دخل رفيق الحريري المسرح السياسي اللبناني على انقاض لبنان كله. أزاح الستارة على وقع انهيار اقتصادي تردد كثيراً انه كان مبرراً لدخول اسطورة رفيق الحريري قبل رفيق الحريري نفسه. لقد عبّر الرجل طيلة حكمه عن أحجام وأوزان تتجاوز لقب رئيس حكومة لبنان. لكن هذا الحجم الذي كانه، وشكّل حقلاً مغناطسياً لجذب نخب البلد إلى جواره، كان من النوع الكرتوني الهش. لا بل كان قابلاً للكسر على الدوام، عندما تنعقد تناقضات دولية أو أخرى إقليمية.
شكّل رفيق الحريري مفارقات كثيرة وعديدة. وُصِف بوزير خارجية العرب. بالمقابل، كانت لائحته البلدية في مدينته صيدا تسقط. الرئيس الفرنسي جاك شيراك سيخالف البروتوكول الرئاسي وينزل درجات قصر الاليزيه ليستقبله ويودعه. في المقابل، كان ممنوعاً على الحريري أن يعبر نقطة المصنع اللبنانية إلى سوريا لمقابلة حافظ الأسد. كان عليه أن يحط الرحال في عنجر أولاً عند حاكم سوريا في لبنان غازي كنعان. الأخير كان يقرر ما إذا كان الحريري يستحق تأشيرة دخول إلى قصر المهاجرين الذي صار “محط شتائم”، بعد الرابع عشر من شباط/فبراير 2005، قبل أن يعود إليه بعد اربع سنوات ولي الدم ووارث الزعامة سعد الحريري لينام فيه متدثراً بمعادلات إقليمية كانت تُصاغ وما كُتب لها النجاح.. سريعاً.
لم تكن الهتافات التي علت صادحةً بمشاعر الغضب، فيما جثة الرئيس رفيق الحريري بمستشفى الجامعة الاميركية في بيروت تؤذن بدخول لبنان على خط ما تسمى “الانكسارات السُنية” من كابول إلى بغداد. الصراخ يومذاك في شوارع بيروت، كان ينادي ويستجدي اثنين من الخلفاء الراشدين طلباً للثأر. كانت الحناجر تصدح “يا عمر، ويا عثمان. الحريري شهيد لبنان”. ستحاول جنازة تشييع الحريري من خلال تنوع وضخامة الحشد، اعادة الروح الوطنية إلى “أهل السُنة” ومنع انزلاقهم إلى توترات مذهبية كنا بدأنا نشهد أولى فصولها في ليالي ونهارات العاصمة العراقية. لكن عوامل كثيرة لاحقة ستكون أكبر من لبنان، وستعيد لـ”المظلومية السنية” حضورها ومسوغات تعتقدها هي أنها تقع في عين الصواب السياسي والأهلي للبلد الهش. لكن أحداً بعد، لم يتعلم أن لبنان عندما يكون ضعيفاً يصير مُخيفاً ومُدمراً، لذاته ولمن هم حوله.
مع سقوط رفيق الحريري شهيداً، شعر كثيرون بالإنكسار، خصوصاً أهل بيروت التي اعطت الحريرية ما لم تعطه لكل قياداتها التاريخية والتقليدية. هي العاصمة التي طالما أحبها وازدان بهويتها، فإذا بها تبايعه اصواتها وشرفات منازلها. تهزم كل من عارضوه وتكرم كل من والوه. مع الحريري، صار للسنة في لبنان زعيمهم. صاروا اقدر على التباهي مع شيعة حسن نصرالله ودروز وليد جنبلاط وموارنة نصر الله صفير. لكن الحلم لم يدم طويلاً.
