لم يطمس الوصول المدوي لإمرأة سوداء إلى هرم السلطة في الولايات المتحدة، إستعداد امرأة بيضاء لمغادرة السلطة في بلدها الأوروبي. قد تكون المقارنة بين السيدتين كامالا هاريس وأنجيلا ميركل ممكنة وظالمة في آن معاً على أكثر من صعيد، لكن الأكيد أن الإثنتين تتمتعان بالكاريزما القيادية.
إستطاعت ميركل خلال فترة حكمها الطويلة أن تنتزع شعبية كاسحة وتنال احترام فئات المجتمع، بفضل سياستها الواقعية، حتى صار الألمانيون يطلقون عليها بمحبة لقب “الماما”، ومنحتها الصحافة ألقاباً عديدة، منها “السيدة الحديدية”، وهو اللقب الذي اشتهرت به رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر.
“أقوى إمرأة”
تجاوزت مكانة ميركل الحدود الأوروبية، لتقف بين أشهر قادة الدول ولتصبح “أقوى امرأة في العالم”، كما صنفتها مجلة “فوربس” الأميركية” في السنوات الأخيرة.
كانت مجلة “تايم” الأميركية أطلقت عليها لقب “شخصية العام” و”مستشارة العالم الحر”، بسبب قدرتها على الإدارة في المواقف الصعبة. فمن هي هذه المرأة القوية التي ظلت تدثر نفسها بثوب الغموض منذ يفاعتها في الشطر الشيوعي لألمانيا، والتي نجحت في أن تكون أيضا أول مواطنة من ألمانيا الشرقية تقود البلاد بعد الوحدة الألمانية؟.
فضّلت ميركل إضفاء غموض على تفاصيل من حياتها بعد صعودها المفاجىء، من متحدثة باسم آخر حكومة في ألمانيا الشرقية في 1990، إلى زعيمة الحزب المحافظ في عام 2000، وصولا إلى المستشارية بدءاً من 2005 وحتى السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر 2021، علما أنها ستستمر بتصريف الأعمال حتى ولادة الحكومة الجديدة.
والدها هورست كاسنر، رجل دين ملتزم، ووالدتها هيرليند مدرسة تقاعدت بعد ارتباطها برجل من الكنيسة.
في 17 تموز/ يوليو 1954، رأت أنجيلا ميركل النور في مدينة هامبورغ، وأمضت طفولتها في تمبلن. ولكونها نشأت في ألمانيا الشرقية، وجدت نفسها ضمن أنشطة الحزب الشيوعي والتجمعات الشبابية خلال دراستها بجامعة كارل ماركس في لايبزيغ.
اختارت ميركل دراسة الفيزياء “لأن الحكومة الشيوعية في ألمانيا الشرقية وقتها كانت تتدخل في كل شيء باستثناء قوانين الطبيعة”، على حد تعبيرها. اجتهدت وتفوقت في اللغة الروسية والرياضيات. كانت تحب كوكتيل الويسكي بالكرز لمّا عملت نادلة في حانة للتغلب على إيجار شقتها البسيطة، وكانت تتمنى أن تصبح معلمة مثل والدتها، لكنها كانت تخفي مهنة أبيها القس، وتقول عنه أنه يعمل سائقاً.
إستطاعت أن تصمد أطول فترة بالحكم في أوروبا، كانت عبارة عن 15 سنة تركت خلالها بصمتها السياسية في ألمانيا وأوروبا، كما بصمتها الإقتصادية، إذ يسجل لها أنها أعادت الاقتصاد الألماني إلى قدرته التنافسية خلال مرحلة ما بعد أزمة عام 2008
في سن الـ 23 من عمرها، اقترنت أنجيلا كاسنر بزميلها في الجامعة، الفيزيائي أولريش ميركل، وكان يكبرها بسنة واحدة. بعد خمس سنوات حصل الانفصال. وفي سنة 1998، تزوجت ثانية من أستاذ الكيمياء يواكيم سوير، الذي التقت به في المعهد المركزي للكيمياء والفيزياء بأكاديمية العلوم في برلين الشرقية، حيث كانت تستعد لنيل الدكتوراه في الفيزياء، فأشرف على أطروحتها عام 1986. ونادراً ما يظهر زوج أنجيلا إلى جانبها، حتى نال لقب “الشبح”. لكنها أبقت على لقب زوجها الأول (ميركل). ومثلها يعرف يواكيم سوير بالتقشف في حياته، ويصرف جل وقته في البحث العلمي.
الأولى في الإتحاد
ولجت أنجيلا ميركل مجال السياسة بعد سقوط جدار برلين عام 1989، وإنتمت إلى الحزب الديموقراطي المسيحي، ليتم تعيينها في حكومة هلموت كول وزيرة للمرأة والشباب، ثم وزيرة للبيئة والسلامة النووية.
