الجولاني… رسائل جيوسياسة في صندوق بريد واشنطن
Members of al Qaeda's Nusra Front carry their weapons as they walk near al-Zahra village, north of Aleppo city, November 25, 2014. Members of al Qaeda's Nusra Front and other Sunni Islamists seized an area south of the Shi'ite Muslim village in north Syria on Sunday after clashes with pro-government fighters, opposition activists said. The insurgents advanced overnight on al-Zahra, north of Aleppo city, seizing territory to the south and also trying to take land to the east in an attempt to capture the village, the Britain-based Syrian Observatory for Human Rights said. Picture taken November 25, 2014. REUTERS/Hosam Katan (SYRIA - Tags: POLITICS CIVIL UNREST CONFLICT) - RTR4FOF8

لم تكن المقاربة التي قدّمها أبو محمد الجولاني في خطابه الأخير حول الواقع السوري وطريقة التعاطي معه، جديدة بمعنى الكلمة. لكنها المرّة الأولى التي يعبّر فيها بهذا الوضوح عن نزوعه لتغطية عباءته السلفية الجهادية برداء حركة تحرر وطنية تتخذ من مقارعة الاحتلال سنداً شرعياً لوجودها ونشاطها. وتمثّل الأمر الأخطر في محاولة الجولاني طرق باب الصراعات الجيوسياسية في المنطقة، مقدماً أوراق اعتماده، ليكون لاعباً وكيلاً في ميدانها السوري.

جاء الظهور المرئيّ للجولاني في مساء يوم الاثنين، متزامناً مع تطورات عسكريّةٍ متسارعة تشهدها جبهة القتال في إدلب. كانت المعارك في ريف المحافظة الشرقي تدخل في منعطفٍ استراتيجيٍّ هامٍّ، تمثّل في التقدّم السريع لوحدات الجيش السوري نحو مدينة معرة النعمان بعد تساقط عشرات القرى والبلدات في يديها دون مقاومة تذكر. لكن هذه الأحداث الساخنة بما تنطوي عليه من تهديدات كبرى تجعل الجيش السوري يضع يده على جزءٍ أساسيّ من الطريق الدولي M5، لم تنل حظها من الخطاب الذي استغرق ما يقارب عشرة دقائق فقط.

قفز الزعيم الجهاديّ في كلامه فوق مصير معرة النعمان بل فوق مصير إدلب بكامله، كأنّ ذلك مجرد تفصيلٍ صغير لا يستحق منه أدنى اهتمامٍ، مفضلاً توجيه بوصلته إلى ساحة صراع الكبار، متوهماً أن موقعه ودوره كفيلان بأن يجعلان منه قطب الرحى الذي ستدور عليه دائرة المصالح، وترتسم بموجبه المعادلات وموازين القوى.

وهكذا بجرّة قلم أو بأقلّ منها قرر الجولاني أن الحرب لم تعد تستهدف إسقاط النظام، فهذا بحسب رؤيته بات هدفاً منجزاً لأن
“النظام بشكله السابق قد ولى بغير رجعة بإذن الله، فقد انتصرت الثورة عليه في نواحٍ متعددة، ففككت جيشه، وأظهرت خور قواه الأمنية، وحطمت اقتصاده… فبات فاقداً لأهلية إدارة البلاد، فضلًا عن شرعيته”.

قفز الجولاني فوق مصير إدلب مفضلاً توجيه بوصلته إلى ساحة صراع الكبار

هذه المقدمة حول “الانتصار على النظام”، سواء صحّت أم لم تصحّ، كان لا بدّ منها لطي صفحة مرحلة سابقة، ثم الادّعاء بأن سوريا دخلت في مرحلة جديدة هي خوض حرب تحرّر من الاحتلالين الروسي والايراني. وكان عنوان كلمته “حرب تحرر واستقلال” بمثابة الإعلان عن هذا التحوّل الجذري في رؤية وتوجهات “هيئة تحرير الشام”، وتكريساً كذلك لمساعٍ قديمة /جديدة طالما بذلها الجولاني في إطار التمويه وعمليات تغيير الجلد التي أدمن عليها.

ما أراد الجولاني قوله من دون أن يتلفّظ به، هو أن “هيئة تحرير الشام” باتت تحمل هوية حركة تحرر وطنية، وذلك في آخر التقلبات التي طرأت عليها من “حركة سلفية جهادية” إلى “ثورة ضد النظام”. ومعنى ذلك أن الهيئة أصبحت تستعير شرعيتها من خلفية “المقاومة” وليس من أي مبدأ آخر سواء كان ثورياً أو إسلامياً، وهي خطوة سيكون لها ما بعدها، وتنطوي على محاولة استحضار قواعد مبادئ القانون الدولي التي تُشرعن القتال ضد الاحتلال، وتتلمّس معالم الطريق للخروج من قوقعة التنظيمات الارهابية التي جنتها نتيجة مبايعتها السابقة لتنظيم القاعدة العالمي ومن قبلها ولادتها من رحم تنظيم داعش.

ومن بين القوات الأجنبية المتدخلة في سوريا، لم يذكر الجولاني سوى القوات الروسية والايرانية كقوتي احتلال للأراضي السورية، مستثنياً بذلك القوات الأخرى وعلى رأسها القوات الأميركية والتركية، كما أنه ضرب صفحاً عن ذكر إسرائيل.