سيمر وقتٌ قبل أن يُتهم حزب الله باغتيال رفيق الحريري. في الاثناء، ستطلب عائلة الراحل من الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله المساهمة بأدوات حزبه الأمنية “لكشف الفاعلين الحقيقيين”. أجرى الحزب تحقيقاً ميدانياً وأعطى تقديراته للعائلة. تبنت العائلة مطلب التحقيق العربي، بإلحاحٍ سعودي، فوافق نصرالله، لكن سرعان ما إنقلبت الرياض على موافقتها: المطلوب تحقيق دولي. في هذا الوقت، كنا نشهد أيضاً إنقلاب مزاج “الطائفة الحاكمة” بعد الطائف، فبدلاً من “لنا الحكم ولكم اللطم”، راح أهل السُنة يلطمون. لكن من دون أن يكون للشيعة لا الحكم ولا حتى التحكم حينها. وهذه قاعدة ستنقلب أيضاً. سيصبح لحزب الله قدرة تحكم. قدرة من النوع الذي يخلق توازن رعب مع إسرائيل، لكنه يبقى عاجزاً عن تعيين مدير عام للأمن العام في بيروت. قبل هذا وبعده: اللطم والتفجع سيتسببان بتحشيد ما لا يمكن تخيله لصالح سعد الحريري الذي آل إليه الإرث بقرار عائلي دبّجته السعودية وأخرجته فرنسا. فقد آلت إليه زعامة منقطعة النظير، لكنها معمدةً بالدم كما غالبية الزعامات اللبنانية.
معظم زعماء لبنان انطلقوا من فجيعةٍ ما. أغلبهم أعلنت مقابر ما عن زعامتهم. المقابر في لبنان ولاّدة زعامات. تصنع قيادات. لكنها تُنتج آخرين على مثال من رَحَلوا أو رُحِلوا. قلما كان هناك استثناءً على القاعدة. سرديات “المظلومية” المجبولة بـ”القهر” و”الشهادة” صنعت قيادات لبنان
معظم زعماء لبنان انطلقوا من فجيعةٍ ما. أغلبهم أعلنت مقابر ما عن زعامتهم. المقابر في لبنان ولاّدة زعامات. تصنع قيادات. لكنها تُنتج آخرين على مثال من رَحَلوا أو رُحِلوا. قلما كان هناك استثناءً على القاعدة. سرديات “المظلومية” المجبولة بـ”القهر” و”الشهادة” صنعت قيادات لبنان. وهي التي تصنع حاضراً لا يرحل. تتنقل “المظلومية” من مذهب إلى آخر. ودائماً تستدعي قضايا ظمأى لا ترويها غزارة الدم. ما ان يودع لبنان “مظلومية” حتى يستقبل أخرى. وآخر الوافدين “المظلومية السُنية”.
كل المظلوميات الدينية، أو المذهبية، تتشابه في الإتكاء على قهرٍ ما. على شهيد من قماشة معينة. أو على كليهما معاً. المظلومية السُنية في لبنان تشبه قريناتها: الشيعية، المسيحية، الدرزية. اغتيال كمال جنبلاط الدرزي أطلق نجله وليد. هكذا الأمر كان أيضاً عند المسيحيين: دم طوني فرنجية سيبني زعامة نجله سليمان على منطقة أكبر من قضاء وأصغر من مدينة. لكن ذلك لن يمنع الرجل من أن يكون مرشحاً دائماً لرئاسة الجمهورية. دم بشير الجميل سيرفع شقيقه أمين إلى سدة الرئاسة الأولى. ودم بيار أمين الجميل سيكون جسر عبور شقيقه سامي إلى رئاسة حزب الكتائب، وإلى مقعدٍ وزاري، وآخر برلماني.
عند الشيعة، سيكون الاختفاء الأبدي لموسى الصدر أساساً ليصبح نبيه بري قائداً شيعياً. بعد ذلك، سيكون الدم الشيعي الغزير الذي سال عند مذاهب أخرى وفي خدمتها ـ فيما جغرافية هذا الدم متروكة لاحتلال إسرائيلي ـ سبباً لـ”مظلومية” يخرج من رحمها زعيمٌ من وزن حسن نصرالله. سيربح الرجل وحزبه على إسرائيل في العام 2000، وسيهزمها مجدداً في العام 2006، ليهتف باسمه جمهور العالمين العربي والإسلامي، قبل أن يرتد عليه ويعامله بموجب هويته البيولوجية وتلقائياً هويته الدينية.
