لا خروج عن الخطة التي اعدتها “الدولة العميقة” في واشنطن منذ عهد دونالد ترامب مروراً بعهد جو بايدن وصولًا الى ما بعد بايدن: مواجهة الصين والحد من تمددها الإقتصادي والمالي وتاليًا السياسي، وعلى هذا الأساس يمكن محاولة تفسير صياغة تحالفات مثل “اوكوس”AUKUS بين اميركا وبريطانيا واستراليا، وتحالف “كواد” QUAD بين اميركا واليابان والهند واستراليا و”كواد+” مع كوريا الجنوبية ونيوزيلندا وفيتنام، والهدف هو تطويق الصين بشكل أو بآخر.
يتحدث الفرنسيون بمرارة عن الخديعة التي تعرضوا لها اميركيًا، فعلى المستوى الداخلي يعيش الفرنسيون شعورًا غير مسبوق بالإذلال، وكل المواقف السياسية الحادة لا تخفي جملة امور اولها واخطرها ان المخابرات الفرنسية لم ترصد اي تحول استرالي تجاه “صفقة الغواصات”، وثانيها ان سفيري باريس في واشنطن وكانبيرا لم يرصدا بدورهما مثل هذا التحول الأسترالي، مع الأخذ في الإعتبار عدم توقف الزيارات المتبادلة بين المهندسين والخبراء من البلدين، وكانت آخر زيارة استرالية الى مقر شركة “نافال” في النورماندي مطلع الصيف المنصرم.
لقد أفصح الغاء “صفقة الغواصات” الفرنسية لكانبيرا، بحسب الفرنسيين، عن حقائق عديدة أبرزها الآتي:
الأولى، ان شعار “اميركا اولًا” يتحكم بقرارات الإدارة الأميركية الحالية كما كان الحال مع ترامب.
الثانية، ان تحالف “اوكوس” الثلاثي بين اميركا وبريطانيا واستراليا يعيد اميركا الى مربعها الأول في العلاقة مع اوروبا ومع فرنسا تحديدًا فلا فرانكوفونية انتوني بلينكن ولا شعارات بايدن الداعية إلى تعزيز علاقاته الأوروبية والأطلسية أعادت الألق الى الدور الفرنسي لا بل ثمة رغبة اميركية بعلاقة معززة مع المانيا أوروبيًا على حساب فرنسا.
الثالثة، ان خروج بريطانيا من اوروبا اعادها بقوة الى المدار الأميركي الذي لم تخرج منه أصلًا، ولكن ثمة أدوار جديدة ما كانت لتلعبها المملكة المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادىء لو لم تغادر الإتحاد الأوروبي.
الرابعة، انه على اوروبا ان تدرس تموضعها في حقبة توزيع النفوذ العالمية وأن تحدد ما إذا كانت تريد ان تشكل محورًا بذاتها او تريد البقاء في المنتصف او الإلتحاق بالمحور الأميركي او الصيني مع استبعاد هذا الخيار الأخير.
ديبلوماسي سعودي: “نتعرض لضغوط شتى لإعادة العلاقات مع دمشق لكن ما زلنا مترددين. اذا اراد الإيرانيون اخذ لبنان فليأخذوه بكامله.. إهتماماتنا في مكان آخر، واذا اعتقدت الطبقة السياسية اللبنانية انها قادرة على ابتزاز عرب الخليج ماديًا فهي لا تعلم ان هذه الصفحة قد طويت الى غير رجعة”
ضمن هذه المشهدية، تسعى فرنسا إيمانويل ماكرون لتحقيق قصص نجاحات سريعة quick wins في امكنة متعددة مثل العراق (صفقة توتال) الى اليونان (صفقة الفرقاطات) فدول المغرب العربي (تخفيف اعداد التأشيرات). ضمن هذه المشهدية أيضًا، تم تسهيل استيلاد حكومة في لبنان واستقبال رئيسها نجيب ميقاتي في قصر الأليزيه دون اعطائه اية وعود بمساعدات جديدة ما لم تنفذ حكومته إصلاحات سيكون وقعها شديد الصعوبة على الشارع وبالتالي على حكومته.
