قضية اللبناني «أبو عمر».. حين يسقط وهم الرعاية الخارجية!

لا تُقرأ قضية «أبو عمر»، التي تصدّرت المشهد اللبناني في كانون الأول 2025، بوصفها مجرّد ملف احتيال مالي، بل كواقعة كاشفة لبنية أعمق في الحياة السياسية اللبنانية. فقد فتحت نافذة على علاقة ملتبسة نسجتها شرائح من الطبقة السياسية مع الخارج، وعلى صورة القوة والشرعية كما تتخيّلها هذه الطبقة، وحدود السيادة كما تمارسها فعلياً لا كما تعلنها في الخطاب.

منذ عقود، تقوم السياسة في لبنان على توازن هشّ بين الداخل و«الرعايات» الخارجية. كثير من الفاعلين لم يربطوا نفوذهم فقط بأصوات الناخبين أو بقوة التنظيم، بل أيضاً بإشارات تأتي من عواصم إقليمية ودولية. في هذا المناخ، برز ملف «أبو عمر» ليطرح سؤالاً أولياً: هل نحن فعلاً أمام مبادرة فردية لشخص يعمل وحده و«سنكرياً» كما قيل، أم أمام ظاهرة أعقد من مجرد احتيال شخصي؟ وهل يمكن، عملياً، لشخص واحد بقدرات تقنية محدودة أن يدير شبكة بهذا الاتساع من دون حدّ أدنى من الغطاء أو التغاضي؟

التفاصيل المتداولة تقدّم «أبو عمر» بوصفه شخصاً امتلك أدوات بسيطة، وقدرة عالية على تقليد اللهجة السعودية، واستخدام تطبيقات تُخفي هوية الأرقام وتظهرها كأنّها صادرة من المملكة أو من عواصم أخرى. انطلاقاً من هذه الأدوات، قيل إنه تقمّص شخصية مسؤول سعودي رفيع أو مقرّب من دوائر القرار، وتواصل مع سياسيين ونواب وطامحين إلى رئاسة الحكومة، مقدّماً نفسه قناة إلى «القرار السعودي». هنا يبرز سؤال ثانٍ: هل يمكن اعتبار ما جرى ظاهرة محلية محصورة بالمبادرة الفردية، أم أنّها تجاوزت ذلك لتلامس مستوى أكثر تنظيماً؟ وهل يُستبعد أن تكون قد حملت أبعاداً أمنية بامتياز، سواء لجهة جمع معلومات، أو ممارسة ابتزاز سياسي–مالي، أو إدارة علاقات نفوذ وهمية؟

لم تعد قضية «أبو عمر» سؤالاً عن محتال بعينه، بقدر ما أصبحت سؤالاً عن نظام كامل، نظام يسمح لشخص واحد، بلهجة مقلَّدة وبعض التطبيقات الهاتفية، أنْ يعبر من أطراف الشمال إلى قلب الشبكات السياسية في بيروت. من سهّل له هذا العبور؟ من استفاد منه، ومن تغاضى عن وجوده؟ وما لم تُطرح هذه الأسئلة بجدّية، وتُفتح الملفات المرتبطة بها حتى نهايتها، سيبقى احتمال ظهور «أبو عمر» جديد قائماً دائماً، حتى لو تغيّر الاسم، وتبدّلت اللهجة، وتغيّرت أرقام الهواتف

بهذه الخلفية، لم يبقَ الملف محصوراً في سجلات القضاء، بل سرعان ما خرج إلى الرأي العام وتحول إلى مادة للنقاش والسخرية في آن واحد. لم يعد السؤال كيف خُدع سياسيون ورجال أعمال وأمنيون؟ بل، كيف أمكن لهذه الظاهرة أن تستمر سنوات (بين 7 و8 سنوات)؟ وكيف لرجل ذي خلفية اجتماعية متواضعة أنْ يخترق عالم الصالونات المغلقة بصوته فقط، وأنْ يمتلك هذا القدر من التفاصيل عن مواعيد ومزاجات واجتماعات وتوازنات بين سياسيين ورجال أعمال؟ هل كان «أبو عمر» يجمع معطياتٍ ممنهجة ويُراكم قاعدة معلومات خاصة به؟ ومن كان يزوّده بهذه المعطيات الدقيقة عن لقاءات تجري خلف الأبواب المغلقة؟ ثم هل «أبو عمر» هذا هو فعلاً صاحب الدور الأساسي، أم أنّ «أبو عمر» الفعلي شخصية أخرى، وربما مجموعة شخصيات تقف خلف الستار؟

واحدة من الروايات المتداولة عن لحظة سقوطه تروي أنّ سياسياً لبنانياً جلس أمام رجل قُدِّم له كوسيط مع مسؤول سعودي رفيع. قرّر السياسي أنْ يختبر ما سمعه طويلاً، فاتصل بالرقم الذي كان يعتقد أنّه رقم «المسؤول السعودي». رنّ الهاتف… في جيب «الوسيط» الجالس أمامه. لم تُسقط هذه اللحظة الرجل وحده، بل كشفت هشاشةً في طريقة تعاطي النخب مع فكرة «الوسيط» نفسه، فالقدرة على الدخول إلى عالم القرار لم تعد تمرّ عبر مؤسسات واضحة أو قنوات رسمية، بل عبر أفراد يقدّمون أنفسهم بوصفهم مفاتيح سحرية لعلاقة مع الخارج.

