الحزبُ بعد عامٍ من انتهاء حرب لبنان: الترميمُ فوقَ صخرةٍ متصدّعة

في مخاض ترميم قدراته، يبدو حزب الله كمن يعمل لاستعادة كنزٍ تمّ إخفاؤه في مكانٍ بعيد. وفي قلب هذا المسار سباق مع الوقت، ومع عدوٍّ يحاول عرقلته عبر إثخانه بالجروح النازفة يوميًا. في مواجهة الحزب تتبدى إسرائيل الجديدة، وفي ظهره خنجر الوقت والحدود المغلقة، وعلى كتفيه صخور تحييد جمهوره قدر الإمكان عن نيران المعركة، ومسامير خصوم الداخل ومن بينهم بعض حلفاء الأمس. في 14 شهرًا تلقّى الحزب حدثانِ ضخمان يصعب استيعابهما، السابع من أكتوبر 2023، والثامن من ديسمبر 2024 يوم سقوط نظام بشار الأسد، الذي رفض أن يكون، كما الحزب، جزءًا من إسناد غزة ومعركة "المحور".

لا حاجة للنقاش هنا، ولا سيّما بعد اغتيال المسؤول العسكريّ في حزب الله هيثم علي الطبطبائي، أنّ الحزب ما زال في أصعب حقبة تمرُّ عليه منذ التأسيس. لكن ثمّة حاجة جدّية وملحّة للنقاش في نجاعة مسار الترميم المكلف، أو في كونه مجازفة كبيرة. كيف لا، والمعمول به إقليميًّا ودوليًّا، اليوم، يتجاوز حالة الحزب بأشواط. قرارٌ يطالُ كييف، ويمرُّ على جبال قنديل، لكنّه لم يستقر بعد في جبهات بلاد الشام. قرارٌ جوهره إعادة تركيب الوقائع على أساسٍ واضح: القوّة للدول مجدّدًا، والأفول للتشكيلات غير النظامية.

لم يُقرّر الحزب بعد، ومن يشاركونه صناعة قراره، أن يسلكوا المنحى الذي اتّخذه عبدالله أوجلان مع حزبه (العمال الكردستاني). في الحزب، يُرمّمون قدراتهم، في أعقد الظروف وأكثرها ضغطًا. منذ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 اتّخذوا الخيار الأكثر صعوبة. إن نجح، فسيكون الأكثر تاريخيّةً في مسيرة صراعهم مع إسرائيل، وإن فشل، فالنتيجة واضحة وحالكة. بين هذين الحدّين الخطيرين نحاول أن نبدأ النقاش ولو اتسم بطابع نقدي مطلوب في هذه المرحلة.

المقاومة المثخنة بالجراح والمفاهيم!

التصعيد بعد اغتيال أبو علي الطبطبائي يبدو مساراً إسرائيليا متوقعاً على الأقلّ. أمّا بالنسبة إلى حزب الله، ففي ظل تبنيه خيار “الكظم الإستراتيجي” لا يبدو جاهزًا لتقديم تعريفه الواضح لترميم قدراته، إلّا ميدانيًّا وبتوقيتٍ يراه مناسبًا، على افتراض وجود هذا التعريف. هنا مربط الفرس في النقاش. التعريفات. من الواضح، على الأقل، أن ترميم القدرات لا يعني العودة إلى حالة ما قبل حرب الإسناد، تسليحيًا وتكتيكيًا. ويبدو المعنى مرتبطًا بإنتاج صيغة قتالٍ جديدة تنتظر الظروف الميدانيّة والسياسيّة لاستخدامها، أو لاستثمارها في عمليةٍ تفاوضيّةٍ محتملة بعد التصعيد

لا تُخاض الحروب بالأرقام. يتغيّر الكثير في الخطط بعد الطلقات الأولى. صحيح أن المعارك تقوم على تقديرات، ومحاكاة ميدانيّة، وقياسٍ لحظوظ الفوز والخسارة، إلا أنّها عندما تخاض، تصبح، كما يقول أمير الحرب والمنظّر الكبير كارول فون كلاوزفيتز، معتمدةً في الكثير من الأوقات على التردّد، والحظ، والصدفة، وغير ذلك. لا مبالغة في القول إنّ جزءًا أساسيًّا من المعطيات التي تكون مفصليّةً في الحروب عادةً يكون مصدره الصدفة، وليس في ذلك انتقاصًا للتخطيط أو تقليلًا من شأنه.

