معركة المصطلحات: كيف تُمهِّد اللغة لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط؟

لم يعد الخطاب السياسي والإعلامي الغربي–الصهيوني يتعامل مع اللغة بوصفها وسيلة وصف محايدة للواقع، بل بات يوظّفها كأداة استراتيجية استباقية، تُستخدم لإعادة تشكيل الوعي الجغرافي والهوياتي قبل أي تغيير ميداني فعلي. فالكلمات هنا لا تشرح التحولات، بل تصنع شروطها الذهنية، وتُعدّ الرأي العام لتقبّل خرائط وحدود لم تولد بعد على الأرض، لكنها رُسمت سلفًا في العقول.
في هذا الإطار، يبرز إحياء تسميات تاريخية ودينية قديمة، أُخرجت من سياقها المعرفي، وأُعيد ضخّها في التداول السياسي والأمني، كجزء من عملية منظمة لإعادة تعريف المكان. ومن بين هذه التسميات، يطفو مصطلح «باشان» مجددًا، ليس كأثر لغوي من الماضي، بل كإشارة سياسية موجّهة، تطال جنوب سوريا عمومًا، والسويداء على وجه الخصوص، في لحظة إقليمية شديدة السيولة والخطورة.
«باشان» من الذاكرة الدينية إلى الهندسة السياسية
تاريخيًا، ارتبط اسم «باشان» بجغرافيا توراتية قديمة تقع شرق نهر الأردن، في فضاء رمزي لا يتطابق مع خرائط الدول الحديثة. ولم يكن لهذا المصطلح، في أي مرحلة معاصرة، وظيفة إدارية أو توصيف جغرافي معتمد. غير أن إعادة إحيائه اليوم، وبوتيرة متصاعدة في الخطاب العبري وبعض الدوائر الغربية، لا يمكن فهمها إلا ضمن سياق سياسي–أمني أوسع، يُعاد فيه فتح ملف الحدود والهويات تحت عناوين كبرى من قبيل «تفكك النظام الإقليمي» أو «إعادة ترتيب الشرق الأوسط».
إن استدعاء هذا الاسم تحديدًا، وفي توقيت يتزامن مع توترات جنوب سوريا، وفي منطقة ذات خصوصية ديموغرافية وحساسية أمنية مثل السويداء، لا يمكن اعتباره صدفة لغوية. بل هو رسالة رمزية مكثفة: إعادة تعريف المكان عبر التاريخ، تمهيدًا لإعادة تأويله سياسيًا، وربما التعامل معه مستقبلاً كحيّز قابل لإعادة الترتيب خارج منطق الدولة الوطنية.
اللغة كسلاح ضغط ناعم
تكمن خطورة هذه المصطلحات في وظيفتها الرمزية لا الوصفية. فهي لا تسعى إلى قراءة الواقع، بل إلى إنتاج سردية بديلة له. وحين تُستدعى الإشارات الدينية المرتبطة بالمكان، فإنها تُستخدم لإضفاء شرعية متخيّلة تتجاوز مفهوم السيادة الحديثة، وتفتح الباب أمام مقاربات استعمارية جديدة، تُغلّف بلغة «التاريخ المقدّس» أو «الحقوق التاريخية».
هنا تتحول اللغة إلى سلاح صامت:
لا يحتل الأرض، لكنه يغيّر معناها.
لا يرسم الحدود، لكنه يجعل إعادة رسمها فكرة قابلة للتداول.
لا يفرض الكيانات، لكنه يهيّئ الوعي لتقبّلها حين تُفرض.
 قاموس يتوسّع منذ 2011
منذ عام 2011، شهد الخطاب السياسي والإعلامي المتعلق بالمنطقة تضخّمًا في استخدام مصطلحات يمكن تصنيفها ضمن أربع مجموعات رئيسية، تتقاطع جميعها عند هدف واحد: تفكيك الدولة الوطنية ذهنيًا، قبل تفكيكها جغرافيًا.
أولًا؛ المصطلحات الدينية–التوراتية
مثل: باشان، جلعاد، مؤاب، إيدوم، جبل الحور، وشرق نهر الأردن.
