قلب الحقائق في لبنان: حين يُحمى النظام وتُشيطَن القوّة

لم يُترك النقاش السياسي في لبنان، خلال السنوات التي أعقبت انتفاضة 2019، ليتطوّر بصورة طبيعية تعكس حجم الانهيار البنيوي الذي أصاب الدولة والمجتمع معًا، بل جرى ضبطه وتوجيهه ضمن مسارات محدّدة بعناية، هدفت إلى حماية جوهر النظام القائم وإعادة إنتاج منظومة السلطة نفسها بأدوات جديدة وخطاب مُحدَّث.

لو قاربنا مرحلة الإنهيار الاقتصادي والمالي في خريف العام 2019، لوجدنا أن هناك من فرض على الحياة السياسية مسار نقاش مصطنع، لا يسعى إلى تفكيك أسباب الانهيار بقدر ما يعمل على إعادة ترتيب المسؤوليات بطريقة انتقائية تخدم التوازنات الداخلية ورعاتها الخارجيين، وتُبعد مركز الأزمة عن جذورها الحقيقية.

ضمن هذا الإطار، جرى إخضاع القوى المستقلة والناشئة لعملية فرز قسرية، حُصرت خلالها الخيارات السياسية بين خانتين ضيّقتين: مع حزب الله أو ضدّه، وكأنّ الموقف من سلاحه هو المعيار الوحيد للانتماء السياسي والوطني. لم يكن هذا الفرز وليد نقاش داخلي بريء، بل جاء نتيجة تلاقٍ واضح بين المقاربة الأميركية والأدوار الخليجية السياسية والإعلامية والدبلوماسية، التي رأت في سلاح المقاومة العقبة الأساسية أمام إعادة إدخال لبنان في منظومة الاصطفاف الإقليمي التي تخدم مصالحها. وهكذا، أُعيد تعريف الصراع السياسي على نحوٍ يُفرغه من أبعاده الاجتماعية والاقتصادية، ويختزله في مسألة واحدة تُستخدم أداةَ ضبطٍ وإقصاء.

ومن هنا، جرى ربط مجمل أزمات لبنان، بما فيها الانهيار المالي والنقدي غير المسبوق، بهذه المسألة تحديدًا، وتحويلها إلى المدخل الإلزامي لأي نقاش سياسي أو إصلاحي. وبهذا، أُقصيت عمدًا كل المقاربات التي حاولت مقاربة الأزمة من زاوية بنيوية، أي من خلال نقد النظام الطائفي نفسه، وآلياته القائمة على المحاصصة والزبائنية، والتشابك العضوي بين السلطة السياسية والمصارف ورأس المال المالي. فكلّ من رفض اختزال الانهيار الشامل بسلاح حزب واحد، أو سعى إلى ربطه بالسياسات الاقتصادية التي راكمتها الطبقة الحاكمة لعقود، جرى تهميشه أو شيطنته سياسيًا وإعلاميًا، ووُضع خارج «الشرعية» المفروضة.

وقد لعبت وسائل إعلام خليجية، ومعها منصّات محلية ممولة خارجيًا، دورًا محوريًا في تثبيت هذا الإطار الاختزالي، عبر إعادة إنتاج سردية تُحمِّل مسؤولية الانهيار لطرف واحد، وتُغفل عمدًا دور النموذج الاقتصادي الريعي، والسياسات المالية التي حظيت لسنوات برعاية دولية وإقليمية، بما فيها رعاية أميركية مباشرة ودعم خليجي غير مباشر. وهكذا، تحوّل الإعلام من أداة مساءلة ومحاسبة إلى أداة توجيه سياسي، تُسهم في قلب الحقائق وحماية مراكز النفوذ الفعلية، وتحول دون تشكّل وعي عام يربط الأزمة ببنيتها العميقة.

وبالتوازي، لعبت بعض السفارات الغربية ولا سيما الأميركية دورًا فاعلًا في خلق ظواهر جديدة، من خلال دعم قوى وشخصيات محدّدة، وتوفير غطاء سياسي ومالي وإعلامي لها. وفي المقابل، حاذرت تسمية بعض القوى بأسمائها بما يضمن تحييدها عن أي مساءلة جدّية، برغم كونها جزءًا أصيلًا من السلطة منذ عقود، وشريكًا مباشرًا في السياسات الاقتصادية والمالية التي قادت إلى الانهيار، ومرتبطة عضويًا بالمحاور الإقليمية والغربية. وبهذا، جرى تعويم أدوار تاريخية وتبييض سجلات سياسية تحت شعارات سيادية انتقائية، ناهيك بفبركة ظواهر عبّرت عن نفسها في أول انتخابات نيابية في العام 2022.

