ما إن استعاد الجيش السوري السيطرة على مدينة حلب في نهاية العام 2016، حتى استبشر الاقتصاديون السوريون خيراً، وبدأ الحديث عن عودة العجلة الاقتصادية للدوران، وعودة المصانع الكبيرة التي من شأنها أن تنعش الاقتصاد المحمل بأعباء الحرب.
اجتماعات عدة عقدتها الحكومة السوريين مع الصناعيين، ودعوات وُجهت إلى مستثمرين خرجوا من سوريا للعودة إلى بلدهم، وإعادة فتح مصانعهم، بجانب تقديم بعض “التسهيلات” المتعلقة بصيانة الطرقات وتأمين التيار الكهربائي والسماح باستيراد الوقود، فضلا عن صيانة أسواق وخانات حلب التاريخية التي كانت تشكل مركزاً تجارياً كبيراً للصناعيين.
كل ذلك، بدا وكأن ثمة انطلاقة “مشرقة” سيشهدها الواقع الصناعي في حلب، إلا أن ذلك لم يعكس فعلياً حقيقة ما جرى، وما يجري.
يشرح الصناعي وعضو غرفة صناعة حلب السابق محمد الصباغ، في حديث إلى “180”، أوضاع الصناعيين والمنشآت الصناعية في حلب، ويقول “عاد عدد من الصناعيين للعمل فعلاً مع سيطرة الجيش السوري. منشآت عدة بدأت تعمل في مدينة الشيخ نجار الصناعية ومنطقة البلليرمون، بالإضافة إلى الورشات الصغيرة”، قبل أن يستطرد قائلاً إنّ “بعض هذه المنشآت توقفت تماماً عن العمل بعد فترة وجيرة، وبعض الصناعيين الذين عادوا وأغلقوا مصانعهم بعدما اصطدموا بالواقع”.
يعاني الصناعيون، وفق الصباغ، من مجموعة كبيرة من المعوقات، أبرزها :”أين سأبيع بضاعتي”. ويضيف “لا تستهلك الأسواق في سوريا كل المواد التي تصنّع، فقبل الحرب كانت نحو 60 في المئة من البضائع تصدَّر إلى خارج سوريا، أما الآن فلا توجد منافذ مع دول الجوار، باستثناء لبنان، كما لا توجد طرق سريعة تربط حلب بدمشق، والمطار لم يعمل بعد، بالتالي إلى أين سنصدر بضائعنا”.
يضرب الصباغ مثالاً على الأمر ببعض البضائع التي تصدّر إلى العراق إذ “تستغرق فترة وصولها 60 يوماً في بعض الأحيان”، متسائلاً “من سيغامر ويشتري بضائع ينتظر وصولها بعد شهرين في وقت توجد فيه بدائل بأسعار منافسة من تركيا ومصر وإيران وغيرها؟”.
وتتضمن “اتفاقية سوتشي”، الموقعة بين روسيا وتركيا في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2018، بنداً حول إعادة فتح طريقي حلب – حماه، ومنها إلى دمشق، وحلب – اللاذقية، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تسهيل عمليات استيراد المواد الأولية وتصدير البضائع سواء عبر مرفأ اللاذقية، أو حتى إلى العاصمة دمشق، إلا أن هذه الطرق لم تفتح حتى الآن.
علاوة على ما سبق، يعاني السوريون من انخفاض معدل الأجور، حيث يبلغ متوسط رواتب الموظفين مثلاً نحو 40 ألف ليرة سورية شهرياً (ما يعادل نحو 60 إلى 70 دولارا).
وبالإضافة إلى مشكلة تصريف البضائع، يذكر الصباغ مشاكل أخرى منها، من بينها عدم استقرار سعر الصرف، وارتفاع تكاليف نقل البضائع، وارتفاع تكاليف الانتاج، بالإضافة إلى الرسوم التي تضاعفت نحو 20 مرة عما كانت عليه، ليشير إلى أنّ “كل هذه الأمور عطلت عمل المنشآت وتسببت بتوقف عدد كبير منها”.