في عام 1998، إنتخبت أنجيلا على رأس حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي (CDU)، لكنها لم تقنع بأن تكون أول امرأة تشغل هذا المنصب، بل سعت لتصبح بعد سبع سنوات من النضال السياسي، أول امرأة في هرم السلطة بألمانيا (2005)، خلفًا لغيرهارد شرودر. إستطاعت أن تصمد أطول فترة بالحكم في أوروبا، كانت عبارة عن 15 سنة تركت خلالها بصمتها السياسية في ألمانيا وأوروبا، كما بصمتها الإقتصادية، إذ يسجل لها أنها أعادت الاقتصاد الألماني إلى قدرته التنافسية خلال مرحلة ما بعد أزمة عام 2008. فصعدت شعبيتها بسرعة، وتحولت إلى رقم واحد بلا منازع في الإتحاد الأوروبي.
“المرأة المرتجفة”
لا يعرف الشيء الكثير عن قراءات ميركل خارج الوثائق والبيانات الحكومية، إلا أن الصحافة تساءلت مرة بفضول عن نوع الكتاب الذي اصطحبته ميركل معها في عطلتها صيف 2009؟ وكان بعنوان: “المرأة المرتجفة” للأميركية سيري هوستفيدت، وهي التي مرت بتجربة مماثلة، عندما أصيبت بـنوبات إرتجاف عند الظهور أمام العامة. وبعد علم المؤلفة بإهتمام ميركل بكتابها، نصحتها بتناول عقار يأخذه الفنانون، قبل مواجهتهم للجمهور في الحفلات.
عُرف عن ميركل إهتمامها بالشعر الشعبي الألماني، وغالبا ما ظهرت في المهرجانات الخاصة بالشعر الغنائي بصحبة زوجها. أما صلتها بالأدب والأدباء فسيئة. إذ لم يتردد الأديب الألمانى الشهير غونتر غراس (86 سنة)، الحائز على جائزة نوبل، في إنتقاد المستشارة الألمانية على ما أبدته من “تجاهل مخزٍ” بعدم ردها على بيان احتجاج بعثه إليها باسم مجموعة أدباء إثر فضيحة الاستخبارات الأميركية في ألمانيا، التي كشف عنها المحلل السابق بوكالة الـ”سي آي ايه” إدوارد سنودن. ووقع على البيان 560 أديباً من 81 دولة، بينهم أربعة أدباء حائزين على نوبل وبدعم من 76 ألف مواطن على الإنترنت.
كورونا.. يحدث مرة
كانت جائحة كورونا التي انتشرت العام الماضي، محكاً جديداً للمستشارة الألمانية ميركل، حيث سارعت بالدعوة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لاحتواء الجائحة، وخاطبت مواطنيها للاستجابة إلى الإنصات لصوت العلم وحده في مكافحة الأوبئة، مؤكدة على ضرورة أن تكون ألمانيا واحدة من الدول التي تنجح في التغلب على الأزمة. وتنبأت ميركل بأن انتشارالجائحة يهدد بإزاحة قوى إقتصادية عظمى وبخلخلة ميزان القوى العالمية إذا لم يتم ضمان مسار الانتعاش.
ومثل عدد من قادة الدول الغربية، وبينهم فلاديمير بوتين ودونالد ترامب وبوريس جونسون وإيمانويل ماكرون، إضطرت أنجيلا ميركل إلى البقاء في الحجر الصحي الذاتي، لكنها لم تذهب للراحة، بل استمرت في أداء واجباتها العادية كمستشارة من شقتها. وسارعت لطمأنة مواطنيها قائلة: “ألمانيا ستخرج أقوى بعد الوباء”، وبتفاؤل أكبر قالت إن جائحة كوفيد -19 تمثل تهديداً “يحدث مرة كل قرن لكن البلاد ستزداد قوة بسببه فقط”.
يمكننا فعل ذلك
من قرارات ميركل المثيرة للجدل، موافقتها على فتح الحدود الألمانية أمام مليون طالب لجوء في عام 2015. واشتهرت حينذاك عبارتها “يمكننا فعل ذلك”، ما جعلها في صف القديسين، حسب البعض، ووضعها في مرمى انتقادت قاسية ايضاً، الأمر الذي دفعها للتراجع، مؤكدة أنها ستلتزم برغبة الرأي العام الألماني حول عدم تكرار التوافد المكثف للاجئين.