وأيضًا ضمن هذه المشهدية، يتحدث مسؤول اوروبي واسع الإطلاع في جلسة حوارية مقفلة عن “متغيرات دولية وإقليمية” تفرض اعادة تقييم اداء اوروبا في الشرق الأوسط، “فحقبة الربيع العربي الذي انطلق من تونس عام ٢٠١١ انتهت من تونس ايضًا عام ٢٠٢١ مع محاولات تجري هنا وهناك لإعادة تشكيل السلطة في هذا البلد أو ذاك اذا ما استطاع الغرب الى ذلك سبيلًا”، ويضيف أن اسقاط الديموقراطية الغربية بالباراشوت على المنطقة تبين أنه غير قابل للتطبيق من افغانستان وايران الى الخليج فالمشرق العربي فمصر فالمغرب بدوله كلها، ما يعني ان ديموقراطية الإنتخابات في تلك البلدان مشكوك بنزاهتها فكيف في بلدان تمتلك فيها بعض القوى سلاحًا قادرًا على فرض وقائع ونتائج لمصلحته؟ ويختم بالقول إن الشرق الأوسط منطقة شديدة الأهمية بالنسبة الى اوروبا وما يهم الغرب في لبنان هما امران إثنان: أولًا، منع تدفق اللاجئين؛ ثانيًا، منع انهيار المؤسسات العسكرية والأمنية، وهو ما يدفع الأوروبيين لمحاولة احتواء الصعوبات الإقتصادية بما يحقق للناس ما دون كفاف يومهم من غذاء ودواء وماء وكهرباء وباقي عناصر الأمن الإجتماعي الأساسي.
ثمة تقديرات أوروبية أن حكومة نجيب ميقاتي “لن تتمكن سوى من إدارة الإحتواء المطلوب دوليًا (منع إنهيار المؤسسات ومنع تدفق اللاجئين). فهي ليست حكومة سياسية لتتخذ قرارات اساسية ولكنها ليست مستقلة بأي حال من الأحوال”.
لا تنفصل النظرة الأوروبية للبنان عن النظرة إلى مجمل المنطقة. يعتبر الفرنسيون ان مصر والأردن هما الدولتان الأكثر استقرارًا في هذه البقعة المشرقية وهما تعملان على إمتصاص الصدمات وتبريد النزاعات ومنع ارتطام بلدان المشرق العربي من لبنان الى سوريا الى العراق.
لقد جرت محاولات فرنسية عديدة في الأشهر والسنوات الأخيرة من أجل تعديل نظرة السعوديين إلى الواقع اللبناني تحديدًا، لكنهم كانوا في كل مرة يزدادون تشددًا. ويُسرُّ ديبلوماسي سعودي إلى نظيره الفرنسي جملة افكار همسًا ابرزها لبنانيًا الآتي:
“لم نُحسن التعامل مع ساسة لبنان بل لم ننجح في التعاطي معهم. سوريا هي أكثر من يفهم لبنان ويدركه وتمتلك قيادتها الأسلوب الأنجع في التعامل مع الساسة اللبنانيين. هذه حقيقة سواء أحببناها أم كرهناها”، ويضيف “نتعرض لضغوط شتى لإعادة العلاقات مع دمشق لكن ما زلنا مترددين. اذا اراد الإيرانيون اخذ لبنان فليأخذوه بكامله.. إهتماماتنا في مكان آخر، واذا اعتقدت الطبقة السياسية اللبنانية انها قادرة على ابتزاز عرب الخليج ماديًا فهي لا تعلم ان هذه الصفحة قد طويت الى غير رجعة”. وفي السياق ذاته، يسأل الديبلوماسي الخليجي “متى سنرى رئيس الحكومة اللبنانية في دمشق”؟
واللافت للإنتباه أن ميقاتي كان قد أكد في مقابلته الأخيرة مع الإعلامي ألبير كوستانيان أن زيارته إلى سوريا “تحتاج إلى غطاء دولي”، لكنه سارع في اليوم التالي بعد زيارته رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلى تصحيح موقفه بقوله إنه حتى لا يُفسر خطأ ما قاله (عبر شاشة إل بي سي) “من اننا نطلب غطاء دوليًا” لزيارة سوريا، “اقول تحكم علاقتنا بسوريا عدة عوامل تاريخية وجغرافية وعلاقات جوار وكل شيء”. وأضاف “اذا كانت الزيارات لا ينطبق عليها اي عقوبات، لا مانع بتاتًا من زيارة سوريا والتعاون معها، اما اذا كان الأمر سيُعرض لبنان لأية مخاطر، فلا يمكن أن أسمح أن يتعرض لبنان بوجودي للمخاطر باذن الله”.
ثمة سياق أردني سوري متدحرج. من التوصل إلى إتفاق بين الأردن ولبنان وسوريا ومصر على ايصال الغاز الطبيعي المصري الى لبنان عن طريق الأردن وسوريا. ربط لبنان والأردن كهربائيًا عبر سوريا، زيارة رئيس الأركان السوري إلى عمان. لقاء وزيري خارجية مصر والأردن مع نظيرهما السوري في نيويورك. التعاون الأمني المفتوح بين دمشق وعمان في الجنوب السوري وفتح الحدود البرية الأردنية السورية.. والجوية لاحقًأ. فهل يكون التتويج بقمة أردينة سورية قريبة وكيف سيتصرف لبنان في ظل هذا الإنفتاح الذي يحظى برعاية دولية بأحسن الأحوال أو غض نظر دولي في أسوأ الإحتمالات؟