أصبحت قوىً جيواقتصاديّةً صاعدةً تمتلك أدواتٍ استثماريّةً ضخمةً وإرادةً قويّةً لتشكيل مستقبلها. لقد نجحت دول المنطقة في تحويل التّحدّيات، سواء تذبذب أسعار الطّاقة أو تراجع تدّفقات الاستثمار الأجنبيّ المباشر، إلى دافعٍ للتّحوّل الداخليّ وزيادة الاعتماد على صناديقها السّياديّة لتمويل التّنمية المحلّيّة العملاقة.
ومع ذلك، فإن هذا التحوّل لا يخلو من معضلاتٍ. فبينما يشكّل الانفتاح الجغرافيّ نحو آسيا وأفريقيا فرصةً حيويّةً للتّحرر من قيود الامتثال الغربيّ وتعزيز التّنويع، فإنّه في الوقت ذاته يضع المنطقة في قلب التّنافس بين القوى الكبرى. إنّ التزام دول الخليج بالحفاظ على علاقاتها الاستراتيجيّة مع الغرب (لأسبابٍ أمنيّةٍ)، مع تعميق شراكاتها الاقتصاديّة مع الشّرق (لأسباب نموٍّ)، يفرض عليها لعبة توازنٍ استراتيجيٍّ دقيقةٍ ومستمرّةٍ.
إنّ المشهد الاقتصاديّ للخليج في منتصف العقد الحاليّ يتميّز بالمرونة والتطلّع نحو قطاعات المستقبل كالذّكاء الاصطناعيّ والاقتصاد الأخضر. لكن قدرتها على تحقيق أهدافها الطّموحة ستعتمد على مدى نجاحها في إدارة هذه التّوازنات المعقّدة، وضمان أن تخدم أدواتها الماليّة العملاقة، وعلى رأسها الصّناديق السّياديّة، الهدف الأسمى المتمثّل في تحقيق نموٍّ غير نفطيٍّ مستدامٍ وعادلٍ للأجيال القادمة.