لكن، وبنسبةٍ وازنة، فإنّ العمود الفقريّ هنا وهناك ليس موازين القوى الماديّة فقط. ولو ركنت إليها المقاومة في لبنان منذ تأسيسها، وخلال المواجهات الطويلة منذ الإجتياح الإسرائيليّ عام 1978، وبعده اجتياح 1982، لما كانت ستخطو خطوة نحو القتال التراكميّ الذي أنتج انسحابًا إسرائيليًّا متدرجًا تحت ضغط القوة على مدى 18 عاماً، وصل في نهايته إلى تحرير الأرض على نحو شبه كامل عام 2000.

المعادلة حينها كانت “العين تقاوم المخرز”. ربّما عزّز من مقاومة العين جرأتها على خوض ما يمكن وصفه بالمستحيل، والقفز في فم التنين، والتحرّر من التوقعات والحسابات السياسيّة. كانت القوى والحركات في لبنان على اختلافها، رشيقة إلى درجة لا تثقل بها كاهل مفهوم المقاومة. أما اليوم فالمعادلة اختلفت بشكل كبير. حزب الله الذي خاص معارك وحروباً، وكان يوصف بالتنظيم المسلح الأكبر في العالم، وربما الأوسع انتشاراً، أصبح ذا حركةٍ ثقيلةٍ لدرجةٍ يبدو فيها غير قادرٍ على التحرّك خارج إطار مفاهيم تزيده تكبيلًا.

خارجَ سرديتيّ حزب الله وإسرائيل اللتين تكملان بعضيهما، يصعبُ التعامل مع أي خطابٍ آخر على أنّه متوائمٌ مع الوقائع، بقدر ما هو متماهٍ مع تمنيّات مطلقيه، سواء كانوا من داعمي الحزب في لبنان والمنطقة، أو من داعمي إسرائيل في لبنان والمنطقة، أو من السائرين على ضفاف المساحات الرماديّة للسرديّتين.

حرب حقيقية. نعم حقيقية

حرب حقيقيّة تتواصل منذ الاتفاق على آلية تطبيق القرار الدولي 1701، ومنذ بداية فرض تطبيقه وفق التأويل الإسرائيليّ استنادًا إلى نتائج الحرب. إثنا عشر شهرا، إنها مدّة كافية كي يدرك المتابع أنّها معركة غير تقليديّة، لكنّها لا تحتاج أن تكون تقليديّة كي نفهم أنّها معركة طاحنة. يخوض الحزب أشدّ معاركه صعوبةً ومرارةً: مع نسخته السابقة بصحيحها وخطئها، ومع عدوّه. وفي المقابل، تخوض إسرائيل أكثر حروبها إصرارًا، وتماديًا، ومُخاطرَةً، مهما كلّفها الأمر اليوم وغدًا، في محيطها وفي العالم.

المشهد استثنائيُّ في تاريخ الصراع. يتقاتل الطرفان مع خسارة الكثير ممّا بنيا عليه صورة القوّة والحضور لديهما. منذ 17 أيلول/سبتمبر 2024، تاريخ تفجير أجهزة “البيجرز”، وما تلاها من اغتيالات في الجسم القياديّ للحزب، خسر التنظيمُ معركته الأمنيّة. ومنذ انكشاف الإبادة الإسرائيليّة في قطاع غزة، التي قاتل الحزب محاولًا منعها، بدأت إسرائيل تخسر صفة المظلوميّة التي شكّلت، تاريخيًّأ، حجر الأساس في استدراج الدعم الغربيّ الدائم لها. ما زال الدعم وفيرًا، كي لا يتوهّم أحد بانقطاعه، لكنّ ملامح خسارته باتت موجودةً أيضًا، والزمن كفيل بتطويرها إلى جانب العقليّة الإسرائيليّة الإباديّة بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

يتقاتلُ الطرفان إذاً بعقليّات أفرزتها الحرب الأخيرة بينهما. خطاب الحرب واضح: تبرمج إسرائيل عملياتها يوميًا لمنع ترميم قدرات الحزب مهما كانت الكلفة. وبالعكس، يبرمج الحزب قدراته وطاقته لترميم هذه القدرات مهما كانت الكلفة أيضًا. لا يخفي أيٌّ منهما غايته الأساسيّة من هذا المشهد. ثمّة من يريد إنهاء تجربة طويلة، وعلى النقيض، ثمّة من يريد إعادتها إلى ذروة قوّتها بشكلٍ أو بآخر. وفي حالةٍ جليّةٍ كهذه، لا يمكن القول إنّها حرب من طرفٍ واحد هو إسرائيل، بالرغم من الواقع الواضح الذي يؤشّر إلى أنّ كفّة الميزان راجحة لمصلحته. لكنّها حرب بين طرفين. حرب حقيقيّة.

