حياة الحويك مؤتمراً علمياً.. مقاربات مشرقية لمفهوم التغريب

أرّخ سقوط جدار برلين في العام 1989 لبداية حقبة تراجع ثقافي في العالم، لكننا لم نلمسها يوماً، كما لمسناها في السنوات الأخيرة. 

بيروت التي صمدت ثقافياً بوجه الحرب الأهلية و”المحاور الكبرى”، تسقط اليوم في ضحالة واجترار ثقافيين، حتى معرض الكتاب الدولي والعربي السنوي الذي كان قبلة عربية ولم تمنعه أو تقسّمه ويلات الحرب، أصبح اليوم عبارة عن معرضين هزيلين، وكأن “المحاور” أصبحت أكثر ضيقاً، وكأننا بتنا نصرخ: أعيدوا لنا خصوم الأمس!

وسط هذا المشهد، تلقيت دعوة إلى مؤتمر “التغريب بين البنى التحتية والفوقية في المشرق العربي”، بدعوة من مؤسسة حياة الحويك للدراسات الثقافية والجامعة اللبنانية (رئاسة ومعهد علوم إجتماعية)، وتكمن أهميته في أنه يستعير مفهوم التغريب الماركسي عنواناً، بما يُحال إليه من إشارة للمركزية الغربية. الدراسات الثقافية، ومدرستها، لطالما تناولناها كخروج عن الثورية الحقيقية، ثورية صُنّاع الأحذية، إلى ثورية ماسحي الأحذية، كما يقول دزيغا فيرتوف، أحد مؤسسي السينما الوثائقية السوڤييتية والعالمية، لكنها لم تبدأ كذلك.

تطوّر حقل الدراسات الثقافية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كحالة اعتراضية إزاء نظام دولي غربي في مخاض الولادة، فكان الحقل العلمي الجديد بشقيه النظري، المنبثق من الماركسية (مع نقدها)، والبحثي الميداني، استجابة لظرف وحاجة موضوعيين، كما تُصرّ حياة الحويك أن تُذكّرنا، كلما تعامل الباحثون العرب مع مخرجات حقل علمي خارج سياق تطوره، أي خارج النقد الديالكتيتي، بحسب المفهوم الفرانكفورتي.

أسقط المفهوم الفرانكفورتي للجدلية، الجدلية المادية والحتمية التاريخية من نظريته، معتبراً أن السلطة الماركسية الأرثوذكسية، (بدءأً بالرفيق فلاديمير إيليتش لينين) استعملت النظريتين لإسقاط الفعالية الذاتية للفرد في دورة التاريخ، لذا ردّت مدرسة فرانكفورت على السببية أحادية الاتجاه بين البنى التحتية والفوقية، بحيث اعتبر دارسو ومؤسسو هذه المدرسة أن التأثير متبادلٌ بين الثقافة والبنى التحتية.

لم يكن لمنظّرة من منابت قومية اجتماعية، بمفهومها المركب للقومية، أن تهرب من السياقات الهوياتية التي تتوسط بين الأممية والسياقات الصغرى، بما يسمح بالمعنى المادي بتشكيل كتل اقتصادية ثقافية قادرة على المواجهة

لكنهم في هاجسهم للتخلص من الخطابات الكبرى (الشمولية)، والتركيز على السياقات الصغرى كبديل للهوياتية، تأرجحوا بين دراسة دقيقة في سياق صغير، وبين تعميم أممي يلحق العالم كله بالسياق الغربي.

اليوم، وفي ظل هذا المخاض الدولي الجديد المحتدم، شرقاً وغرباً، يطرح مؤتمر مؤسسة حياة الحويك للدراسات الثقافية في بيروت أوراقاً علمية تبدو وكأنها تنطلق جميعها من مفهوم تبادلي بين الثقافة وعلاقات الإنتاج في الجغرافيا السياسية الإقتصادية للمشرق.

