لغةُ الهواجس اللبنانية.. كيف نُحوّلها إلى هندسةٍ سياسيةٍ جديدة؟

تتّسم لغة المتخاصمين في السياسة اللبنانية الداخلية راهناً/سابقاً بالحدّية. طرفان هما على النقيض تماماً، وكلّ حدثٍ يحصل يتمّ إسقاطه على سرديةٍ مكتملة هنا أو هناك تُفسَّر الوقائع من خلالها، وتحاك تباعاً عندها التحليلات. ولأنَّ طرفاً شهد هزيمةً في مشروعه وآخر العكس، فإن هذه الحدية تغدو من بنات الربح والخسارة نفسها، القديمة ـ الجديدة على المشهد اللبناني، والحائلة دون خلق - أو الناتجة من انعدام - هوية مشتركة يشعر فيها الجميع بالهم الوطنيّ الجامع.

المشكلة واقعاً لا تكمن في وجود سرديات متعارضة وحسب، بل في تحوّل هذه السرديات إلى منظومات مغلقة، مكتفية بذاتها، لا ترى في الوقائع إلا ما يؤكّد يقينها السابق، الأمر الذي يُفقد الحدث السياسي طبيعته بوصفه واقعة مفتوحة على التأويل، ويُصيّره مجرّد مادة تُستثمر لإعادة إنتاج الانقسام ذاته، ما يُبعِد التفكير عن أن يكون ممارسةً لفهم التعقيد، ليُكتفى به كأداة لتثبيت الأحكام، ومسرح لمحاكمات متبادلة.

هكذا، ظلّ المشهد اللبناني، بما يحمله من تشابكات اجتماعية وتاريخية واقتصادية وطائفية، يُختصر باضطراد ٍإلى ثنائيات فجة، تلغي ما عداها من مناطق رمادية، هي في الحقيقة جوهر السياسة وإمكانها الوحيد. وهكذا، يتحوّل باضطراد أيضاً ما يُفترض أنه “انتصار سياسي” إلى هزيمة وطنية شاملة، على اعتبار أن المجتمع الذي يعجز عن التفكير بنفسه ككلٍّ متعدّد، هو بطبيعة الحال لا يستطيع أن يبني مشروعاً مشتركاً أو مستقبلاً قابلاً للحياة. هو عجز عن التفكير خارج السرديات الجاهزة، وعن الاعتراف بأنّ الواقع اللبناني أعقد من أن يُختزل، وأغنى من أن يُحتكر، وأخطر من أن يُدار بعقلية اليقين المطلق، وسيظلّ يؤسس بنيوياً لهزائم إجتماعية ووطنية ولّادة للويلات.

في هذا السياق، ثمّة ما يستحقّ التعليق عليه، على سبيل المثال لا الحصر. ففي ذروة الاستقطاب، وما قبل تغير موازين القوى، برزت خطابات نادرة كسرت منطق السرديات المغلقة، وكشفت إمكان تفكيرٍ سياسيّ مختلف، نوعاً ما. أعود هنا بالتحديد إلى ما قبل أشهر قليلة من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، عندما ألقى النائب عن كتلة الوفاء للمقاومة د. علي فياض كلمةً وُصفت وقتها باللافتة للانتباه، وأثارت ضجة من الآراء حولها. يومها، قال ما حرفيته: “علينا أن نأخذ هواجس الطوائف كما هي بما فيها تلك التي تنبع من أساس واهم، لأن من عادة الطوائف أن يعلو عندها منسوب القلق، وتبالغ بالمخاطر، ما يولّد أوهاماً كبرى في أحيان كثيرة. من واجبنا في منهجية البحث عن حلول للإشكاليات اللبنانية أن نتعاطى مع الهواجس كما هي، بمعزل عن جذورها الواقعية أو المتوهمة، لأن أثر هذه الهواجس هو واقعي، والسلوك السياسي الذي تنتجه الطوائف هو واقعي، بغض النظر عن جذر هذا الوهم… لك كل الحق كلبناني أن أتناقش وإياك بمنهجية أنا أسميها تبادل الهواجس والضمانات. ضع هواجسك على الطاولة، وكذلك أنا، ولنعطِ بعضنا البعض ضمانات”.