هناك ما يشبه “تأثير ميركل”، حيث صار ترشح النساء أكثر من أي وقت مضى للمناصب المحلية. وأصبح يُقال للنساء: “يمكنك أن تصبحي مستشارة.. ما الذي تريدينه أكثر من ذلك؟”
تلقت ميركل فيضاً من رسائل المحبة عبر الإنترنت من السوريين، بعد تخلي السلطات الألمانية عن الإجراءات البيروقراطية المتبعة مما سمح للمواطنين السوريين بالحصول على صفة اللجوء في ألمانيا. وكتب أحدهم: “سوف نخبر أطفالنا بأن المهاجرين السوريين هربوا من ديارهم ليأتوا إلى أوروبا بينما كانت مكة وأراضي المسلمين أقرب لهم”. أما الممثل السوري جمال سليمان فختم رسالته المفتوحة إلى المستشارة الألمانية بعبارة:”انا أحترمك”.
لكن ثمة قصة لأنجيلا مع “ريم” تناقلتها وسائل الإعلام والمواقع عبر العالم سنة 2015. ريم طفلة فلسطينية صادفتها المستشارة الألمانية على هامش لقاء بتلاميذ في مدينة روستوك، كانت ريم مهددة بالترحيل من ألمانيا هي وأسرتها، فأخبرت أنجيلا أن لديها حلم بالدراسة الجامعية وطلبت منها مساعدتها في تحقيق حلمها. إلا أن رد المستشارة كان صارماً وصادماً، عندما قالت لريم أنها تتفهمها “لكن السياسة تكون أحيانا قاسية”. وأكدت لها أن بعض اللاجئين سيتعين عليهم المغادرة”. هنا أجهشت الطفلة بالبكاء، ما أثر في ميركل وجعلها توافق على تصريح إقامة بألمانيا لريم وعائلتها.
إلا أن موقفها من القضية الفلسطينية لا يختلف عن مواقف باقي القادة الغربيين، ولا ينسجم مع دعمها للقضايا الإنسانية، ودفاعها عن حقوق الإنسان. فالمستشارة الألمانية لا تخفي انحيازها الفاضح لإسرائيل، وقد صرحت قبل أعوام بأنه “يتعين للدول التي تتعرض لهجمات أن يُسمح لها بالدفاع عن نفسها”، وكان السياق هو تبريرها لحصار غزة من قبل الجيش الإسرائيلي وجرائمه المتمادية هناك.
نساء ألمانيا لسن راضيات
حياتها العادية حبّبت الناس بها. “المرأة الحديدية” تذهب إلى السوق برفقة زوجها أو وحدها، لتشتري أغراضها من دون مساعدة أحد، ولا تهتم بملاحقة كاميرات “الباباراتزي”. ميركل لا تتلقى أي خدمات مجانية من ميزانية الدولة، كخدمات السكن والكهرباء والماء والغاز وماء والهاتف، وتمضي حياتها كأي مواطن ألماني، تقود سيارتها وتدفع ضرائبها، وإذا ارتكبت مخالفة تدفعها كباقي المواطنين.
ولطالما أثار لباسها حديث الناس والصحافة. خصوصا أنها تعودت على لباس السترات الملونة نفسها، فصارت رمزاً مثالياً للتقشف. و”مثلما تبدو السيدة ميركل دائما بنفس تفصيلة السترة، يبدو أيضا أسلوبها الرزين في السياسة”، حسب مصمم الأزياء الألماني الشهير فولفغانغ يوب.
ذات مرة، حاول مصور إستفزازها بالقول: “أذكر أني التقطت لك صورة بنفس هذه الملابس قبل عشر سنوات”. فما كان من أنجيلا إلا أن ردت عليه: “وهل تعتقد أني عارضة أزياء؟ أنا مهمتي هي خدمة الشعب الألماني”.
لكن الأمر يبدو اليوم مختلفاً في ألمانيا، إذ ترى ناشطات في الحركة النسائية أن أوضاع النساء في ألمانيا لم تتحسن وأن التصويت يجب أن يذهب في إتجاه البرامج الحزبية والسياسية وليس على أساس الأشخاص.
منذ انتخابها تزايد بروز دور السيدات اللواتي ينخرطن في العمل السياسي. هناك ما يشبه “تأثير ميركل”، حيث صار ترشح النساء أكثر من أي وقت مضى للمناصب المحلية. وأصبح يُقال للنساء: “يمكنك أن تصبحي مستشارة.. ما الذي تريدينه أكثر من ذلك؟”.
نجاح أنجيلا ميركل، دفع بعدد من الألمانيات إلى واجهة السياسة، وبينهن سارة فاغنكنشت (مواليد 1969)، التي تلتقي مع ميركل في النشأة بألمانيا الشرقية وتختلف معها في التوجه السياسي والإيدويولوجي، فسارة يسارية على رأس حزب يساري، وهي زوجة أوسكار لافونتين الزعيم السابق للحزب الاشتراكي الديمقراطي.
بمغادرتها المسرح السياسي، ينطوى زمن أنجيلا ميركل، لكأنها خاتمة الكبار في أوروبا.