الردع والترميم… غايات لا وسائل؟

سؤال آخر يبرز على ضفاف هذه المواجهة، يبدو الحزب معنيًا في الإجابة عليه: هل تحوّل الترميم إلى غاية وليس وسيلة على طريق الهدف الأساسي المفترض وهو الردع؟

السؤال هنا يأخذ اتجاهاً عميقاً في قراءة البنية العقائدية لـ”المحور” الذي يُشكّل حزب الله أعد أبرز أعمدته. فكما في حالة الردع السابق والمنظومة التي بُنيت على ضفافه، وتحوّله مع الوقت إلى غاية بعدما كان وسيلة، يبدو أن الترميم بدوره لم يعد مجرّد جسر لعبور مرحلة ما بعد الحرب، بل أصبح هو الآخر غاية قائمة بذاتها، تتحكّم في إيقاع الحركة، وفي الخيارات، وفي الإعادة البطيئة والغامضة من جانب الحزب لتشكيل دوره وهويته السياسيّة الجديدة.

فالردع الذي كان يفترض به أن يفتح الطريق نحو المواجهة الكبرى، وأن يمنح الزمن اللازم لتراكم القوة، تحوّل مع مرور السنوات إلى “مشروع ردع” قائم بذاته، أي إلى حالة يُراد الحفاظ عليها قبل أيّ شيء آخر. وهذا التحوّل أدى إلى تراجع وظيفته الأصلية، فلم يعد الردع معياراً لميزان القوة، بل أصبح معياراً لمدى القدرة على تجنّب الحرب، حتى عندما بدأت إسرائيل بتفكيكه عبر استهدافات متكررة وعميقة للبنية القياديّة للحزب.

وبالموازاة، مع انهيار وظيفة الردع كوسيلة، برز الترميم كخيار يحكم المرحلة، ليس بوصفه محاولة لإعادة بناء القدرة، بل كاتجاه استراتيجيّ يميل إلى تثبيت حالة الانتظار الطويل ريثما تتعدّل الظروف العسكريّة وغيرها إقليميًّا. ومع الوقت، صار الترميم يفرض إيقاعه على بنية القرار، ليصبح الاستمرار في ترميم ما تَكَسَّر أهم من التفكير في المبادرة، أو استعادة زمامها التي شكّلت أساس تجربة المقاومة تاريخياً. الأخطر، أن هذا الترميم – في شكله الحالي – لا يقتصر على البنية العسكريّة والتنظيميّة، بل يمتد ليعيد صياغة وعي البيئة الحاضنة نفسها. فالخطاب الذي يركز على “الحفاظ على القوة” وعلى “عدم الانجرار”، وعلى “تجنّب الحرب”، قد يؤدّي تدريجياً إلى تراجع الاستعداد الشعبيّ للمواجهة، وإلى تحوّل ذهنيٍّ ينعكس مباشرة على مستقبل المقاومة وعلاقتها بجمهورها.

الحضور الإيراني في مشهد الترميم

هذا التحول لا يبدو معزولاً عما يجري في إيران، حيث تتجلّى بدورها تباينات واضحة بين الخطاب المتشدّد وبين السلوك العمليّ الأكثر ميلاً إلى تثبيت الوضع الراهن، وتجنّب الانفجار الواسع. ولذلك يصبح سؤال الردع وسؤال الترميم متداخلين: كلاهما تحوّل من وسيلة إلى غاية، وكلاهما يؤشرّ إلى عملية إعادة تعريف للدور، وللمسار، ولما يمكن أن يكون عليه مستقبل “المقاومة” داخل لبنان وفي “المحور” بأكمله.