هذه الآلية في الإظهار والاخفاء وفق مزاج الجولاني، تحمل في ثناياها دلالات هامة على نوعية قراءته الجيوسياسة للوضع في المنطقة، وتحدد طبيعة الرسائل الخفيّة التي وردت بين سطور كلمته من دون أن ينطق بها، مراهناً بذلك على لعبة الازدواجية بين رسائل معلنة موجهة إلى جماعته مضمونها القتال ضد كل من يدعم النظام، وأخرى سرّية يدرك أن جهات دولية يعنيها الأمر ستفهم المراد منها.

لم يذكر الجولاني سوى القوات الروسية والايرانية كقوتي احتلال، مستثنياً بذلك اميركا وتركيا، ومتجاهلاً إسرائيل

كان واضحاً أن تعقيدات المشهد السوري وتشابك خطوطه بين مصالح إقليمية وأخرى دولية، لم تفسحا مجالاً واسعاً أمام الجولاني ليتحدث بحرية عما يجول بخاطره. ولعل هذا الغموض الذي اكتنف تعبيراته ونواياه، سيكون نقطة الضعف القاتلة التي تجعل السحر ينقلب على الساحر. فاللعبة الجيوسياسية في المنطقة التي طرق الجولاني بابها محاولاً الولوج إلى عمقها، لم تعد تحتمل المراوغة ولا التذاكي في المواقف، وهو ما اضطر الجولاني لممارسته نظراً لعدم قدرته على فك شيفرة الصراع بين تركيا ودول خليجية وانعكاساته على المشهد السوري، فآثر أن يصمت عنه ظناً أنه بذلك يتقي تأثيراته عليه، فكان مقتله –ربما – في هذا الصمت.

وبعدما كان تصويب الجولاني الصريح والمعلن على ما أسماه “الاحتلالين الروسي والايراني” يستهدف مغازلة الرياض ومحورها المعادي لايران، جاء صمته عن الدور التركي الذي لا تعتبره السعودية أقلّ خطراً عليها من الدور الايراني، ليفرّغ الغزل من مضمونه ويدخله في نطاق النفاق.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى مهادنة الجولاني لأنقرة وسياساتها المشبوهة التي أصبحت غرضاً تُوجَّه إليه اتهامات من قبل قيادات عسكرية وسياسية في المعارضة والفصائل المسلحة. فهذه المهادنة لا تكفي لمسح آثام الجولاني التي ارتكبها في إدلب وأفشل من خلالها السياسة التركية التي كانت تسعى للتوفيق بين أطماعها من جهة ومتطلبات آستانا من جهة ثانية، فجاءت تحركات الجولاني وفرضه هيمنته على المحافظة بمثابة الصفعة لهذه السياسة.

إقرأ على موقع 180  في وداع طلال سلمان.. «إبن الدركي» على خطى «إبن البوسطجي»

ولكن يبقى الأهم أن أنقرة لا تبحث في سوريا عمن يهادنها أو يطلب ودها بل تريد أدوات وأذرع تتحرك بإشارتها ووفق سياستها وبما يحقق مصالحها فقط، وهو ما لم يوفره الجولاني من خلال إصراره على اتباع سياسة الندّية.

انطلاقاً من ذلك، يصح القول أن الجولاني أخفق في فك شفرة الصراع الجيوسياسي الذي يطغى على المنطقة، ولم يتمكن من اتخاذ المواقف اللازمة لقبول أوراق اعتماده من هذه الجهة أو تلك. وهنا تحديداً كان مقتله في خطابٍ أراد منه بثَّ حياة جديدة في جماعته. ومردّ ذلك أن الجهة الوحيدة المتبقية لاستقبال رسالة الجولاني هي الولايات المتحدة الأميركية، إذ بعد استبعاد الرياض وأنقرة لم يبق سوى صندوق بريد واشنطن لتلقي رسالة الجولاني حول إمكانية قيامه بدور ما في لعبة المحاور والصراعات الجيوسياسية في المنطقة، وبالأخص ضد المحور الايراني.

أخفق الجولاني في فك شفرة الصراع الجيوسياسي الذي يطغى على المنطقة

وقد يتناغم ذلك مع ما كشفه وزير الخارجية الروسي في شهر أيلول الماضي، حول مساعٍ أميركية لفرض اعتدال “جبهة النصرة” على المجتمع الدولي، حيث قال لافروف في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه “في الولايات المتحدة، بدأوا بالفعل يتحدثون بصوت عالٍ عن جبهة النصرة على أنها هيكل معتدل يمكن التعامل معه”.

وقد لا يتنافى ذلك مع تجديد واشنطن لغاراتها ضد بعض قيادات “هيئة تحرير الشام” في الأسابيع الأخيرة، لأن الاصرار على عدم استهداف شخص الجولاني يضع تلك الغارات في خانة تغليب جناح على جناح داخل الهيئة، وهو ما قد يفهمه الجولاني على أنه رسالة أميركية موجهة إليه مفادها ضرورة اتخاذه إجراءات جديدة لحرف مسار “الهيئة” إلى اتجاهٍ تكون واشنطن راضية عنه أو على الأقل لا يمس مصالحها وسياساتها في المنطقة.

ولعل خطاب الجولاني الأخير هو رسالة جوابية على الرسائل الأميركية في انتظار مزيد من التفاعل بين الطرفين لرؤية إلى اين ستنتهي الأمور بينهما.

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله سليمان علي

كاتب وصحافي سوري، وباحث في شؤون الجماعات الإسلامية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إدلب: الاستراتيجية التركية تنهار... والجيش السوري يتحرك