شهر من الثورة في لبنان.. السلطة صارت ماضياً(2/2)

إنّ إحدى أصعب المسائل في الساحة اللبنانية، في لحظة الحراك الشعبي المستمرة منذ أكثر من شهر، هي أحجية مواقف حزب الله. فالحزب لا يعرف أنّ رصيده كبيرٌ، حتّى في الأوساط المعروفة بمعارضتها لسلاحه. المسألة ليست عاطفية، إنما هي قياسات مصالح. فالمواطن اللبناني غير منزعج من سلاح حزب الله الذي يدافع عن لبنان، إذ أنّه أثبت نجاحه، وتمكّن من ردع النزق العدواني الإسرائيلي على الوطن.

في البداية، حدّد حزب الله مواقفه من الإنتفاضة ـ الثورة بلاءاته الشهيرة: لا تحاولوا تغيير العهد، ولا البرلمان ولا الحكومة. ثم عاد فأكّد أنه مع مطالب الناس لكنه ليس مع الذين يشوّهون حراكهم. فمن هو الذي يقرر بين البريء والمتضرر وبين ممثلِ السفارات ومشوِّهِ الحراك؟ طبعاً، عاد الحزب لاحقاً وغيّر منحى خطابه، إلّا أن مصداقيته بدأت آنذاك تتآكل.

عندما يشكك الناس بقيادات البلد ويثورون عليها تحت شعار “كلّن يعني كلّن”. فالشعب يطالب بتغييرٍ شامل، يعني تغيير الحكومة بقصد إجراء انتخابات جديدة، أي من أجل نظام جديد. لكنّ الحزب استمرّ بممارسة لعبة التحالفات مع أسوأ مجموعة سياسية عرفها البلد في تاريخه (من الحريرية إلى الباسيلية)، كأنّ سياسييه لم يتخرّجوا من صفوف الثانوية في علم السياسة. فالناس، في الشوارع يعلنون رفضهم لكل هذه الطبقة. فهل هناك مَن يهتمّ بالحسابات السياسية في هذا الحزب؟ أليس من الأجدى للحزب أن يتبنّى الثورة وأن يشارك القيادة الجديدة المنبثقة عنها في حكم البلاد من منطلق التغيير بدل أن تُعلَنَ مواقفُه كأنّها صيغت لحماية المفسدين؟ الكل يعرف أن الحزب ضد الفساد والمفسدين. لكن هات اشرح وفسِّر دفاع الحزب عن المؤسسات المهترئة والفاسدة وتوسّل الحل بمساعدتها وبواسطتها وعبر قادة مؤسساتها، ثم ألم يقل الحزب إن الحرب ضد الفساد توازي الحرب ضد الإرهاب الإسرائيلي والتكفيري. لقد أضرّ هذا التصرف بالحزب وأفقده المزيد من المصداقية السياسية. لم يبقَ للحزب في الساحة السياسية إلّا خوفُ الناس من عضلاته، بالذات تلك التي كان مؤيّدوه يفاخرون بها في معرض الدفاع عن الوطن وحمايته. لقد حوّلت مواقفُ الحزب السياسية سلاحَ المقاومة إلى عصا لترهيب إخوته في الثورة، ولإخافة شعب يتعاطف مع المقاومة، بدليل ما أصاب خيمة شربل نحاس من خواء.

إنّ تركيزنا على حزب الله ليس من باب التعدّي والتهجّم. إنّه ضروري لفهم مبررات إلتصاقه بمواقف حلفائه

إن بمقدور الحزب، في أية لحظة، أن يتبنّى مطالب الثورة، لا أن يكتفي بالتصريح أنه متوافق معها. وبمقدوره أن يُدين طبقة المفسدين، لا أن يتوسّلهم من أجل التغيير. وبمقدوره حماية القضاء وأن يشجّعه على الإستقلال، وأن يطمئنه، وأن يدفعه لصياغة لوائح الإتهام ضد المفسدين السياسيين. وأن يدعم القضاء حتى يبدأ باحتجاز الفاسدين، بدل أن يسكت عند سَجن مواطنٍ “تجرّأ على الذات الرئاسية” فكتب ملاحظة تسيء إلى “قامته” في إحدى وسائل التواصل الإلكتروني. لم يبقَ لأيّ سياسي أو لأية شخصية في السلطة أي احترام!.

إنّ تركيزنا على حزب الله ليس من باب التعدّي والتهجّم. إنّه ضروري لفهم مبررات إلتصاقه بمواقف حلفائه. فجبران باسيل يستفزّ كل الناس، بما فيهم الطبقة السياسية الفاسدة، بعد أن أتمّ احتلاله للقصر الجمهوري. فقد أصبح هو المفاوِض في الإستشارات النيابية التي لم تبدأ رسمياً بعد. والمآخذ عليه لا تُحصى، وهو أحد المفسدين والفاسدين المعروفين في الكهرباء واتفاقات النفط وفي فساد الجمارك. ما دخلك يا حزب الله، حتى تحشر نفسك في هذه الزواريب؟ أليس الأجدى أن تلتصق بالحراك وتستثمر رصيده ضد الفساد والمفسدين بدل أن يستثمره غيرك ضدك؟.