هنا يحضر اغتيال السيد أبو علي الطبطبائي كطلقةٍ مكثّفة وثقيلة ضمن الحرب، لا خارج سياقها، ولا تمهيدًا لها. وهنا أيضًا، يحضر تجنّب الحزب الردّ، كجزءٍ من “نظام عمل الترميم” الذي لا بدّ من السير به حتى توفير أكبر قدرٍ ممكن من عناصر القوة، طالما أنّ الطرف الآخر في الحرب لا يقبل بأي اتفاق من خارج شروطه الإلغائيّة للحزب. هكذا، وحتى اليوم، لم يحدث شيءٌ ما، دوليًّا، وإقليميًّا، وداخليًّا، من شأنه إقناع أيٍّ من الطرفين أنّ خيار المواجهة ليس صائبًا. وتاليًا، لا يخوض الحزب النقاش حول سياقات ترميم القدرات كوضعيّةٍ إجباريّة، بل يخوض أكثر في “برمجة” الترميم وما يفرزه من قراءةٍ للصراع وأدواته.

تاليًا؛ لا يمكن قراءة اغتيال هيثم الطبطبائي كإحدى حلقات سلسلة الاستهدافات فقط، بل كضربةٍ حملت وظيفة مركّبة: اختبار قدرة الحزب على تحمّل ضربات تطال نواة قيادته، وقياس ردّة فعله ضمن هامش الحسابات الضيّق الذي بات مضطرًا للعيش داخله، ويتمّ اختصاره بمصطلح الترميم والتعافي.

فالحزب بات اليوم أمام خيارين أحلاهما مُرّ: إمّا الردّ بما يعنيه من انزلاق إلى مواجهة قد تمتدّ لأيام وربما أسابيع وربما أكثر، وإمّا الصمت الذي سيمنح إسرائيل جرعةً إضافيّة من الجرأة للمضيّ في استهداف الصفوف القياديّة بوتيرة أعلى وأعمق وأكثر تسارعًا ربّما.

هذا المشهد يُذكّر، ولو جزئيًا، بما سبق حرب 2024، عندما بدأت إسرائيل سلسلة الاغتيالات العالية المستوى بدءًا بفؤاد شكر في أواخر تموز/يوليو 2024. يومها كان الأمين العام السابق للحزب السيد حسن نصرالله ما يزال على قيد الحياة، وكانت للحزب قدرة أكبر على المناورة، وعلى محاولة بناء هجوم مباغت نوعًا ما، خصوصاً وأنّ الحزب، لاحقًا، استطاع أن يستعيد توازنه وأن يدخل الحرب برغم فقدان رأسه، وأن يحتوي الهجوم البريّ الإسرائيليّ نسبيًّا، وأن يُنفذ بعض العمليات النوعية كاستهداف بيت رئيس الوزراء الإسرائيلي في قيسارية بطائرة مُسيّرة، وغيرها من العمليات.

إقرأ على موقع 180  قبل أن يصبح "بناء الدّولة".. مجرّد شعار استعماريّ!

أما اليوم فالوضع بات مختلفاً: الحزب يقود المعركة من دون جزء كبير من جيله المؤسّس، وبآليات قرار أصبحت أبطأ وأكثر هشاشة، فيما تواصل إسرائيل تنفيذ حرب استنزاف مركّزة تستهدف “العصب القيادي” قبل العصب العسكري.

وهنا يصبح الشعار الذي يحكم إدارة الحزب للمرحلة: “السير وسط العاصفة”. لكن العاصفة ليست ثابتة، وإسرائيل تقوم يوميًا بـتكثيفها حسب الحاجة، وبمحاولة دفع الحزب إلى نقطة الانكسار قبل أن يصل إلى “آخر طريق الترميم” الذي يراه مسارًا استراتيجيًا يحتاج الصبر وطول النفس. والسؤال هنا أيضا، هل الطريق أصلًا سالك ومحدود الخسائر حتى النهاية؟

المعضلة الأمنيّة

بالموازاة، مع انهيار وظيفة الردع كوسيلة، برز الترميم كخيار يحكم المرحلة، ليس بوصفه محاولة لإعادة بناء القدرة، بل كاتجاه استراتيجيّ يميل إلى تثبيت حالة الانتظار الطويل ريثما تتعدّل الظروف العسكريّة وغيرها إقليميًّا. ومع الوقت، صار الترميم يفرض إيقاعه على بنية القرار، ليصبح الاستمرار في ترميم ما تَكَسَّر أهم من التفكير في المبادرة، أو استعادة زمامها التي شكّلت أساس تجربة المقاومة تاريخياً.

