في أفغانستان، عاد بعض المقاتلين إلى مجتمعاتهم، لا عمل ولا أفق واضحاً، بل وجدوا أنفسهم متروكين في مناطق نائية ينخرها الفقر والعوز. ومع عودة حركة “طالبان” إلى الحكم عام 2021، ظهرت ديناميات مغايرة؛ فالكثير من المقاتلين السابقين الذين قاتلوا في صفوف الحركة اندمجوا مجددًا في جهازها الأمني أو الإداري، بينما وجد المقاتلون الأجانب – تحديداً من ينتمون إلى “القاعدة” وفروعها – أنفسهم تحت المراقبة أو التهميش.
في العراق، فيواجه آلاف المعتقلين من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” وعائلاتهم مصيرًا غامضًا في السجون ومخيمات الاحتجاز شمال البلاد، حيث تتقاطع سياسات الثأر المحلية مع العجز الدولي عن صياغة حلّ متوازن بين العدالة والمصالحة.
ويُشكّل مصير المقاتلين السابقين في تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) أحد أعقد الملفات التي تواجه حكومات المنطقة والمجتمع الدولي. فقد أشارت تقارير عدّة إلى وجود أكثر من عشرين ألف معتقل في العراق بتهم الانتماء إلى التنظيم، معظمهم تم احتجازهم في سجون مكتظة شمال البلاد، وبعضهم بلا محاكمة منذ سنوات. وفي المقابل، تتكدّس عائلاتهم في مخيمات “الهول” في أوضاع توصف بأنّها “هشة إنسانيًا وخطرةً أمنيًا” في آن واحد.
وإلى جانب ذلك، يعيش العديد من المقاتلين السابقين أو من اشتُبه بانتمائهم للتنظيم في عزلة اجتماعية مطبقة. ويُوثق تقرير لإحدى الشبكات الإعلامية حكاية أحد العائدين من سجون نينوى بعد انتهاء محكوميته، وهو شاب في الثلاثين، يروي كيف قضى خمس سنوات في زنزانة ضيقة، ليخرج إلى عالمٍ يرفض مصافحته أو منحه فرصة عمل. يقول: “في السجن كنا نعرف من نحن. الآن لا أحد يعرفنا، حتى بتنا لا نعرف أنفسنا”.
الشرع.. واختبار الأجانب
وفي سوريا، المقاتلون بلا جبهات؛ نساء وأطفال في مخيمات مغلقة مثل الهول وروج، وآخرون تائهون بين حدود تنتظر من يُعيد تعريفهم، هل هم جناة أم ضحايا أم كلاهما في آنٍ واحد؟ كما أنّ المناطق الشمالية الخارجة عن سيطرة النظام تحوّلت إلى فسيفساء من المخيمات والمراكز المؤقتة التي تديرها سلطات محلية أو قوات دولية، حيث يُحتجز عشرات آلاف النساء والأطفال المرتبطين بالمقاتلين. وفي مخيم الهول وحده، تشير تقارير إلى أكثر من خمسين ألف شخص من نحو ستين دولة، يعيشون في ظروف إنسانية قاسية، تتخللها محاولات هروب وصدامات متكرّرة بين الحراس وسكان المخيم.
وبعد عودته من رحلته الأميركية الأخيرة، يقف الرئيس الإنتقالي لسوريا، أحمد الشرع، حاليًا أمام اختبار دمج معظم المقاتلين الأجانب ببنية الدولة العسكرية والأمنية، بدءًا من تجربة “الفرقة 84” في الجيش السوري التي يُراد لها أن تختبر فرصة دمج أكثر من 3500 مقاتل، فضلًا عن عدم بقاء سلاح خارج منظومة الدولة السورية، وعدم اسناد أي منصب قيادي في الدولة لأي قيادي جهادي ينتمي إلى “جبهة تحرير الشام” أو أخواتها من التنظيمات الجهادية.
ولأنّ كثيرًا من الدول الغربية ترفض استعادة رعاياها خوفًا من التبعات القانونية والسياسية، فهي تكتفي بعمليات انتقائية لإعادة بعض الأطفال أو النساء “غير المقاتلات”. وفي هذا السياق، تُظهر مقابلات أجرتها وسائل إعلامية مع مقاتلين سابقين في سوريا والعراق هذا الفراغ بوضوح. أحدهم يقول: “في الحرب كنت أعرف أنني أؤدي واجبًا إلهيًا، أما الآن فأنا لا أعرف من أكون. كل شيء صَمَتَ”.
الهوية المعلقة
على المستوى الدولي، تتعامل الدول مع ملف المقاتلين العائدين بمقاربات متباينة. فمن جهة، تبنّت جهات دولية نهج المحاكمة الصارمة، فحوّلت المقاتلين العائدين إلى نموذج “العدو القانوني” الذي يجب عزله لحماية الأمن القومي. ومن جهة أخرى، اتجهت بعض الدول نحو برامج إعادة إدماج وتأهيل تراعي العوامل النفسية والاجتماعية، مع مراقبة طويلة المدى. أما عربيًا، فقد فضّلت معظم الدول مقاربة “الصمت المؤسسي”، فلا محاكمات شفافة ولا برامج معلنة، بل تُرك الملف يتآكل في الهامش الأمني والمخيمات.
