زيارة بن سلمان الأميركية.. من وجهة نظر لبنانية

إنها لحظة محمد بن سلمان. فالرجل في زيارته الرسمية الأولى إلى البيت الأبيض منذ العام ٢٠١٨، كان وما يزال محطّ أنظار العالم. بالشكل وبالمضمون، يمكن القول إن الزيارة كانت ناجحة بامتياز. لكلّ تفصيل فيها معنى ورسالة، وكل محطة فيها وتصريح واتفاق يحتاج إلى مقال بحدّ ذاته لتقديم قراءة متأنية ودراستها في سياق العلاقات التاريخية السعودية - الأميركية.

لم تكن المواضيع والاتفاقيات التي تمّ الاتفاق عليها ولا استقبال دونالد ترامب الملوكي لضيفه السعودي هو ما يستوجب التوقف والدراسة فقط، بل أيضاً، وبشكل أساسي، الأمير محمد بن سلمان نفسه الذي سيجعل الكثير من الكتاب والباحثين الذين كتبوا عن قيادته وزعامته وشخصيته منذ العام ٢٠١٨ يُعيدون قراءته ودراسة مساره. كان محمد بن سلمان يشبه المملكة بامتياز، بتاريخها وثقلها وقوتها الديبلوماسية، في إجاباته على أسئلة الصحفيين حتى تلك التي من المفترض أن تكون محرجة له ولبلده، وفي الرسائل التي أراد إيصالها إلى ترامب في ما يخص الاستثمارات وأهدافها، وفي ما يخص موقع المملكة وتاريخها، وليس صدفة قوله: “الولايات المتحدة تقترب من الاحتفال بمرور ٢٥٠ عاماً على تأسيسها، وتستعد المملكة بعد عامين للاحتفال بمرور ٣٠٠ عام على تأسيس الدولة السعودية الحديثة”.

سيُكتب الكثير عن هذه الزيارة وعن نقلة المملكة النوعية بفضل طموح وليّ العهد وشجاعته وجرأته في خوض غمار التغيير بكلّ مخاطره. كنتُ، وكمعظم من يعملون في الشأن العام أتابع هذه الزيارة، ليس فقط بعين المراقبة والاختصاصية، لكن أيضاً كمواطنة لبنانية في وقت تخوض فيها بلادي للمرة المائة مخاض بناء الدولة التي لم ترَ النور بشكل فعليّ قبل الحرب الأهلية وبعدها، وفي وقت تعيش بلادي صراعاً لا ينتهي حول هويّتها ودورها وموقعها وحاضرها ومستقبلها.

كان وليّ العهد السعودي في تصريحاته لا يتوجّه فقط إلى شعبه بالدرجة الأولى وإلى ضيفه ومن يعنيهم الأمر بالدرجة الثانية، بل أيضاً، ومن دون أن يدري، إلى بلاد عربية كلبنان لإعادة التأكيد على مفاهيم وبديهيات باتت غير موجودة حول الدولة والمواطنين. فعلى هذه البقعة من الأرض، كل شيء يرتبط ويخضع للكرسيّ، أو للمنصب، ولمكتسبات الزعيم أو السياسي أو الحزب الخاصة، من تفسير وتطبيق الدستور والقوانين والاتفاقيات، إلى لعبة الديموقراطية على الطريقة اللبنانية، حيث لا مشكلة مثلاً في حكومة تصريف أعمال لسنوات وجمهورية بلا رئيس ومجلس نيابي مُعطل، أو عدم إقرار قانون انتخابات وحتى تأجيل هكذا استحقاق دستوري لحسابات من يربح أن يخسر مقعداً من الزعماء، أو “الاشتباك” حول هوية المنطقة لبناء معمل للكهرباء، أو لمعالجة النفايات، إلخ..

الرؤية فرصة وليست وهماً

يُقدّم بن سلمان صورة مناقضة للسياسة وللقيادة عن تلك الموجودة في هذه البقعة من الجغرافيا.

يُعيد التذكير بأن بناء الدولة لا يقوم على الشعارات والعواطف والأشخاص، ولا على الأيديولجيات، بل على المصالح والتنافس الحضاري في المشاريع والاستثمارات واقتناص الفرص للتقدم في كل القطاعات التي تؤمن الاستقرار والأمن والازدهار.