هذا السؤال يفرض نفسه بقوة بعد اغتيال أبو علي الطبطبائي في مكان “مُشخّص” مسبقًا، أي في مكتب سابق ثابت له. المشكلة لم تكن في دقّة الاستهداف الإسرائيليّ، بل في البيئة الأمنيّة التي سمحت بأن يتحوّل الموقع إلى “هدف جاهز” في لحظات. وهذا ما يجعل الأزمة الحاليّة أعمق من مجرد ترميم القدرات. إنها أزمة العقل الأمنيّ وآليات العمل وتراكم الأخطاء.

وتتجلّى المشكلة بوضوح في السلوك العلنيّ للحزب، إلى درجةٍ باتت لا تشبه الفكرة المعروفة عن سريّته التي كانت معهودة. فقبل أسابيع، قدّم الحزب في احتفال ضخم في المدينة الرياضيّة سبعين ألفًا من كشافة المهدي. بالنسبة لإسرائيل، كان ذلك بمثابة قاعدة بيانات بشريّة مفتوحة للتعرّف على الوجوه، تتبّعها، وبناء شبكات تحليلٍ مستقبليٍّ لمنع أيِّ جيلٍ جديد من التحوّل إلى تهديد. والقول هنا إنّ الاحتلال ليس بحاجةٍ إلى الصور ويعرف كلّ شيء، ليس دقيقًا على الإطلاق.

ينطبق الأمر ذاته على التشييعات، التجمعات، الاحتفالات، وكل الحشود التي تُدار بعقلية ما قبل 17 أيلول/سبتمبر 2024، برغم أن العدوّ بات يتعامل معها كوليمةٍ استخباريّة كاملة.

وهكذا، فإنّ المشكلة لا تقتصر على إعادة بناء القدرة العسكريّة، بل على إعادة بناء منهج التفكير الأمنيّ والتنظيميّ الذي يحكم الحزب. مهما تمّت عمليّات الترميم، فإنّ بقاء العقل الأمنيّ القديم كما هو سيجعل الحزب مكشوفًا أكثر، وقادرًا أقلّ على تحمّل حرب الاغتيالات الطويلة على وقع إنهاكٍ سياسيٍّ داخليٍّ كبير.

الترهل اللبنانيّ

هكذا، يجد الحزب نفسه ضمن سلطةٍ سياسيّةٍ، وخارجها، لا تستطيع بوسائلها المتوفّرة إجبار الاحتلال على تنفيذ أيٍّ من بنود اتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، حتى وإن سلّم سلاحه جنوب الليطاني وشماله. لا يوجد أيّ مؤشّرٍ على ذلك، لا في الخطاب ولا في التطبيق. هذه قدراتها المحدودة والجميع يعرف ذلك. وكذلك، يجد الحزب نفسه أمام قوىً سياسيّة منها ما صار واضحًا في التقاطع المصلحيّ على الأقل مع الحرب الإسرائيليّة، ومنها ما تكبّله حساباته، ومصالحه، ومشهد نكسة الحزب في الحرب الأخيرة، وتمنعه عن موقفٍ واضح داعمٍ له.

على هذا الأساس، لا يجد الحزب نفسه مضطرًا لقبول نموذج سلطةٍ فلسطينيّةٍ منقّحةٍ في لبنان تزجُّ بأعضائه في السجون، برغم صعوبة موقفه اليوم. لا مصالحه تدعوه إلى ذلك ولا قناعاته الإيديولوجيّة، ولا إحدى أبرز أدوات مقاربة المعركة من جانبه، وفحواها، أنّ كلفة الصمود والمواجهة أقلّ من كلفة الاستسلام. جزءٌ من الدعوات التي يسمعها الحزب والتي تُطالبه بتغيير إدارته للأزمة، لها رجاحتها نظريًّا وتقدّم حلولًا سياسيّة لبعض أخطائه، لكنّها دائمًا تصطدم بسؤالٍ جوهريٍّ لا تُقدّم أية إجابةً عليه: ما البديل؟ ما الضمانات؟ وهي الأسئلة الجوهرية التي تقوم عليها سرديّة الترميم كخيارٍ أوحد لا بدّ منه. هذه معطيات لبنانيّة صرفة، تضاف إليها المعطيات الاقليميّة، حيث لا أحد تمكّن من منع عدوانٍ إسرائيليّ عابر لدول الطوق، ولا أحد استطاع إنتاج صيغة تسويةٍ مقنعة لإيران كي تسير بها كصيغة حاكمة لتوازنات الاقليم. حتى ذلك الحين، هذا الوقت لأجندة معركة الترميم.