ما يجري فعلياً في اسواق حلب القديمة هو افتتاح محال صغيرة وبشكل عشوائي، وبمهنٍ غير تلك المهن التي كانت تحتضنها
أرقام خادعة
لا توجد إحصاءات دقيقة من مصدر محايد حول المنشآت التي عادت إلى العمل في حلب، أو حتى في سوريا بشكل عام، سواء في دمشق وريفها أو حمص، والتي تضم مناطق ومدن صناعية، إذ تتضارب الأرقام بين وقت وآخر.
وبرغم ذلك، تشير وزارة الاقتصاد السورية، في آخر إحصاء لها في شهر آذار/مارس 2019، إلى أن نحو 82 ألف منشأة تعمل في سوريا من أصل نحو 130 ألفاً.
تعليقاً على هذه الإحصاءات، يرفض الصناعي الحلبي الخوض في ما اسماها “لعبة الأرقام”، معتبراً أن هذه الأرقام لها أهداف إعلامية أكثر منها اقتصادية، وموضحاً أن عمليات الاحصاء لا تأخذ بعين الاعتبار فعلياً الفروق بين المنشآت الكبيرة والمنشآت المتوسطة والصغيرة، كما لا تنظر إلى انتاج هذه المنشآت ونسبة تشغيلها.
وعن دور المعارض والمؤتمرات في تنشيط الصناعات، يرى الصباغ ان هذه الفعاليات تساعد إلى حد بعض الصناعيين في تصريف بضائعهم، إلا أن “ذلك لا يكفي لتنشيط الصناعة”، وفق تعبيره.
ويشرح الأمر قائلاً: “العقوبات المفروضة علينا أغلقت عدداً كبيراً من الاسواق في وجهنا، كما أننا نواجه صعوبات في تصريف البضائع في بعض الدول الصديقة، سواء بسبب ارتفاع تكاليف النقل، أو بسبب عدم تمكن صناعيين كثر من السفر إلى تلك الدول وعرض بضائعهم في الاسواق”.
ويرى الصباغ أن ثمة حاجة إلى تدخل الجهات المعنية في الحكومة السورية، مثل وزارة الخارجية، لمساعدة الصناعيين وتسهيل معاملات تنقلاتهم عبر علاقتها مع الدول الصديقة، بالإضافة إلى دعم الصادرات عبر تقديم الدعم بشكل كامل لأية مواد يتم تصديرها أياً كانت كميتها.
أسواق “استعراضية” واقتصاد الـ”اسبريسو”
في المدينة القديمة، تنشط ورشات تأهيل وترميم أسواق المدينة الأثرية، التي كانت تعتبر أكبر مركز تجاري في حلب، إن لم يكن في سوريا. عمليات الترميم جارية على قدم وساق للأسواق الأثرية المسجلة في قائمة “اليونيسكو” للتراث العالمي، والمسجلة في موسوعة “غينيس” كأطول وأقدم الاسواق العالمية، ولكن عمليات الترميم في هذه الأسواق تأخذ حالياً أبعاداً تراثية وتاريخية وثقافية أكثر منها اقتصادية، خصوصاً أن منظمات اممية هذه العمليات من منطلق ثقافي فحسب.
لا توجد نسبة دقيقة لعدد الأسواق التي تم ترميمها، إلا أن المحامي والباحث التاريخي علاء السيد يشرح لـ”180″ أن سوق السقطية تم ترميمها من قبل منظمة الآغا خان، وهي تضم 56 محلاً تجارياً، افتتح منها بشكل فعلي ثلاث فقط. كما قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي “UNDP” بتقديم مساعدات لأصحاب المحلات في سوق الخابية، ويجري في الوقت الحالي الاستعداد لعمليات ترميم كاملة للسوق. كما عادت سوق الجلوم وسوق المحمص للعمل كونهما لم تتعرضا لأضرار كبيرة. كذلك جرى ترميم سوق النحاسين بدعم من برنامج الامم المتحدة ومطرانية السريان الأرثوذكس، حيث جرى افتتاحه في شهر حزيران/يونيو الماضي، وقد تم تصوير السوق خلال مراسم افتتاحه، إلا أن جميع المحلات أغلقت بعد الانتهاء من مراسم الافتتاح مباشرة.
