يعيد التاريخ نفسه، اليوم، ولو بصورة مختلفة، حيث كانت لتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتتابعة والمتعلقة بإعادة السيطرة على حقول النفط السورية في شمال شرق سوريا، وإرسال مائتي جندي لإبقاء السيطرة على هذه الحقول، ومطالبته العلانية لشركة النفط الأميركية “إكسون موبيل” بتولي استخراج النفط وبيعه، بالإضافة للبحث عن مكامن جديدة واستخراجها، وقد كان لهذه التصريحات الدور الأساس في تسليط الضوء على البعد الطاقوي للصراع، حيث تباينت المواقف الحقيقية للدول المتصارعة، وفي تكشف الستار عن إحدى خفاياه المتعددة الأبعاد، والمتشابكة في ما بينها، وكل حسب أهدافه المعلنة وغير المعلنة.
خرائط النفط والغاز
على الرغم من معرفة خرائط توزع الحقول المنتجة للنفط والغاز في سوريا، لكن لا تتوفر حتى الآن، إحصائيات دقيقة حول أرقام الإنتاج الفعلي لهذه الحقول، بسبب توزع السيطرة المتباينة للأطراف المتنازعة عليها، وإخفاء الأرقام الحقيقية للإنتاج في مناطق شرق الفرات، والأرقام المتداولة بين كل مراكز الدراسات تستند لأرقام الإنتاج المعلن عنها من قبل الحكومة السورية في عام 2010، وهي تعطي قيمة تنبؤية عن الوضع الحالي، وما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المستقبل، وهذه الأرقام السابقة توضح الأهمية الاستراتيجية لشرق الفرات في انتاج النفط والغاز.
في العام 2010، وصلت أرقام الإنتاج النفطي السوري لحدود 386 ألف برميل نفط يومياً، حيث يتم استهلاك ما قيمته 250 ألف برميل نفط محلياً، والباقي كانت تصدره الدولة السورية إلى الخارج ليحقق عائدات مالية قيمتها ثلاثة مليارات دولار سنوياً حتى تاريخ اندلاع الحرب على سوريا، والأهمية في الأمر أن 90% من هذا الإنتاج مصدره شرق الفرات، وكذلك الأمر بالنسبة للغاز الذي بلغت أرقام إنتاجه عام 2010 حدود 21 مليون م3، منه 45% من حقول المنطقة.
تعتبر دمشق أن معركة استعادة موارد النفط والغاز، تحتل أولوية قصوى في معركتها لاستعادة السيطرة على كامل الأرض السورية
ولعل الإضاءة على توزع حقول الطاقة هذه من الناحية الجغرافية، من شأنه أن يلقي مزيداً من الضوء على طبيعة التوجهات العسكرية والسياسية لكل الأطراف، ففي أقصى الشمال الشرقي من محافظة الحسكة وبالقرب من الحدود التركية، تقع حقول الرميلان المتوزعة على أربع مناطق، وهي السويدية وكراتشوك وعودة قرب القحطانية وعليان الزاربي، وهي مكونة من 1322 بئراً، ووصل إنتاجها إلى حدود 206 آلاف برميل نفط يومياً، بالإضافة إلى 25 بئراً غازياً في السويدية وصل إنتاجها إلى 2مليون م3 من الغاز الذي يعالج بمعمل المرافق فيها، ويتم تجميع النفط المستخرج في محطة رميلان1، لينقل بأنابيب النقل إلى محطات متتابعة بمسافة 100 كم بين المحطة والتي تليها، ماراً بمنطقة أثريا وريف السلمية الشرقي باتجاه مصفاتي حمص وبانياس، والمصب البحري في بانياس. وفي الجنوب الشرقي من المحافظة، تقع حقول الشدادي والجبسة والهول، ولها قدرة إنتاج 50 ألف برميل نفط يومياً، وحقل اليوسفية 1200 برميل، وبالإضافة إلى الانتاج النفطي، فإن حقول هذه المنطقة كانت تنتج 1,6 مليون م3 من الغاز من حقل الجبسة، الذي يعالج في معمل غاز الحر، وتبقى هناك بعض الحقول الصغيرة في جنوب المحافظة، وهي مركدة وتشرين كبيبة.