كان نصرالله قد تنبّه منذ العام 2000، إلى أن الأنظمة العربية ذات الغلبة السُنية لا تتحمل “نصراً شيعياً” ضد إسرائيل. النصر كان رداً على هزيمة نزلت بها هي وسكتت عنها. هزيمتها إفتتحتها مع العالم والدولة العبرية عام 1948 بخسارات كارثية. أولها فلسطين. ليليها أخرى نزلت بمصر، الأردن، سوريا ولبنان. أهدى نصرالله نصر المقاومة إلى العرب. هكذا فعل في العام 2006. لم يترك أحداً إلا وأهداه النصر من القرضاوي إلى الغنوشي مرورا بالأزهر. لكن ذلك بقي بلا جدوى. لا بل على العكس من ذلك تماماً. تحول القلق إلى توتر. بلغ التوتر ذروته في أيار/مايو 2008، فكان الانفجار الكبير بين مذهبين ما برحا منذ الدولة الأموية يجدان أسباباً مختلفة للتصارع. يومها استسهلت حكومة فؤاد السنيورة اتخاذ قرارٍ بفك شبكة اتصالات حزب الله السرية. عندها اعتبر الحزب ان القرار هو حرب على أحد أهم أسلحته الإستراتيجية، وعلى سبب أساس في انتصار تموز/يوليو 2006. فكان القرار: السلاح لحماية السلاح.
لقد تحول هذا اليوم إلى مادة سجالية. صار وحدة قياس لـ”المجد” عند حزب الله. أما عند تيار المستقبل، الممثل الأكثر تعبيراً عن هواجس السُنة، فكان نهاراً “مشؤوماً” وما يزال. أضيف هذا الشؤم ومعه “عارٌ” مقطوع الصلة عن السبب الأساس، ألا وهو قرار فك شبكة الاتصالات. لقد نجحت الآلة الإعلامية للحريرية السُنية بابتسار 7 أيار/مايو عن مقدماته السياسية الزلزالية. وعلى معيار القياس هذا، خيضت الانتخابات النيابية في صيف 2009، فكان ان ربحت جبهة “المستقبل” أكثرية سيسميها حزب الله بـ”الأكثرية الوهمية”. وسينجح باثبات ذلك بعد سنة. فكان أن أسقط حكومة سعد الحريري بـ”فضيحة” من طبيعة دولية. فالرجل دخل بصفته رئيساً لحكومة لبنان الى البيت الأبيض ليقابل رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما. وما ان استوى على مقعده حتى صار رئيساً سابقاً. كل هذا كان يتراكم بعضه فوق بعض ليبني برجاً من الخيبات “السُنية” يُطل على مشهد لبناني تشتد فيه أضلع المسيحية إلى مثيلاتها الشيعية.
لم يسبق أن حاز أي زعيم ما حازه سعد الحريري من التفاف وتعاطف شعبيين. لكن كل هذا لم يحمه على امتداد سنوات حكمه من التعثر اللفظي والسياسي المستمر. ستتداول شبكات التواصل هفواته اللغوية كمادة للترويح عن النفس. وصار مثار غضبةٍ عند مريديه بسبب براعته في صنع الفشل السياسي، كما براعته أيضاً بقيادة الفشل بحرفة سائقي “الفورمولا وان” من محطة إلى أخرى. لم يُسجل له من إنجازات غير إعلان عيد “سيدة البشارة”. وما سُجل عليه لم يسبق أن ناله أي زعيم لبناني على امتداد عمر الجمهورية. ما سُجل عليه ليس محصوراً بارتكابات فساد، بل بسكوته على كثير مما يتعارض ومزاج “المظلومية السنية” حتى بلغ السيل الزبى مع اعلانه تسوية رئاسية قضت بوصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، مقابل بقائه هو في سدة الرئاسة الثالثة.