في هذا السياق، يشرح علاء السيد أن ما يجري فعلياً في اسواق حلب القديمة هو افتتاح محلات صغيرة وبشكل عشوائي، وبمهنٍ غير تلك المهن التي كانت تحتضنها السوق، ويضرب مثالاً على ذلك قائلاً “كثير من المحلات التي افتتحت تبيع القهوة السريعة والمشروبات الباردة”. ويتابع “أسواق حلب القديمة كانت تعتمد قبل اندلاع الحرب بشكل رئيسي على سكان القرى أو الوافدين إلى محافظة حلب. في الوقت الحالي لا يوجد وافدون ولا يوجد طلب على البضائع، كذلك لا توجد منشآت صناعية تعمل بشكل كاف لتخديم هذه الأسواق، هذه العوامل ساهمت في استمرار إغلاق الاسواق برغم الجهود التي تتم لترمميها وافتتاحها لأسباب تراثية وثقافية فحسب، علماً بأنه قبل اندلاع الحرب كانت حلب تستقبل، وفق بعض الإحصاءات، 1.5 مليون شخص يومياً”.
تبدو الصورة ضبابية بالنسبة إلى واقع الاقتصاد السوري وما ينتظره مستقبلاً، برغم “تفاؤل” الحكومة عبر تصريحاتها بتحسن الاقتصاد ودوران العجلة الإنتاجية
ماذا بعد؟
واجهت سوريا قبل اندلاع الحرب في العام 2011 موجة جفاف حادة أضرّت بشكل كبير القطاع الزراعي والحيواني، الأمر الذي أضرّ بدوره العمليات الصناعية القائمة على الزراعة، فانخفضت مساهمة القطاع الزراعي إلى نحو 19 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وكان هذا القطاع يشغل نحو 26 في المئة من الأيدي العاملة في سوريا، وفق إحصاءات عدة.
بدورها، تسببت الحرب بأضرار بالغة في هذا القطاع الاقتصادي المهم، سواء بسبب العمليات القتالية أو التلوث الذي تسببت به عمليات استخراج وتكرير النفط البدائية في مناطق الشمال الشرقي من سوريا، أو بسبب خروج مناطق كانت تمثل مناطق استراتيجية للزراعة في سوريا.
كذلك، ألحقت الحرب أضراراً كبيرة في القطاع النفطي، فخرجت أهم حقول النفط عن سيطرة الحكومة، كما تصررت الكثير الحقول، والبنى التحتية الخاصة بها، فضلاً عن تسرب الأيدي العاملة إلى خارج سوريا ضمن موجات النزوح الكبيرة التي شهدتها بعض المناطق.
وفي ظل الانخفاض الكبير لقيمة الليرة السورية وعدم استقرار سعر الصرف بسبب عمليات المضاربة، تبدو الصورة ضبابية بالنسبة إلى واقع الاقتصاد السوري وما ينتظره مستقبلاً، برغم “تفاؤل” الحكومة عبر تصريحاتها بتحسن الاقتصاد ودوران العجلة الإنتاجية، وهو ما يأمله الصناعيون أيضاً، الذين ينتظرون بدورهم فتح المعابر أمام بضائعهم، وتخفيض تكاليف النقل، الأمر الذي قد ينقذه من كارثة توقف العمل، من خلال إعادة تشغيل آلاته، علّ هذه العجلة تدور فعلاً.