وفي محافظة دير الزور، تتواجد مجوعة من الحقول، أكبرها حقل عمر الذي يقع على بعد 15 كم إلى الشرق من مدينة البصيرة، وتتوزع آباره في أربع مناطق، وفي كل منطقة 20 بئراً وقدرته الإنتاجية 80 ألف برميل في أعلى إنتاجية له، وتناقصت حتى عام 2010، وفي بادية (عشيرة) الشعيطات شرقي مدينة دير الزور (تعرضوا لمجزرة كبيرة على يد تنظيم الدولة بسبب الخلاف على آبار النفط).
وكذلك يقع حقل التنك وقدرته تصل إلى 40 ألف برميل، وفي بادية خشام من ريف دير الزور الشرقي يقع حقل كونيكو الغازي الأضخم في سوريا، وقدرته 10 مليون م3 من الغاز يومياً في ذروة انتاجه، والتي تناقصت بعد عام 2010، ويتم معالجة 3,25 مليون م3 من الغاز في معمل كونيكو، وقد خيضت حوله معارك دموية مباشرة بين الجيش الأميركي ومجموعات روسية، سقط بنتيجتها عشرات القتلى والجرحى لم يتم الإعلان عنهم بشكل صريح.
الطامحون الدوليون والإقليميون
ما زالت الولايات المتحدة تتصدر مشهد السيطرة على حقول الطاقة في شرق الفرات، ومن المحتمل أنها تمتلك دراسات غير معلنة بعد عما تحتويه هذه المنطقة من مكامن نفطية وغازية واعدة وغنية، وخاصةً أن هناك دراسات مسحية جيولوجية لشركات أميركية منذ العام 1997، ولم يتم الإعلان عنها، وهذا ما يفسر الكلام الصريح للرئيس الأميركي حول حصة الولايات المتحدة منها، وبالإضافة إلى ذلك، هناك الدوافع الجيوسياسية التي تعوضها عن قرار الانسحاب الجزئي من مناطق واسعة في الشمال السوري، فهي تدرك أنه عبر إمساكها بورقة النفط والغاز، تستطيع الاستمرار بالضغط على دمشق لدفعها للقبول بحل سياسي يستجيب للمطالب الأميركية في إعادة تشكيل نظام سياسي جديد، تمتلك فيه القدرة على إدارة دفته السياسية بما يخدم معركتها مع روسيا والصين بشكل أساسي، ولتأمين البيئة الإقليمية الآمنة لبقاء إسرائيل، بالإضافة إلى ضرورة تأمين موارد مالية مستمرة لقوات سوريا الديمقراطية، التي تناط بها مهمة حماية الجنود الأميركيين في هذه الحقول، وهذا التمويل المستمر سيجعل من إمكانية توجه هذه القوات نحو الاندماج مستقبلاً بقوات الجيش السوري مسألة صعبةً، مما يفاقم من حدة الموقف الانقسامي بين دمشق والكرد السوريين.
وتنظر روسيا بدورها إلى الموارد النفطية والغازية المتركزة في سوريا بشكل عام، وفي منطقة شرق الفرات بشكل خاص، كجزء من خارطة الصراع مع الولايات المتحدة في سوريا وفي العالم، من منطلق اعتباره السلاح الذي تستخدمه الولايات المتحدة لتحجيم الدور الروسي في أوروبا بشكل أساسي، وفي بقية العالم، ولإدراكها طبيعة العلاقة بين الطاقة وهيمنة الدولار على التبادلات التجارية العالمية. لذلك، تصيب روسيا في خضم سعيها للسيطرة على هذه الحقول، ومن ثم إعادتها إلى سيطرة الدولة السورية، مجموعة من الأهداف في آن معاً، تتباين بين إخراج الولايات المتحدة من سوريا، وحرمان تركيا من الاستيلاء على ورقة شديدة الأهمية بالنسبة للروسي، وتمنع استمرار قوات سوريا الديمقراطية من استحواذها على موارد الطاقة، وبما يسهم في إنهاء مشروعها السياسي، وعودة كامل المنطقة للإدارة المركزية لدمشق، وهي بذلك تحقق التزامها بوعودها لحلفائها، وعدم تخليها عنهم.