جرس إنذار للجيش اللبناني

في المقلب الإسرائيليّ، يجد الاحتلال نفسه أمام فرصةٍ تاريخيّة. سياسيًّا، لم يجد مقبوليّةً لبنانيّةً وإقليميّةً كما هي الحال اليوم. أمّا عسكريًّا، وبعقليّته ما بعد السابع من أكتوبر، فإنّ معركته تتجاوز الحزب وسلاحه. المسألة في وأد الفكرة السياسيّة القائلة بجدوى المقاومة واستئصال فكرة العداء له. هذه تستلزم منه كلّ جهدٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ وعسكريّ. وهنا، من المهم الإشارة إلى المسعى الإسرائيليّ لتدمير الجيش اللبنانيّ وليس حزب الله فقط. لم يكن تدمير الجيش السوريّ ومقدراته بعد سقوط نظام بشار الأسد، سوى جرس إنذارٍ للجيش اللبنانيّ قبل غيره. فالتوازن الذي كانت واشنطن تقبل به في أداء الجيش اللبنانيّ، قبل سقوط النظام السوري، يبدو أنّه لم يعد مقبولًا. ثمّة حاجة إلى تغييره، وهذا في مكانٍ ما، يعني استهداف الجيش بصيغته الحاليّة، برغم أهميّة دوره إقليميًّأ. ولا مبالغة في القول هنا، إن تدمير النسخة الراهنة من الجيش اللبنانيّ، والأهم عقيدة “السلم الأهلي” التي تحكمه، لا يقلّ أولويّةً، بالنسبة للمخطط التوسعيّ الإسرائيليّ الجديد، عن تدمير سلاح حزب الله.

التقاطع بين القوى السياسيّة اللبنانيّة المبرّرة للعمليّات الإسرائيلية، ومواقف المتطرفين في واشنطن وتل أبيب، ضدّ الجيش اللبنانيّ وقيادته لتنفيذ قرار الحكومة بحصريّة السلاح، ليس صدفة. وطالما أنّ المشروع الإسرائيليّ يتجاوز الحزب إلى لبنان ككيانٍ سياسيٍّ (مشروع إسرائيل الكبرى)، فالراجح هو أنّ الحرب على الحزب مستمّرة بوصفها جزءًا من مشروع تدميريّ للخريطة اللبنانيّة. حصل ذلك بشكل مشابه في سوريا عبر التدخل في أحداث السويداء، وقبلها بتدمير أيِّ مقدّراتٍ يمكن للنظام السوريّ الجديد أن يستخدمها في أيّ مواجهةٍ مع إسرائيل مهما كان احتمالها بعيدًا.

يجري اليوم داخل “المحور”، وفي قلبه حزب الله، إعادة تعريف شاملة: إعادة تعريف للدور، للأدوات، للأهداف، وحتى لمفهوم “التعافي والترميم” نفسه. وما نشهده اليوم لا يبدو استمرارًا للماضي، بل محاولة صياغة جديدة تمامًا لطبيعة المواجهة ولمفهوم المقاومة داخل “المحور”، هنا أيضًا، تبدو عبارة الترميم قاصرةً عن إدراك تعقيدات الموقف

ضربُ الجيش اللبنانيّ، المتوقّع في المستقبل القريب، سيتزامن مع العمل لتهجير سكان قرى الجنوب اللبنانيّ. هدفان، يؤديان إلى تفكّك بنيويٍّ في الهيكل اللبنانيّ كدولة، عبر تعطيل صمّام أمان الوحدة الداخليّة، وعبر حشر كتلةٍ سكانيّةٍ هائلة متناقضة المواقف ضمن جغرافيا ضيّقة نسبيًّا. هذا السيناريو قد يكون مرجّحًا بقوّة ربطًا بالسياق التفكيكيّ الذي تشكّله إسرائيل في الجنوب السوريّ. وعليه، يظهر اغتيال الطبطبائي ضمن هذه المعركة الكبيرة، تمامًا كاتسّاع المعارك الاقليميّة التي شارك فيها الرجل من جنوب لبنان إلى شمال اليمن. لبنان جزءٌ من هذه المعركة، وما يجري يتجاوز الخطاب الرائج الفوضويّ حول نزع السلاح، والتعافي السابق لأوانه من جانب الحزب، والتفاوض المباشر وغير المباشر، وحصريّة السلاح، وغيرها. وعليه، تبدو مسألة الترميم أقلّ من أن تتّسع للمشهد برمّـته.