تُستخدم هذه التسميات لربط جغرافيا معاصرة بسرديات دينية قديمة، بما يخدم إنتاج خطاب شرعية رمزية، ويهيّئ الرأي العام الغربي، ولا سيما الإنجيلي، لتقبّل مشاريع نفوذ أو توسّع ذات طابع استيطاني–أمني.
ثانيًا؛ المصطلحات العثمانية
كإحياء مسميات ما قبل سايكس–بيكو: ولاية الشام، لواء إسكندرون، سنجق القدس، ولايات الموصل وبغداد والبصرة.
الهدف هنا هو التشكيك بشرعية الدول الوطنية القائمة، وتصويرها ككيانات مؤقتة أو مصطنعة، قابلة للتفكيك أو الاستبدال بصيغ «تاريخية» بديلة.
ثالثًا؛ المصطلحات الإثنية–الهوياتية
مثل: روج آفا، الجزيرة، بلاد ما بين النهرين، أو توصيفات طائفية تُقدَّم ككيانات سياسية محتملة: دروز الجبل، العشائر، السريان، الآشوريون.
هذه اللغة تروّج لفكرة «المجتمعات الإقليمية» القابلة للتحول إلى كانتونات أو إدارات ذاتية، ضمن نموذج تقسيمي مرن، جرى اختباره فعليًا في شرق الفرات، ويُراد تعميمه بأشكال مختلفة.
ويُضاف إلى ذلك استخدام تسميات شديدة الخطورة، كاستبدال «جنوب لبنان» بتعبير «جنوب الليطاني» في الخطاب الدولي، بما يفرغ الأرض من هويتها الوطنية، ويعيد تعريفها كحيّز أمني وظيفي مفتوح على إعادة التشكيل.
رابعًا؛ المصطلحات الاستعمارية المعاد تدويرها
مثل: المناطق الآمنة، المناطق المنزوعة السلاح، الممرات الإنسانية، الخطوط الحمراء، مناطق النزاع بدل الأراضي المحتلة.
وهي مفردات تُستخدم لتطبيع الفصل الوظيفي، وتحويل الوقائع العسكرية المؤقتة إلى ترتيبات سياسية طويلة الأمد، كما حدث سابقًا مع تصنيفات أ–ب–ج، أو توصيف السكان بـ locals بدل citizens، بما ينزع عنهم صفة المواطنة والسيادة معًا.
لماذا هذا القاموس ليس بريئًا؟
لأنه يخدم ثلاثة أهداف استراتيجية واضحة:
-إعادة تشكيل الخريطة الذهنية: تقسيم الوعي قبل تقسيم الأرض.
-إنتاج سرديات هوياتية متوازية: الإيحاء بأن المنطقة غير قابلة للحكم ضمن دول موحّدة.
-تهيئة البيئة السياسية لترتيبات مستقبلية: فيدراليات، كانتونات، مناطق نفوذ، أو تقسيم فعلي مقنّع بلغة «الحلول الواقعية».
 الدفاع عن الجغرافيا يبدأ من المفردات
ما يجري اليوم ليس صراعًا لغويًا عابرًا، بل معركة على المعنى والوعي. فحين تُفرض مفردات جديدة لوصف المكان، يُعاد تشكيل الذاكرة الجماعية، وتُستبدل الهوية تدريجيًا، ويغدو التقسيم خيارًا قابلًا للنقاش بعد أن كان خطًا أحمر.
إن أخطر ما في هذه الحرب أنها صامتة: تبدأ بالكلمات،
ثم تتحول إلى سرديات،
ثم تُترجم إلى خرائط،
ثم تُفرض كأمر واقع.
ومن لا ينتبه إلى قاموس المرحلة، قد يستيقظ يومًا ليجد وطنه قد أُعيدت تسميته، ومُزّق باسم التاريخ، وجُرّد من سيادته باسم الحماية.
لذلك، فإن حماية الجغرافيا لا تبدأ من الحدود، بل من اللغة.
وأي تساهل مع المفردات المفروضة اليوم، ليس حيادًا، بل خطوة أولى نحو القبول بخرائط لا تُرسم لصالح أصحاب الأرض، ولا تُكتب بأسمائهم.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  العلاقات السنية-الدرزية: التعايش والصراع في السياق الإقليمي (1)
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  اللجوء والإستقرار اللبناني.. ومسؤولية العرب