هل حاول أحدٌ في الحزب أن يتساءل، لماذا تعمّمت الصرخة في الشارع ضد جبران باسيل بالكلام البذيء؟ آلاف المتظاهرين يهتفون ويصنّفون هذا الفاسد المُفسِد، وبأسوأ العبارات؟ أهذه أيضاً مؤامرة السفارات؟ مَن يؤيّد حزب الله، الشعب أم المفسدون؟ وأين تقع الثقة؟ بالشعب أم بأحزابٍ لا مستقبل لها خارج منظومة الفساد؟ كان قد بقي في البلد رئيسٌ له شيء من المصداقية وبعض الثقة عند الناس، لكنه سارع ليصرّح رسميّاً، على رؤوس الأشهاد، في أوسع المقابلات التلفزيونية مُشاهدةً في لبنان أنّه “إذا كان الناس لا يثقون بي، فإني لن أثق بهم، هذه هي المعاملة بالمثل”! و”يمكنهم أن يرحلوا”.

ليست مسؤولية الشعب أن يبتكر الحلول. هذه مهمّةٌ تعود للسلطة. هذا مبرّر وجودها

ما هو الرصيد؟

إنّ الذي لا شك فيه أن لبنان قد تغيّر. لم يعد لدى السلطة برنامج إلّا إنقاذ نفسها فرداً فرداً. ولم يبقَ في البلد احدٌ قادر على اتخاذ أيّ قرار.

لقد اتّضَح أيضاً أنّ سياسيّي المجموعة التي تستقوي بحزب الله لم تعي بعد خطورة ما يحصل في الساحة الوطنية وأن الشعب لن يخرج من الساحات قبل تحقيق مطالبه. وهذه المطالب ليست فقط اقتصادية، إنها أيضاً بنيوية. وما زالت القيادات التقليدية تتصرّف على أساس أنّ الثورة هي أقلّية مرتهنة لأحزاب اليمين بقيادة سمير جعجع، وأنّ هذه الأخيرة تقود الحراك الشعبي بمساعدة السفارات. وهي مقتنعة أنها قادرة على تحريك شارعها مقابل هذا الشارع. لكنّها مقتنعة (دون أن تصرّح بذلك) أيضاً أنّ حزب الله سوف يشاركها في الشارع وأنه سوف “يكسّر رؤوس زعران الشارع”. لكنّ هؤلاء الحلفاء (لحزب الله)، في الوقت ذاته، لا يختلفون في تركيبتهم عن أحزاب القوات اللبنانية والكتائب والتقدمي الإشتراكي. فهم يخافون من الحراك الشعبي بنفس القدر. وهم يعرفون أن تحرير القضاء من قبضة المفسدين سوف يسوقهم كلَّهم إلى غرف التحقيق، وأنّ الأموال التي نهبوها والهبات التي استلموها من الخارج سوف تصبح أخبارُها مكشوفة، منشورة على صفحات الجرائد، تُفقدهم السُمعة والإحترام وتسترد منهم مالهم وحتى حريتهم. أمّا في الشارع، فإنّ الناس غير مقتنعين أنّ حزب الله يرغب بإخماد الحراك. فقد ظهر بما لا يقبل الشك أنّ الشعب هو حليفه الموضوعي، وذلك في كل مطالب الحزب ومشاريعه. ولا يستطيع أحد تصوّر سلاح الحزب موجّهاً ضد الشعب،  فهذا خيار لا يفكّر فيه الحزب بل ربما يكون موجوداً في عقول مهووسي السلطة من حلفاء الحزب؟

إقرأ على موقع 180  مبادرة بري هكذا بدأت وإنتهت.. وهكذا أطاح بها باسيل؟

لقد وصلنا إذاً إلى نقطة التعادل في موازين القوى. إلى أين المسار؟

إنّ غياب المصداقية الرئاسية قد أفقد السلطة الفاسدة آخر موقع في الحكم مُرَشّحٍ لأن يقبله الحراك، ولو على مضض، لإعادة توجيه دفّة الحكم. لكن المبادرة، بالرغم من ذلك، ما تزال بيد السلطة، والمسؤولية لا تزال مسؤوليتها. فرجال السلطة ما زالوا يزعمون أنهم الخبراء والفقهاء والعلماء والإختصاصيون في كل شيء، بما في ذلك الشأن الاقتصادي والمالي. فإن لم يتمكّنوا من الهبوط من غيوم وضباب أوهامهم إلى الأرض، وتشخيص الوضع وصياغة خطط مقنعةٍ، فإنّ السلطة السياسية سوف تفقد آخر أسباب وجودها خارج السجن. ليست مسؤولية الشعب أن يبتكر الحلول. هذه مهمّةٌ تعود للسلطة. هذا مبرّر وجودها.

إلّا أنّها، عندما تعلن فشلها، وتعلن عن انتهاء أسباب وجودها في مناصبها، فإن الوضع يختلف. عندها ينتقل القرار إلى الشعب، وسوف تتغيّر عندئذ الأمور. لقد حصل ذلك سابقاً في العالم. وكلّما حصل ذلك في التاريخ، كان قادةُ الماضي يستغربون ما يحصل لهم. فللشعب خياراتٌ تكاد تكون بلا حدود. فحذارِ من غضبة الشعب. فلديه حلولٌ بالتأكيد. ولم يبقَ لهذه السلطة إلّا القليل حتى تصبح من الماضي.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "إسرائيل ديفانس": هل نحن على أعتاب حرب ضدنا؟