بين عاميّ 2016 و2018 كان تنظيم “الدولة الاسلامية” (“داعش”) يتعرّض لهزّات إيديولوجية وعقائدية عنيفة، اتخذ بعضها في نهاية المطاف شكل الصراع الأمني بين عدة أجنحة في داخله.
ورغم أن الوثائق المسربة كشفت جزءاً من وقائع هذه الخلافات والصراعات الداخلية والتي كان معظمها يجري تحت عناوين شرعية وعقائدية، بقيت الأيادي الخارجية التي كانت تغذّي هذه الصراعات غير مرئية وغير معروفة الأهداف والتبعيّة، على الأقل حتى الآن.
قد يكون النصف الثاني من العام 2016 من أخطر المراحل التي مرّ بها التنظيم في تاريخه. ولعلّ هذه الفترة هي المنعطف الحاسم الذي قادته إلى الدخول في سلسلة من الهزّات والزلال التي كاد بعضها أن يطيح بقيادته حيناً، وأن يؤدي إلى تقسيمه وتفكيكه أحياناً أخرى.
في هذه الفترة كانت “لجنة التقييم” تقوم بجلسات مع أبرز الشرعيين من أجل التحقيق معهم والتأكد من توافق عقائدهم مع منهج التنظيم، وذلك بعدما استفحل الخلاف حول بعض المسائل مثل “تكفير العاذر” و”حكم المسلمين في ديار الكفر الطارئ” وغيرها من المسائل التي كانت محور الخلاف بين رؤوس التنظيم من الناحية الشرعية.
ولم تستثن جلسات التقييم أي شخص مهما كانت مكانته أو علا منصبه فكان من بينهم الشيخ تركي البنعلي وأبو بكر القحطاني وأبو حفص الودعاني وأبو المنذر الحربي وأبو همام التونسي وغيرهم من الأسماء التي كانت تعتبر من أبرز شيوخ التنظيم ومفكريه العقائديين.
وكانت لدى قيادة التنظيم هواجس حقيقية من أن تنظيم “القاعدة” يعمل بشكل حثيث على اختراقه ومحاولة الانقلاب عليه من الداخل. وكانت الشكوك تحوم حول أبي همام التونسي (بلال الشواشي) الذي تربطه علاقة وطيدة مع أبي عياض التونسي زعيم “أنصار الشريعة” في تونس والذي يعتقد تنظيمُ داعش –حسب وثائق مسربة- أنه يعمل بأوامر من الظواهري لتنفيذ انقلاب أو على الأقل اختراق على المدى الطويل ضد قيادة البغدادي.
وفي خضمّ انشغال قيادة التنظيم بهذه القضية، فضلاً عن متابعتها الشق العسكري الذي كان يتصاعد منذ تشكيل التحالف الدولي لمحاربتها، رصدت الاستخبارات الأميركية إحداثيات مواقع اثنين من كبار قادة التنظيم هما أبو محمد العدناني (رئيس اللجنة المفوضة في الشام) وأبو محمد الفرقان (مسؤول ديوان الإعلام المركزي) فقُتل الأول في منتصف العام 2016 بينما الثاني في شهره الأخير.
وكان كلا القياديين يلعب دوراً كبيراً في ترتيب شؤون البيت الداخلي للتنظيم ومحاولة كبح جماح ما بات يُعرف بتيار “طلبة العلم”، وتكفي الإشارة هنا إلى أن “الفرقان” والمعروف ايضاً باسم “حجي فيصل” لم يكن يقود أعمال لجنة التقييم ويتولى بنفسه التحقيق مع الشيوخ المشكوك بمناهجهم فحسب، بل كان يعتبر بمثابة العقل الخفيّ الذي يقف وراء صياغة منهج التنظيم والتسويق له عبر أدواته الإعلامية ومحاربة كل من يخالفه.