ليس هذا فقط ما التقت فيه المنظّرة التي يُقام المؤتمر تحت اسمها، مع مدرسة الدراسات الثقافية، بل التعويل على الفعالية الذاتية. فالخيار الفردي الحر هو ما ارتكزت إليه حياة الحويك حين طوّرت نظريتها حول طبقات الهوية التي يُعاد تشكيلها في الفضاء العام، حين أضافت نظرياً مفهوم النحنوات إلى الأنا والنحن الفرانكفورتيين، بل وربما الفرويديين. حيث اعتبرت أن العناصر نفسها التي تسمح بتشكل الأنا الواعية الحرة هي التي تسمح بتشكل النحن المجتمعية الجامعة، أما الهويات الغرائزية، بكل نحنواتها العرقية والإثنية والدينية والعشائرية، إنما تمنع تشكل الأنا والنحن في آن معاً.

لم يكن لمنظّرة من منابت قومية اجتماعية، بمفهومها المركب للقومية، أن تهرب من السياقات الهوياتية التي تتوسط بين الأممية والسياقات الصغرى، بما يسمح بالمعنى المادي بتشكيل كتل اقتصادية ثقافية قادرة على المواجهة.

لكن هذه الخطوة نحو المجتمع المركب والهوية المركبة، تستند مرة أخرى وبشكل كبير على الإقتصاد وكتله وعلاقات إنتاجه، وإن كانت لا تدخل في جدلية الدجاجة والبيضة بين الفوقي والتحتي. فهل يمكن في إطار هذه التبادلية المطروحة أن تكون الثقافة مدخلاً إلى التغيير، في ظل غياب كتلة اقتصادية محلية المركز، وفي غياب أي تأثير للمثقفين العضويين على المسارات الإقتصادية؟ وما هي آفاق خلق علاقات إنتاج وطنية غير خدماتية أو ريعية؟ أسئلة لا بد من طرحها كلما لاح اسم الدراسات الثقافية، لأن هذه المدرسة في الغرب، سرعان ما آلت إلى مقاربات ثقافوية محضة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط أوروبا تحت رحمة مشروع مارشال. مقاربات رأينا تعبيرات سطحية عنها في أحزاب اليسار العربي بعد سقوط جدار برلين، ولبنانياً، مع نهايات حرب أهلية ربما لم تنتهِ بعد.

مؤتمر في بيروت يطرق الأسئلة الاقتصادية والجيوسياسية والإعلامية والهوياتية من باب الدراسات الثقافية، ويستضيف أكاديميين مختلفي المشارب، فإما أن يكون فولكلورياً توفيقياً، وإما أن يساهم في استعادة الصراع الفكري الحقيقي بعيداً عن مصارعة الديكة الإعلامية-السياسية.

وربما كان أكثر ما يحافظ على حرية الصراع الفكري الحقيقي هو غياب الدعم الكبير، لتكون حكمة المشاريع المستقلة أن تبقى أصغر من مجسات المنظومة، عولمية كانت أو تابعة لها، ولتعمل بهدوء وعلمية. وبعيداً عن البروتوكولات الرسمية، يضم المؤتمر باقة من الأسماء، من حيث المنجز العلمي والفكري والأكاديمي أو من أصحاب التجارب في ميادين مختلفة، ويناقش عناوين هي عبارة عن مراجعات ملحة وعميقة ولا يجوز التأخر في مقاربتها بأسلوب حياة الحويك النقدي البنّاء.

إقرأ على موقع 180  سوريا والمشرق.. لعنة الجغرافيا أم دُرَّتُها (2)؟

(*) تستضيف بيروت غداً (الخميس) بين التاسعة والنصف صباحاً والرابعة والنصف عصراً المؤتمر العلمي الأول (حياة 2024) بعنوان “التغريب بين البنى التحتية والفوقية في المشرق العربي”، وذلك في مقر الإدارة المركزية للجامعة اللبنانية برعاية وحضور رئيس الجامعة د. بسام بدران. وتتوزع جلسات المؤتمر على عدد من المحاور وبينها جلسة مخصصة لمناقشة كتاب “حروب الإعلام بين الاحتواء وإعلام الحرب – سورية نموذجًا” للراحلة د. حياة الحويك.

Print Friendly, PDF & Email
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الهوية السورية بين عاصمتين.. و"أخ أكبر"