في هذا السياق، استُخدم شعار «مواجهة المنظومة» بصورة انتقائية وفضفاضة، تتيح توجيه الغضب الشعبي نحو هدف واحد، مقابل حماية جوهر النظام القائم. أمّا الطرح الذي دعا إلى مواجهة النظام الطائفي نفسه، وكشف تحالفه العميق مع لوبي المصارف والرساميل المالية، فقد جرى تهميشه عمدًا، لأنه يشكّل تهديدًا مباشرًا لشبكة مصالح داخلية–خارجية تضمّ الطبقة السياسية اللبنانية، والقطاع المصرفي، ورعاته الأميركيين والخارجيين في آن واحد. وكان هذا الطرح كفيلًا بفضح حقيقة الانهيار بوصفه نتيجة خيارات سياسية واقتصادية متراكمة، لا حادثًا معزولًا أو نتيجة عامل واحد.

ومن خلال هذا التهميش المنهجي، تمكّنت الإدارة الأميركية، بالتنسيق مع بعض العواصم الخليجية، من عدم اخضاع لوبي المصارف إلى أي مساءلة حقيقية، برغم كونه أحد الأعمدة الأساسية للانهيار الاقتصادي. كما جرى تعطيل أي نقاش جدّي حول مسؤولية السياسات النقدية والمالية المرتبطة بالنظام المالي العالمي، أو دور الرساميل الخليجية في دعم النموذج الريعي اللبناني، ثم الانسحاب منه عند لحظة الانفجار من دون تحمّل أي كلفة سياسية أو أخلاقية. وبذلك، جرى تحميل المجتمع اللبناني كلفة الانهيار، فيما بقيت مراكز القرار محصَّنة.

وفي المحصّلة، لا يمكن فصل ما جرى في لبنان عن الصراع الإقليمي الأوسع حول وظيفة هذا البلد وموقعه في خرائط النفوذ الجديدة في الشرق الأوسط. فلبنان لم يُستهدف لأنّ سلاح المقاومة شكّل أصل أزماته، بل لأنّ هذا السلاح عطّل مشروع تحويله إلى دولة خاضعة بالكامل، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، لمنظومة الهيمنة الغربية–الخليجية. والمشكلة، في جوهرها، ليست في السلاح، بل في رفض لبنان أن يُختزل بدور السوق المفتوحة بلا سيادة وخطّ التماس الأمني المُدار من الخارج.

ومن هنا، يتكامل الضغط الداخلي مع الضغط الخارجي: حصار اقتصادي، وابتزاز مالي، وتوجيه إعلامي، وضغوط دبلوماسية، جميعها تهدف إلى فرض خيار واحد يقوم على نزع عناصر القوّة مقابل وعود وهمية بالإصلاح والدعم. غير أنّ التجربة أثبتت أنّ المعروض ليس مشروع إنقاذ، بل إعادة إنتاج للانهيار ضمن صيغة أكثر انضباطًا، تُبقي لبنان ساحة مستباحة بلا قدرة على حماية قراره أو موارده أو مستقبله.

إقرأ على موقع 180  هل بالإمكان نقد كانط.. شيخ الفلاسفة والألمان؟

إقليميًا، يأتي هذا المسار في لحظة إعادة رسم توازنات المنطقة، حيث تُستخدم الأزمات الداخلية أدواتٍ لإعادة التموضع السياسي، من فلسطين إلى سوريا والعراق واليمن. ولبنان، في هذا المشهد، ليس استثناءً، بل ساحة اختبار لإرادة إخضاع نموذج كامل يقوم على نزع عناصر القوّة وتثبيت أنظمة تابعة تحت شعار «الاستقرار».

من هنا، فإنّ أي نقاش جدّي حول مستقبل لبنان لا يمكن أن يبدأ من سؤال السلاح، بل من السؤال الجوهري: أي وظيفة يُراد لهذا البلد أن يؤدّيها؟ دولة ذات سيادة، قادرة على حماية قرارها وثرواتها وحدودها، أم مجرّد وظيفة اقتصادية–أمنية في مشروع إقليمي أكبر؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال وحدها تُخرج النقاش من دوّامة التضليل، وتضع الأزمة في إطارها الصحيح، وتكشف أنّ المعركة الحقيقية ليست على السلاح، بل على هوية لبنان ودوره ومصيره.. ولن تكون الصيغة اللبنانية الرجراجة خارج دائرة هذا النقاش.

Print Friendly, PDF & Email
أكرم بزي

كاتب وباحث لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لا حرب كبرى في المنطقة.. لماذا؟