وعلى الرغم من اختلاف البيئات، تتشابه مصائر المقاتلين الجهاديين بعد انحسار الحروب في كونها محكومة بالتيه. فمن جبال أفغانستان إلى صحاري العراق وشمال سوريا، تتكرر الحكاية ذاتها بصيغ متعددة، رجال قاتلوا تحت راياتٍ عقائدية، وجدوا أنفسهم فجأة خارج كل سياق، لا سلاح ولا رفاق ولا “قضية” تجمعهم.
لكنّ هذا الفراغ، لا يولّد فقط ضياعًا شخصيًا، بل يُنتج توتّرًا نفسيًا عميقًا يتراوح بين الشعور بالذنب والرغبة في التبرير. فالبعض يرى نفسه ضحية خداع أيديولوجي، فيما يصرّ آخرون على إنكار الهزيمة حفاظًا على اتساقهم الداخلي. وهنا تتجلّى ظاهرة “الإنكار المزدوج”: إنكار الفشل، وإنكار الذات الجديدة التي لا تشبه ما كانت عليه في زمن الحرب.
وعلى الصعيد النفسي، تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن المقاتلين العائدين يعانون بدرجات متفاوتة من اضطراب ما بعد الصدمة، والعزلة الاجتماعية، وفقدان القدرة على بناء علاقات طبيعية. كثيرون منهم يعيشون “الهوية المعلّقة”؛ فلا تنطبق عليهم صفة المقاتلين ولا المدنيين، ولا هم أحياء بالكامل ولا موتى رمزيًا.
أما على المستوى الاجتماعي، فيتجلى الانفصال في شكل وصم جماعي. فالمجتمعات المحلية تنظر إلى العائدين باعتبارهم “قنابل موقوتة”، بينما ترفض المؤسسات الدينية والسياسية تحمّل مسؤولية إعادة إدماجهم خوفًا من تبعات أمنية أو سياسية.
ظلال الجهاد والعدو المفقود
مع انحسار الحروب وتفكّك التنظيمات الجهادية الكبرى، يُطرح تساؤل عن ظاهرة “المقاتلين السابقين” هل يتحولون إلى شرارة لجولة عنفٍ جديدة، أم إلى فرصة لإعادة التفكير في الجذر العميق الذي أنتج التطرف منذ البداية؟ فالتاريخ يُظهر أن الهزائم العسكرية لا تعني بالضرورة نهاية الأيديولوجيات، بل كثيرًا ما تكون بدايات خفية لتحوّلاتٍ أكثر تعقيدًا.
وبرغم سقوط “الخلافة” المكانية، إلا أن فكرة “الجهاد المتنقّل” لم تختفِ، بل أعادت تشكيل نفسها في فضاءات جديدة. وتُظهر تقارير “مجموعة الأزمات الدولية” (كرايسز غروب) والأمم المتحدة أن آلاف المقاتلين السابقين من سوريا والعراق انتقلوا إلى مناطق هشّة أمنيًا مثل الساحل الإفريقي وشمال غرب باكستان وأجزاء من آسيا الوسطى، حاملين معهم شبكات اتصالاتٍ وتمويل وخبرة ميدانية.
إلا أنّ الأخطر من العنف المادي، هو العنف الرمزي المتوارث. جيلٌ من أبناء المقاتلين يعيش في مخيمات مغلقة، بلا تعليمٍ منتظم ولا هوية قانونية، يترعرع في بيئة تُعيد إنتاج العزلة والعداء. هؤلاء الأطفال، الذين يُقدَّر عددهم بعشرات الآلاف في شمال سوريا والعراق، يمثلون “الجيل الثالث” من الجهاديين، كما وصفهم تقرير منظمة “اليونيسيف” في العام 2024. إنهم لا يحملون السلاح، لكنهم يحملون رواية لم تنتهِ بعد؛ رواية الأب المهان والأم المنبوذة والعالم الصامت.
وهكذا، من أفغانستان إلى الموصل، ومن الرقة إلى إدلب، يعيش آلاف المقاتلين في منطقة رمادية بين الذنب والنجاة، بين النفي والبحث عن عودة مستحيلة. ولا يمكن فهم “ظلال الجهاد” بوصفها مجرد بقايا لتنظيمات عسكرية، بل كأزمة أعمق في البحث عن المعنى والانتماء في عالمٍ مفككٍ.
ففي النهاية، “ظلال الجهاد” ليست بقايا معركة خاسرة، بل مرآة لعصر كامل فقد يقينه. وحتى ينجح العالم في إعادة تعريف هذه الظلال، سيبقى سؤال الهوية مفتوحًا، وسيتحوّل “العدو المفقود” إلى شبح يذكّرنا بأن الحرب قد تنتهي، لكن آثارها تظلّ تتمشى بيننا، في الذاكرة، وفي اللغة، وفي الأجيال التي لم تولد بعد.