أهمية هذا الطرح لا تكمن في مضمونه التوافقي، بل في منهجيته، فهو لا يسعى إلى تصحيح هواجس الطوائف أو نزع مشروعيتها، بل إلى التعامل معها كما هي، وفي ذلك، خروج واضح من منطق السردية المغلقة، وانتقال من سياسة اليقين إلى سياسة الاعتراف بالتعقيد. ما فعله فياض، عملياً، وبصفته الشخصية كما أوضح لاحقاً، هو أنه تصرّف بذهنية لا تُسقط الهواجس والوقائع على سرديتها هي، بل تُسقطها في حقل بحثي مفتوح، حيث يمكن للهواجس أن تُعامَل كحقائق فاعلة سياسياً، لا كأخطاء معرفية يجب نفيها أو السخرية منها. وهذا ما يفسر التجاوب الإيجابي معه من قبل المعارضين لاحقاً، إذ لم يكن الأمر والحال هذه نتيجة جاذبية لغوية، بل نتيجة دخول خطاب فياض إلى منطقة مشتركة لم تكن موجودة قبل لحظة التصريح، بحيث وجد الطرف الآخر هنا نفسه أمام لغة تمنحه مساحة للتعبير عن هواجسه دون أن يشعر بأن هناك من يؤطّر سرده أو يختزل انتماءه.

المجتمع الذي يعجز عن التفكير بنفسه ككلٍّ متعدّد، هو بطبيعة الحال لا يستطيع أن يبني مشروعاً مشتركاً أو مستقبلاً قابلاً للحياة. هو عجز عن التفكير خارج السرديات الجاهزة، وعن الاعتراف بأنّ الواقع اللبناني أعقد من أن يُختزل، وأغنى من أن يُحتكر، وأخطر من أن يُدار بعقلية اليقين المطلق، وسيظلّ يؤسس بنيوياً لهزائم إجتماعية ووطنية ولّادة للويلات

وأبرز الردود عليه وقتها تمثّلت في ما قاله رئيس جهاز الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية، شارل جبور، ومن جملة ما قال: “مهمة جداً لغة الهواجس، فلنرَ كيف نستطيع من خلال هذه المعادلة أن نصل إلى مكان ما.. أحييه على هذه الجرأة وهذا الكلام المتقدم على أمل أن نُطوّره جميعاً كلبنانيين ونصل إلى أفكار تكون من مصلحة البلد”.

لافتٌ للانتباه إذاً أنّ هذا الطرح، الصادر عن خصم سياسي مباشر، دفع شارل جبور، المعروف بخطابه السياسي الحاد، والذي يقف في منطقةٍ هي على النقيض تماماً من منطق حزب الله، إلى تليين لهجته ظاهرياً، والاعتراف بقيمة المنهجية المطروحة. لا لأنّ المواقف تبدّلت، بل لأن طريقة مقاربة الاختلاف تغيّرت. وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّ الخطاب، حين يتحرّر من يقينه المغلق، يستطيع أن يفتح ثغرات حتى في أكثر البيئات استقطاباً.

إقرأ على موقع 180  سجادة إيران الإقليمية تتمزق.. هل يفيد الرتق؟

لقد خلق خطاب النائب علي فياض بشكل مباشر أرضية للتلاقي، غيّرت في نظر بعض المراقبين من لهجة الآخر المُعارض، وقرّبته إلى دائرة البحث عن تطوير أفكار علاجية لأجل بلوغ الصالح العام.