وماذا عن إيران؟

إنّ قراءة واقع حزب الله لا تكتمل من دون النظر إلى إيران نفسها. فخلف التصريحات المتشددة التي تصدر عن بعض القيادات، يكشف السلوك العملي داخل طهران وجود تباينات حقيقية:

تباين بين تيار يريد الاستمرار في المشروع الإقليميّ كما هو؛

وتيار آخر يزداد اقتناعًا بأن “كلفة المقاومة” باتت أعلى من “جدوى استمرارها” بالنمط نفسه.

هذه التباينات لا تبقى في الداخل الإيراني، بل تنعكس تلقائيًا على الحزب و”المحور” ككل، لأنّ العلاقة بين الطرفين لم تكن يومًا علاقة “توجيه وتنفيذ”، بل علاقة تماهٍ استراتيجيّ تتداخل فيها الرؤية، والقرار والمصالح.

بمعنى آخر، يجري اليوم داخل “المحور”، وفي قلبه حزب الله، إعادة تعريف شاملة: إعادة تعريف للدور، للأدوات، للأهداف، وحتى لمفهوم “التعافي والترميم” نفسه. وما نشهده اليوم لا يبدو استمرارًا للماضي، بل محاولة صياغة جديدة تمامًا لطبيعة المواجهة ولمفهوم المقاومة داخل “المحور”، هنا أيضًا، تبدو عبارة الترميم قاصرةً عن إدراك تعقيدات الموقف.

إنها مسألة وقت

إنّ اللحظة الراهنة ليست مجرد فصل إضافي من الصراع بين لبنان وإسرائيل، بل محطة يعاد فيها تركيب الأسس التي حكمت هذا الصراع لعقود. فحزب الله يعيد تعريف دوره، وإسرائيل تعيد تعريف أدوات حربها، وإيران تعيد تحديد مستقبل نفوذها، بينما يتحرك لبنان فوق أرض سياسية وأمنية تتبدّل بسرعة غير مسبوقة.

من هنا تتقاطع انكفاءة الحزب إلى البُعد الدفاعي اللبنانيّ، وتخلّيه مرغمًا عن دوره الاقليميّ السابق. ويبدو لافتًا للانتباه هنا، في بيان نعي الطبطبائي، استخدام الحزب عبارة “فداءً للبنان شعبه” وليس “شهيدًا على طريق القدس”.

في الخلاصة؛ التصعيد بعد اغتيال أبو علي الطبطبائي يبدو مساراً إسرائيليا متوقعاً على الأقلّ. أمّا بالنسبة إلى حزب الله، ففي ظل تبنيه خيار “الكظم الإستراتيجي” لا يبدو جاهزًا لتقديم تعريفه الواضح لترميم قدراته، إلّا ميدانيًّا وبتوقيتٍ يراه مناسبًا، على افتراض وجود هذا التعريف. هنا مربط الفرس في النقاش. التعريفات. من الواضح، على الأقل، أن ترميم القدرات لا يعني العودة إلى حالة ما قبل حرب الإسناد، تسليحيًا وتكتيكيًا. ويبدو المعنى مرتبطًا بإنتاج صيغة قتالٍ جديدة تنتظر الظروف الميدانيّة والسياسيّة لاستخدامها، أو لاستثمارها في عمليةٍ تفاوضيّةٍ محتملة بعد التصعيد تعيد فرض وقائع جديدة على الأرض. لكن مجددًا، في الطريق إلى هناك متعرج كثير العثرات، فمن يضمن الوصول بعدة كاملة، وبيئة اجتماعية متماسكة، والأهم وجود أرض يمكن العودة إليها؟

إنّها مسألة وقتٍ ضيّق ليس على الحزب فحسب، بل على كلّ ما ومن يرتبط به. تلك مغامرة اضطراريّة، كمعظم معاركه الرابحة منها أو الخاسرة.

(*) يُنشر بالتزامن مع موقع “الجادة“.

Print Friendly, PDF & Email
علي هاشم ومحمد محسن

كاتبان وصحافيان لبنانيان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  لبنان: سياسة بترولية فريدة لا تبشر بالخير