يقولون في بلادنا بأنه لولا المال السعودي، لما حظي بن سلمان بكل هذه الحفاوة من سيّد البيت الأبيض، وهو منطق ينطبق على الثقافة السياسية والوطنية اللبنانية القائمة على فكرة الاستغلال الشخصي والمحاصصة وردة الفعل بدل التخطيط والمبادرة. وبالفعل، كان يمكن لبن سلمان أن يكتفي بثروات بلاده الحالية وبثقلها التاريخي والسياسي والديني، لكي يكون في قلب المشهد السياسي الدولي، وأن يستخدم ثروات بلاده “كهبات” للحصول على الحماية والسلطة مقابل تنفيذ “أجندات” الدول العظمى. لكنه اختار أن يكون رجل دولة يُريد صناعة الحاضر والمستقبل لبلاده، وأن يكون شريكاً في صناعة وقيادة السياسة الإقليمية والدولية وليس متلقيّاً أو تابعاً لأهواء من يقودها. لذلك، يُدرك أن الثروة وحدها دون استثمارها وتوجيهها بما يخدم مصلحة الدولة وتقدّم شعبها لا تكفي، فأطلق “رؤية ٢٠٣٠” في العام ٢٠١٧ بكل ما فيها من تحولات جذرية تنطوي على مخاطر كبيرة راهن كثيرون على فشلها.

حمل بن سلمان “رؤية ٢٠٣٠” التي بدأت بالتحوّل إلى خطة عملية في قطاعات عدة شكّلت سياسة المملكة الجديدة وهويتها، ودخل إلى البيت الأبيض كشريك قادر على إعادة إنتاج الحاضر لصناعة المستقبل، وكرجل دولة قادر على التوجه إلى أقوى قائد في العالم للقول له: “نحن لا نقوم بالاستثمار لأجل إرضاء أميركا أو ترامب، نحن نرى فرصة حقيقية تعود علينا بالفائدة، نحن لا نخلق فرصاً وهمية”.

مصالح الشعوب.. وفلسطين

لماذا هذا الأمر مهمٌّ بالنسبة إلينا في لبنان والمنطقة؟

يعي محمد بن سلمان أن رؤيته وطموحه لوطنه يحتاج إلى منطقة مستقرّة بالحدّ الأدنى، وهذا يتطلّب معالجة الحروب والنزاعات التي تعيشها المنطقة منذ عقود والتي لم تؤد كل مساراتها العسكرية وعناوينها الأيديولجية إلى إنهائها. وكما في الاقتصاد كذلك في السياسة، يربط بن سلمان أي خطوة سياسيّة بفلسطين أولاً كونها مفتاح الاستقرار في المنطقة، والذي لن يتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية وبعودة اللاجئين إلى بلادهم والعيش بكرامة في دولة طبيعية. ومرة جديدة، يُسخّر بن سلمان سياساته الاقتصادية وإمكانيات بلاده لتحقيق تغيير شامل في المقاربة الأميركية للقضية الفلسطينية.

إقرأ على موقع 180  أنجيلا ميركل.. "خاتمة الكبار" في أوروبا

ومن المتعارف عليه أن الدول تسعى لتحقيق مصالح شعوبها، بعيداً عن العواطف والشعارات. وهذا ما تقوم به المملكة التي أدركت أن النفوذ يرتبط بالإضافة إلى القوة العسكرية بأدوات التأثير غير المباشر، أو القوة الناعمة، وذلك من خلال تطبيق خطط واستراتيجيات واضحة تقوم على رؤية وطنية شاملة وطموحة ترتكز على مشاريع استثمارية وإصلاحية، وتشمل تطوير الاقتصاد وتحديثه، وتطوير وتحديث مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى تعزيز الاستثمار في المعرفة، والإعلام، والثقافة، والتكنولوجيا، وبناء تحالفات وعلاقات استراتيجية مباشرة مع القوى الكبرى.

مسار حلول للأزمات الإقليمية

في واشنطن، قدّم بن سلمان مثالاً مغايراً للنظرة النمطية إلى المملكة، ومثالاً يُحتذى به في الوضوح والطموح والرؤية والمبادرة ليس فقط لصناعة الحاضر لكن أيضا لحجز مكانة في المستقبل الذي يُرسم من خلال الاستثمارات في الاقتصاد والدفاع والتكنولوجيا وغيرها.

ومن خلال هذا المسار، وانطلاقاً من الرؤية التي وضعها القائد الشاب، يفتح النافذة لمسار الحلول في فلسطين وسوريا والسودان ولبنان واليمن وغيرها بالتعاون والتنسيق طبعاً مع دول عربية فاعلة.

أما لبنان، فالحلّ يبدأ وينتهي من قراره الداخليّ. فهل سيبقى سجين الشعارات والأيديولجيات التي لم تؤد إلا إلى الحروب والنزاعات؟ أم يستغلّ علاقته التاريخية والطبيعية بالمملكة وبالدول العربية ودعم هذه الدول له فيتخذ قراره بنفض منظومته المهترئة وحجز مكانة له في مستقبل المنطقة وشعوبها؟

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  حياة الحويك مؤتمراً علمياً.. مقاربات مشرقية لمفهوم التغريب