الأسئلة التي تُطرح هنا: هل يمتلك فيّاض ذهنية باحثة وانفتاحية لا يمتلكها أقرانه في “كتلة الوفاء للمقاومة”، أم أنه يمتلك قدرةً على إثارة الكلام بأسلوب أقدر على الجذب من الآخرين، أم الاثنين معاً؟ وهل القدرة على الجذب هي ملكة، أم هي نتيجة مباشرة لما تختزنه الذهنية؟ وهل يحتاج الفاعلون السياسيون اليوم في المشهد اللبناني، كلٌّ من موقعه، أن يُغيّر في أسلوب الخطاب، أم في الذهنية السياسية أساساً، بما تحمله من سرديات سياسية، إذا توفّرت يوماً ما الإرادة الحقيقية الجامعة عند الجميع؟ وهل لات حين مناص؟ وما هي تبعات فوات الأوان؟

هي أسئلة ليست استفهامية بقدر ما تبغي الكشف عن ترابطٍ عضوي بين الذهنية والأسلوب والنتائج. لا ينتج الخطاب الجاذب من فراغ، بل يُعبّر عن استعدادٍ ذهني للاعتراف بالتعقيد، فيما الذهنية المنغلقة، مهما حسّنت لغتها، تعجز عن كسر منطق الاستقطاب. الخطاب، مهما كان ذكيًا، يظلّ أداة، أما الذهنية فهي المصنع؛ إن كانت مغلقة أعادت تدوير الحدث داخل سردية واحدة جامدة، وحوّلت أي كلام سياسي إلى تثبيت للمواقف لا إلى بحثٍ عن حلول. وإن كانت باحثة، قبلت بأن للآخر حقيقة شعورية، واعترفت بأن الوقائع والهواجس ليست معطيات تقنية قابلة للقياس، بل حالات نفسية وسياسية تشكّل سلوك الجماعات.

المعضلة، إذاً، تكمن في الذهنية التي لا تضع السردية داخل دائرة الأسئلة، والتي تخاف الاعتراف بقلق الآخر لأنها تُربّي نفسها على منطق الحق لا منطق الفهم. من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى خطاب قادر على تفكيك صلابة السرديات دون استفزازها، ونابع من ذهنية تسمح بأن يكون الحدث – سواء كان موقفًا أو هاجسًا أو خوفًا – نقطة انطلاق للسؤال لا نقطة ختام للخصومة. عند هذه العتبة فقط، يمكن أن تتحوّل لغة الهواجس من لغة شكّ إلى هندسة سياسية جديدة، تضع اللبنانيين في مواجهة أنفسهم قبل أن تضعهم في مواجهة بعضهم البعض. أمّا وقد انعدم هذا الفضاء حتى اللحظة؛ فضاء التفكير الشامل والذهنية غير الاختزالية، فستظلّ ذهنية المواجهة تُستخدم من مختلف الأطراف كأداة اتّقاء سياسي، تؤسّس لتوازنٍ رعبيّ قد يمنع الانفجار لكنه لا يمنع الانهيار. وستظلّ الذهنية الباحثة تقاس، في بيئة يغلب عليها منطق التحدّي، بوصفها مخاطرةً لا بدّ أن تمتلك حدودها الدفاعية، وإلا تحوّلت إلى نقطة ضعف.

ومع ذلك، لا يمكن للذهنية الباحثة أن تنتظر اكتمال التوازن كي تباشر فعلها، لأنّ التوازن لا يُمنَح بل يُبنى. المخاطرة في الخروج من منطق المواجهة هي شرط تكوين فضاء الحوار لا نتيجته. وعليه، يغدو التغيير الذهني ليس ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة سياسية، لأن الخطاب، ما لم ينبع من ذهنية تعترف بالتعقيد وتحتمل اللايقين، سيبقى مجرّد إعادة إنتاج لأدوات الانقسام، ولو بأكثر اللغات تهذيبًا.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  ترامب ينقلب على مواقفه المؤيدة لبوتين.. إنها الإنتخابات