لذلك فإن الخسارة التي تعرض لها تنظيم “الدولة الاسلامية” بفقدان هذين الرجلين لم تكن تُقدّر بثمن. ولم يطل الوقت قبل أن تلمس القيادة كيف أثّر غيابهما على مسار العمل واسلوب إدارة ملف “الصراع العقائدي”. وبدل أن يكون الهدف هو ترتيب البيت الداخلي، انعكست الأمور، فجأة، على يد خلفائهما وتحولت إلى فوضى عارمة.
وشكّل صدور بيان “ليهلك من هلك عن بينة” في منتصف شهر أيار/مايو من العام 2017 إشارة الايذان بانطلاق شرارة هذه الفوضى. لكن الأخطر من فحوى البيان وردود الأفعال عليه من قبل “طلبة العلم” الذين استبشروا بمقتل “الفرقان”، هو نشر مقالة في صحيفة النبأ بعنوان “رموز أم أوثان” ألمح كاتبها بشكل خفي إلى كفر زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي لأنه لا يكفّر بعض شيوخ تنظيم القاعدة.
قطري ومصري يلعبان أدواراً خفية!
وقد تبيّن أنه بعد مقتل “الفرقان” تعرض “ديوان الإعلام المركزي” المسؤول عن إصدار صحيفة النبأ لانقسام حادّ في قيادته الجديدة. ففي حين كان أبو حكيم الشامي (أردني الجنسية) يمثل تيار سلفه، كان أبو محمد القطري كان أميل إلى تيار “طلبة العلم” إضافة إلى زميله أبو سمية الفرنسي. ولكن لا يمكن معرفة منْ منَ الطرفين كان يقف وراء السماح بنشر المقالة التي تمس بالبغدادي شخصياً. غير أنّ ما حصل بعد ذلك من شأنه أن يدل على الطرف الذي استفاد منها.
ولم يكن البغدادي يهتمّ في الحقيقة بمآلات الصراع بين جناحي خلافته، لكنه كان يسارع إلى التدخل وبأعنف الطرق عندما يستشعر أن خطراً ما يقترب من زعامته، وهو ما تمثل في نشر المقالة السابقة، حيث سارع البغدادي في لحظة غضب إلى عزل أعضاء “اللجنة المنهجية” التي كان يترأسها أبو زيد العراقي (اسماعيل العيثاوي وهو معتقل حالياً في العراق) والايعاز بتشكيل لجنة جديدة.
والمفارقة أن اللجنة الجديدة جاءت على النقيض تماماً من سابقتها ومثّلت انقلاباً حقيقياً في توجهات التنظيم وقيادته، إذ بينما كانت اللجنة السابقة تمثل في رئاستها وأعضائها توجهات أبي محمد الفرقان ومنهجه وكانت تضع نصب عينيها هدف التخلص من التيار المناوئ لها، وهو ما تمثل عملياً بتصفية العشرات إن لم يكن المئات من رموزه بالقتل تعزيراً.
مثلت اللجنة الجديدة التي أعقبت نشر مقالة “رموز أم أوثان” التيار الثاني وكان تشكيلها من أهم رموزه ممن ظلوا على قيد الحياة بعد حملة التصفية ضدهم، وأهمهم أبو مسلم المصري وأبو رغد الدعجاني وأبو يعقوب المقدسي.
لكن الأهم أن اللجنة الجديدة كانت برئاسة شخصية غامضة هي أبو محمد المصري، وكلّ ما يعرف عنه أنه رجل ثري جداً كان يعمل في قطر مع أفراد من العائلة الأميرية ولم يأت إلى سوريا إلا بعد عام 2015 أي مع بداية بروز الخلافات الداخلية في التنظيم.
