“الفوضى” ليست بريئة في تاريخ الشرق الأوسط، وهي بالتأكيد ليست مستقلة عن أهداف سياسية، عادةً ما تكون بأبعاد دولية، خاصة في بلد كلبنان إعتاد سياسيوه الوقوف عند خاطر الخارج، في كل صغيرة وكبيرة. أما في العراق، فالمشهد أشدّ تعقيدًا، بسبب حجم هذا البلد ووفرة موارده وعدد سكانه وحدّة الإصطفافات الإقليمية فيه.
ما يشهده العراق ولبنان، في آن واحد، لا ينفي مطلقًا أحقية المطالب الإجتماعية والإقتصادية، ولا سيما الشكوى من واقع الفساد، لكن إغفال السعي الدولي والإقليمي البديهي للإستثمار يُعدّ نقيصة في قراءة المشهد. بناءً على ذلك، يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات المشتركة بين الساحتين العراقية واللبنانية:
أولا، بلغ حجم الفساد في هاتين الدولتين مستوًى قياسيًا، إستنادا إلى المؤشرات العالمية، بالتوازي مع فقدان البنية التحتية أو الخدمات الأساسية التي تبرر ولو جزءًا من الفساد والهدر المالي. ما يعني أن الأمن الاقتصادي ـ الإجتماعي في كلا البلدين شديد الهشاشة، وبالتالي، يسهل إختراق المجتمعين اللبناني والعراقي من هذا الباب.
ثانيا، برغم أن الجو العام للتظاهرات في لبنان لا يزال يصوّب بالدرجة الأولى على الطبقة السياسية الحاكمة، إلا أن الشعارات التي تستهدف سلاح حزب الله خرقت مرات عديدة شعبية الحراك، مدعومة بعشرات التحليلات الصحفية في صحف خليجية وبث تلفزيوني إقليمي مفتوح يهلل لتراجع إيران في لبنان! المشهد نفسه تكرر في العراق بشكل أكثر وضوحًا، من الشعارات الى الحملات المدفوعة الثمن على فايسبوك وتويتر. ولعلّ حساسية العلاقات الإيرانية – العراقية تاريخيًا تتيح هامش تحريض أكبر في الشارع العراقي، أما في لبنان، فذلك يتم بأساليب أشد إلتفافًا. في الواقع، لا يمكن إغفال حقيقة ان الساحتين العراقية واللبنانية تشتركان في حجم نفوذ إيران الوازن فيهما، من وجهة النظر الغربية. وثمة شارع في البلدين، بما في ذلك داخل البيئة الشيعية، يحظى بدعم سعودي إماراتي بهدف تعزيز النفوذ الخليجي في مواجهة النفوذ الإيراني.
إستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أعادت إلى الواجهة، بحسب مؤشرات الشارع، في الساعات الأخيرة، إحتمال تأجيج الحساسيات المذهبية والطائفية
ثالثا، يواجه لبنان والعراق حساسية قد لا تواجهها معظم الأقطار العربية بهذه الحدة، ألا وهي الحساسية السنية ـ الشيعية، خصوصا مع تراجع حضور باقي المكونات الديموغرافية في البلدين. وفيما لم يخرج العراق إلى حد كبير منذ إحتلاله في العام 2003، عن سكة الإحتراب المذهبي، فإنّ إستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أعادت إلى الواجهة، بحسب مؤشرات الشارع، في الساعات الأخيرة، إحتمال تأجيج الحساسيات المذهبية والطائفية، بعد أن خَبِرَ اللبنانيون في الأيام الأولى للتظاهرات وحدة مشهدية في مواجهة خطر الفساد.
رابعا، لا قيادة موحدة ولا مطالب موحدة وواضحة للحراك في لبنان والعراق. قد تكون هذه نقطة إيجابية بالنسبة لأهل الحراك هنا وهناك، ولكنها لا تحدد سقفا ولا مرجعية. في الحالتين، تتشابه برامج الإصلاح التي وعدت بها السلطتان التنفيذيتان، اللبنانية والعراقية، شعبيهما إلى حد كبير، ولذلك، لم تحقق هذه الإصلاحات الصدمة المطلوبة في الشارعين، من دون أن يتضح حتى الآن ما هو السقف الواقعي للمطالب.
خامسا، في الحالتين العراقية واللبنانية، ثمة أزمة ثقة مفتوحة بين الشارع والسلطة، وبات الخروج منها يحتاج إلى صدمة كبيرة. في لبنان، قدم سعد الحريري إستقالته، وفي العراق، رفع مكونان أساسيان (مقتدى الصدر وهادي العامري) الغطاء السياسي عن الحكومة العراقية، ما يعني أن سقوط عادل عبد المهدي يمكن أن يشكل صدمة أولى للشارع العراقي.