من هنا يتفرّع سؤال آخر أكثر تخصيصاً: لماذا كان تركيز «أبو عمر» شبه الحصري على البنية السياسية السنية بالدرجة الأولى؟ هل لأنّ هذه البنية تاريخياً أكثر حساسية حيال مسألة العلاقة مع المملكة العربية السعودية، بوصفها مرجعية سياسية – رمزية أساسية؟ أم لأنّ اختراقها أسهل بفعل التنافس الداخلي الحاد، وغياب مرجعية سياسية موحّدة تضبط الإيقاع وتوحّد القنوات؟

هذا البعد يقود إلى سؤال زمني – إجرائي لا يقلّ أهمية: كيف لم تُكتشف هذه الظاهرة مع أنّها وفق المعطيات المتداولة، مستمرة منذ سنوات؟ وكيف مرّت هذه الفترة من دون أنْ تُرصد وتُوقف، في بيئة سياسية وإعلامية معروفة بكثافة التسريبات فيها؟ وهل كان ذلك نتيجة جهل فعلي بما يحدث، أم نتيجة تواطؤ ضمني، أم رغبة في الاستفادة إلى أقصى حدّ من خدمات «الوسيط» قبل لحظة الانكشاف؟

الأكثر حساسية هو الجانب المتعلّق بالموقف الخارجي نفسه. فالروايات المتداولة تشير إلى أنّ بعض الجهات السعودية كانت على علم بوجود هذه الظاهرة وباسم «أبو عمر». إذا صحّ ذلك، يطرح الأمر سؤالاً إضافياً: لماذا تُركت مستمرة كل هذا الوقت؟ هل نُظر إليها على أنها هامشية ولا تستحق المواجهة المباشرة؟ أم أنّ حسابات سياسية معيّنة جعلت من تجاهلها، في حينه، خياراً أقلّ كلفة من تفجيرها مبكراً؟ غياب الإجابات الرسمية حتى الآن يضيف طبقة جديدة من الالتباس إلى صورة العلاقة اللبنانية – السعودية في السنوات الأخيرة.

إقرأ على موقع 180  ماذا يريد عرب الأهواز من الحكومة الإيرانية؟

ويتمدّد الالتباس إلى داخل المؤسسات الدينية. فمع ورود أسماء ذات صفة دينية في محيط القضية، ووجود ادّعاءات بأنّ «أبو عمر» استُخدم أيضاً لإيصال رسائل داخل البيئة السنية، يصبح الصمت الديني موضع تساؤل مباشر. لماذا صمتت دار الفتوى طوال هذه الفترة؟ هل كانت خارج دائرة المعرفة بما يجري؟ أم كانت على علمٍ واختارت عدم التدخّل حفاظاً على توازنات معيّنة؟ وكيف ينعكس هذا الصمت على موقع المرجعية الدينية في لحظة تتعرّض فيها الثقة السياسية والاجتماعية داخل هذه البيئة لاختبار قاسٍ؟

مع توالي التسريبات واتّساع دائرة الأسماء المتداولة، خرجت القضية نهائياً من دائرة الشخصي والجرمي البحت، لتتحوّل إلى مرآة لطبقة سياسية بنت جزءاً من شرعيتها على الخارج، فوجدت نفسها فجأة في موقع المتلقّي لوهم الرعاية نفسه. رجل من الهامش والأطراف خدع المركز، لا بقوة خارقة، بل باستثمار ثغرات بنيوية في طريقة اشتغال هذا المركز واعتماده المفرط على قنوات غير رسمية.

في المحصّلة، لم تعد قضية «أبو عمر» سؤالاً عن محتال بعينه، بقدر ما أصبحت سؤالاً عن نظام كامل، نظام يسمح لشخص واحد، بلهجة مقلَّدة وبعض التطبيقات الهاتفية، أنْ يعبر من أطراف الشمال إلى قلب الشبكات السياسية في بيروت. من سهّل له هذا العبور؟ من استفاد منه، ومن تغاضى عن وجوده؟ وما لم تُطرح هذه الأسئلة بجدّية، وتُفتح الملفات المرتبطة بها حتى نهايتها، سيبقى احتمال ظهور «أبو عمر» جديد قائماً دائماً، حتى لو تغيّر الاسم، وتبدّلت اللهجة، وتغيّرت أرقام الهواتف.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  مصر وفرصتها التاريخية.. بين سوريا وليبيا