مشكلة “المظلومية السنية” اللبنانية أن علاقتها معطوبة مع علم الكرونولوجيا. دائماً تبحث عمن يتحمل مسؤولية مشاريعها السياسية. مهجوسة بأنماط التشكيلات الطائفية والمذهبية عند الآخرين. انبهارها بـ”المارونية السياسية” وما صنعته في الاقتصاد والمصارف سيكون الانقضاض عليه بتحرير الوكالات الحصرية، وفي ظل ضعف مسيحي سياسي وديموغرافي عام. شغفها بـ”العسكريتاريا الشيعية” أوهمها بالتوازن. فكانت خطيئة وخطأ “الشارع بالشارع”. هذا الشعار بعث عند “سًنة الحريرية” اعتقاد التوازن.
سوء تقدير الحريري حينها كان كارثياً. فقد أقنعه مستشاروه أنهم أنشأوا ميليشيا قادرة، عدداً وعدةً. لكن هذا الجسم لم يستطع الصمود لساعات يوم شنّ حزب الله غزوته الشهيرة في 7 أيار/مايو 2008. واتضح أن معظم المقاتلين جيء بهم إلى بيروت، من فقراء الريف السُني. والأسوأ أن الغالبية منهم لم يسبق لها أن زارت بيروت ولو من باب السياحة الداخلية. استثمر حزب الله اللحظة إعلامياً إلى أبعد الحدود. بالغ في الإهانات التلفزيونية. صار يبث عواجل اخبارية عن أن عائلة وزير الداخلية آنذاك حسن السبع في “حماية قوى المعارضة”. وأخرى عن انهيار مراكز المستقبل في مناطق وأحياء المدينة. المفارقة أنه بين إنهيار وآخر لم يكن يفصل سوى دقائق معدودة. أطولها بلغ تسع دقائق. العودة إلى الأرشيف التلفزيوني تُثبت ذلك. عندها تبدت “مشقة “الزعامة بأوضح صورها. ذلك أن الحريري أطل على الإعلام طالباً من حزب الله أن يُحمله وحده ما دفعه إليه “المستشارون”. هم أنفسهم كانوا عرضة للتهكم من قبل القنصل المصري طلال الفضلي والدبلوماسي المصري “الحريف” الذي صار سفيرا حاليا في بيروت ياسر العلوي، عندما إعتذرا من المستشارين الحريريين بالقول لهم “كانت تقديراتنا أن حزب الله يحتاج من 24 إلى 48 ساعة للسيطرة على بيروت، لكن تبين أنها مهمة ساعات قليلة”!
حصل ذلك، بينما كان التحضير لما سُيعرف باتفاق الدوحة يجري على قدم وساق. وهذا الاتفاق سيزيد مسماراً في نعش الطائف. وفي نعش “الديموقراطية” بمعناها المُجرد.. ما فعله الحريري الإبن بإزاء اتفاق الدوحة، فعله من قبل الحريري الأب في اتفاق الطائف. الأخير دخل في اتفاق لم يُحسن تلمس أخطر أفخاخه، ألا وهو سلاح المقاومة بوجه اسرائيل التي كانت لا تزال تحتل الأراضي اللبنانية وتُقيم عليها حزاماً أمنياً. فاعتقد عن خطأ جسيم ان الاقتصاد يمكن فصله عن السياسة واستطراداتها الحربية.
فضيحة 7 أيار/مايو ستنغرس في الذاكرة اللبنانية الحبلى بالكراهيات وتنضم إلى ملفات الفساد الكثيرة عند الحريري. لقد دارت أحاديث عدة عن “بيع وتسليم مناطق” إلى حزب الله، وعن بيع شاحنات أسلحة أدخلها الحريري بمالٍ أنفقه هو لكن تولى توزيعه آخرون لا يزالون معه وفي محيطه إلى اليوم.
(*) الحلقة المقبلة، المظلومية السُنية: إرباك وارتباك
(**) راجع الحلقة الأولى: السنة.. مرض الأمة ومظلومية الطائفة https://180post.com/archives/10288