ليس خافيا الإستياء الذي عبر عنه الأميركيون من مواقف عون الأخيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وترجموا ذلك مقاطعة له، وبالتلويح بوضع بعض قيادات التيار الوطني الحر على لائحة العقوبات الأميركية
سادسا، حدد الأميركيون في الآونة الأخيرة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي هدفا سياسيا لهم، بعد أن “إنحرف” عن الخطوط المرسومة له، ولا سيما بعد تجاهله تحذيرات واشنطن له وإصراره على زيارة الصين وفي الوقت نفسه تغطيته المفتوحة لـ”الحشد الشعبي” وتوجيه أصابع الإتهام إلى إسرائيل بأنها تقف وراء الغارات التي إستهدفت بعض قواعد “الحشد” في العراق. أما في لبنان، فإن الهدف هو ميشال عون. ضاق الأميركيون ذرعا بالتغطية التي يوفرها هو وصهره وزير الخارجية جبران باسيل لحزب الله وسلاحه. وليس خافيا الإستياء الذي عبر عنه الأميركيون من مواقف عون الأخيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وترجموا ذلك مقاطعة له، وبالتلويح بوضع بعض قيادات التيار الوطني الحر على لائحة العقوبات الأميركية بسبب موقفهم من حزب الله.
سابعا، تنتمي الشريحة الأساسية من المتظاهرين في البلدين إلى الشباب الذي يستقي أخباره من شبكات التواصل بشكل رئيسي. هذا لا يعني أن بقية الفئات العمرية لا تعتمد على شبكات التواصل أيضًا كمصادر إخبارية، ولكن الفارق يكمن في أن الفئة التي نشأت على هذه التقنيات الحديثة، ولم تعرف الفارق بينها وبين ما سبقها، تعتمد في إدراكها المعرفي على حقائق مُختزلة، بفعل طبيعة الإعلام الجديد السريع والموجز.
في العراق، تتراوح البطالة بين 32% و40% وفي لبنان بين 35% و40%
ثامنا، تلتقي الشريحة الشبابية العراقية واللبنانية عند واقع البطالة المؤلم. في العراق هناك حوالي 600 ألف خريج من المعاهد والجامعات سنويا، لا يجد أكثر من 20 في المئة منهم فرصة عمل. في لبنان، هناك 40 ألف خريج جامعي سنويا لا يجد أكثر من 8 آلاف منهم فرصة عمل. لا أرقام رسمية دقيقة للبطالة في كلا البلدين، لكنها تبدو متقاربة: في العراق، تتراوح البطالة بين 32% و40% وفي لبنان بين 35% و40%.
تاسعا، لم تشمل التظاهرات والحركات الاحتجاجية مناطق واسعة في العراق، كما أنها كانت رمزية في مناطق لبنانية عديدة. وفي حين تركزت الاحتجاجات العراقية في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، فإن مشاركة اللبنانيين من الطائفة الشيعية فيها كانت لافتة للإنتباه للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، قبل أن يُبدي حزب الله شكوكه من إحتمال استثمارها خارجيًا. ولعلّ الفارق الرئيسي بين التركيبتين العراقية واللبنانية في ما يخص هذه المسألة، يكمن في أنّ الطوائف اللبنانية الرئيسية تحوي ثنائيات حزبية في أفضل الأحوال، ولا سيما “الثنائية الشيعية”(حزب الله وحركة أمل)، بينما تتعدد الإنتماءات ضمن الطائفة الواحدة في العراق، وخصوصا في المجتمع الشيعي، وهذا الأمر له سياقه الطائفي والإجتماعي والسياسي والتاريخي. هذا الواقع يُفسّر الغضب الشعبي على منظومة الحكم العراقية، ولا سيما الحكومة التي تكون دائما برئاسة شخصية شيعية، في حين أنّ المشهد اللبناني يبدو أكثر إنضباطًا في الخروج على أحزاب الطوائف لاعتبارات تتعلق بالحاجة للإنتماء في بلد يفتقد شعبه للهوية الوطنية الجامعة. لذلك، تصبح لكل طائفة لبنانية شياطينها وأيقوناتها. تقديس سعد الحريري عند المسلمين السنة. تقديس نبيه بري وحسن نصرالله عند المسلمين الشيعة. تقديس ميشال عون عند جمهور مسيحي وشيطنته عند جمهور آخر يقدس سمير جعجع أو آل الجميل إلخ…
عاشرا، يتشابه البلدان من حيث البنية السياسية الطائفية والمذهبية، وهي بنية زبائنية متصلة جدليا بإنبثاق منظومة الفساد وتعاظمها. بنية تنتج زعامات فاسدة وجمهور يواليها طمعا بالوظيفة والمنصب والمكاسب. أعطيني فأعطيك. لذلك، ينتقل التصويب من الإجتماعي إلى السياسي، اي إلى أصل الصيغة في كلا البلدين. خير مثال على ترابط المشهدين، أنه عندما كاد العراق يتفكك، بعد العام 2014، إرتسمت في لبنان أولى إشارات القانون الأرثوذكسي، وجوهره ملاقاة الفيدراليات الحتمية في العراق أولا وسوريا ثانيا.
حادي عشر، من حسن حظ اللبنانيين أن ثقافة العنف التي إستخدموها في حربهم الأهلية، وكلفتهم الكثير، لم تنسحب على معاركهم السياسية اليومية منذ الطائف حتى يومنا هذا، في المقابل، فإن ثقافة العنف راسخة في البنيان الإجتماعي العراقي منذ عقود طويلة من الزمن. في موجتي الإحتجاج اللتين شهدهما العراق خلال شهر واحد، سقط أكثر من 250 قتيلا وأكثر من عشرة ألاف جريح. في لبنان وعلى مدى شهر واحد، لم يسقط أي قتيل حتى الآن.