تضغط واشنطن على دمشق لدفعها للقبول بحل يستجيب لمطالبها في إعادة تشكيل نظام سياسي جديد، تستطيع إدارة دفته السياسية
ولا تغيب الأطماع التركية بحقول النفط عن المشهد الحقيقي، فعلى الرغم من سيطرة طموحات التمدد في الشمال السوري، فإن دوافع الإدارة التركية بالسيطرة على حقول النفط تختفي خلف ادعاءات الأمن القومي التركي وتحقيق المنطقة الآمنة بعمق 33 كم، وهذه الاستراتيجية إذا ما نجحت ستؤمن السيطرة على حقول الرميلان والسويدية، مما سيؤمن ما مقداره 206 آلاف برميل من النفط، بالإضافة إلى 2 مليون م3 من الغاز.
يعتقد الأتراك أنهم إذا نجحوا في هذه المهمة، سيعززون اوراقهم في رسم المستقبل السياسي لسوريا، من خلال استمرار الضغط الاقتصادي على دمشق، وحرمان القوى السياسية الكردية من مصادر التمويل، ويحقق ذلك لهم الخطوة الأولى لتأمين انتاج نفطي وغازي داخلي وفق تصورهم، وها هي تركيا تسعى للتمدد باتجاه الجنوب بذريعة منع تنظيم الدولة من الانبعاث من جديد، وهذا يعني الوصول إلى حقول النفط والغاز في جنوب الحسكة والرقة وشرق دير الزور. وكانت صحيفة “واشنطن إكسامينير” قد كشفت عن سر التعطش التركي لهذه الموارد، ودورها في الصراع السياسي التركي الداخلي.
“قسد” والنفط المصيري
لا تغيب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن مشهد الصراع على الموارد النفطية، وأمكن لها السيطرة على أكثر من 80% من النفط السوري، ما أمّن لها موارد مالية بقيمة نحو 376 مليون دولار جراء بيع نفط سوريا لدمشق، عدا عن النفط غير المحدد الحجم والقيمة الذي يهرب إلى الشمال العراقي، ومنه إلى تركيا بإدارة أميركية، وكذلك إنتاج الغاز، وهي تعتبر الأمر مصيرياً لبقائها في بيئة متنوعة تطمح فيها العشائر العربية لنيل حصتها منها، وقد تنبهت قوات سوريا الدمقراطية لخطورة الأمر بعد الاضطرابات والمظاهرات العربية في شرق دير الزور، ما دفع بالمملكة العربية السعودية لإرسال وزير الدولة السعودي تامر السبهان لاحتواء موقف العشائر العربية الطامحة بزيادة حصصها من الموارد النفطية، بالإضافة إلى ذلك، فإن بقاء السيطرة يمنحها ورقة قوة في المفاوضات مع دمشق، لتحصيل شرعية سياسية لمشروع الإدارة الذاتية، والاعتراف بهيكلية شبه مستقلة لقوات سوريا الديمقراطية.
وتبقى دمشق الخاسر الأكبر حتى الآن في المعركة حول الموارد النفطية، وهي رغم الشرعية التي ما زالت تحافظ عليها وفق المعايير والقوانين الدولية، فإنها حرمت من 90% من الموارد النفطية، و45% من الموارد الغازية، مما ألقى أعباءً باهظة الثمن على اقتصادها شبه المتوقف عن العمل، وحرمها من موارد مالية ضرورية لاستمرار دعم سبل الحياة الأساسية، ونفقات الحرب، وقد تطور الأمر أكثر بعد توقف شراء النفط المهرب من شرق الفرات بأوامر أميركية، ولذلك، تعتبر دمشق أن معركة استعادة موارد النفط والغاز، تحتل أولوية قصوى في معركتها لاستعادة السيطرة على كامل الأرض السورية، وطرد كل قوى الاحتلال التي دخلت إلى سوريا بشكل غير شرعي.
في المحصلة، ليست معارك السيطرة على النفط سوى أحد أبرز أوجه ساحات الحرب السورية، وهي من أخطر الساحات وأشدها تأثيراً في مسارات الحرب، وتحديد مستقبل سوريا الجيوسياسي في نظام دولي جديد سيتبلور خلال عقد من الزمن.
(*) كاتب وباحث سوري