وذكرت بعض الوثائق المسربة أن الرجل أنفق ما يقارب مليون دولار من جيبه الخاص على أمور تتعلق بالتنظيم، وربما هذا ما ساعده على التدرج في المناصب حتى وصل في لحظة حاسمة إلى تبوّأ منصب رئيس اللجنة المنهجية التي كانت في ذلك الوقت أهم منصب بعد منصب الخلافة نظراً لحساسيتها البالغة وتأثيرها في تقرير مسار التنظيم والمنهج الذي سيتبعه. فهل هي محض مصادفة أن يكون كل من أبو محمد القطري في ديوان الاعلام وأبو محمد المصري في اللجنة المركزية مرتبطان بشكل أو بآخر بقطر أم وراء الأكمة ما وراءها؟
هل هي محض مصادفة أن يكون كل من أبو محمد القطري في ديوان الاعلام وأبو محمد المصري في اللجنة المركزية مرتبطان بشكل أو بآخر بقطر؟
وما يلفت الانتباه هو أنه في شهر آب/اغسطس من العام الماضي حصل أمر في غاية الغرابة. تمثل في نشر بيان مزور قيل أنه صادر عن وكالة أعماق يقول أن أبو بكر البغدادي اختار عبدالله قرداش لرعاية أحوال المسلمين، في حين كانت صحيفة النبأ في العدد 193 تنشر مقالة أشارت فيها إلى مقتل أبي عمر قرداش!.
هكذا بعد أربعة أشهر فقط من صدور بيان “ليهلك من هلك عن بينة” كان أبو محمد المصري يوقّع في أيلول/سبتمبر من العام 2017 على قرار إلغاء البيان ويسجل بصوته سلسلة صوتية لتوضيح عقيدة “الدولة الاسلامية” الجديدة وموقفها من المسائل محل الخلاف، وعرفت هذه السلسلة باسم “سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية”.
وبالتوازي كان البغدادي يوقع قرار اعتقال أعضاء اللجنة السابقة واستتابتهم فبدأ “ديوان الأمن العام” بقيادة أبو ايوب “أبو لقمان” الأنصاري بتنفيذه على وجه السرعة، علماً أن هذا الديوان هو نفسه الذي قام بملاحقة أتباع تيار “طلبة العلم” واعتقالهم وتصفيتهم.
ظهور حجي عبدالله في اللحظة الحرجة
هنا في هذه اللحظة الملتبسة من تاريخ تنظيم “الدولة الاسلامية” ظهرت شخصية طالما لفّها الغموض واستخدمت نفوذها للحيلولة دون استمرار الانقلاب الذي بدا –للمفارقة- أن البغدادي نفسه ساهم فيه لجهة القرارات التي اتخذها في تلك الفترة.
هذه الشخصية هي “حجي عبدالله” أو “أبو عبدالله القرشي”. إذ بعد بثّ أربع حلقات من سلسلة المصري عبر إذاعة “البيان” جاء قرار فوري بتأجيل بث الحلقات المتبقية وهي ثلاث حلقات. وسرعان ما تحول التأجيل إلى حظر بث بشكل نهائي. وكان حجي عبدالله هو صاحب هذه القرارات.
فمن هو هذا الشخص الذي يتجرأ على اتخاذ مثل هذه القرارات ويمنع بث حلقات تؤكد جميع المعلومات أنها عُرضت على البغدادي ووافق عليها؟ إنه انقلاب على انقلابٍ كاد أن يكتمل ويطبق خناقه على مفاصل التنظيم وروحه “المنهجية” لولا تدخّل الحجي الذي أجهضه في اللحظة الأخيرة.
وعلى مجرى العادة، وجدت القرارات الجديدة انعكاسها في ديوان أبي أيوب الذي سارع إلى اعتقال وتصفية أعضاء اللجنة المنهجية الأخيرة وأتباعها ومريديها. وفي هذا السياق تم اعتقال أبي محمد المصري مرتين وكان يفرج عنه في كل مرة قبل أن يُعتقل في نهاية عام 2018 وتغيب أخباره وسط أنباء شبه مؤكدة عن مقتله.
من الصعب تحديد ما إذا كانت خطوة “حجي عبدالله” جاءت بالتنسيق مع أبي بكر البغدادي أم قسراً عنه، لكن المؤكد أن الرجل لم يكن ليقدم عليها لولا وجود غطاء يحميه ويؤمنه. وهذا الغطاء ليس سوى “الحجّاج العراقيين” الذي يمثلون النخبة العسكرية التي تدير التنظيم من وراء الستار. وأهم رموز هذه النخبة في ذلك الوقت هو حجي حامد وحجي عبدالناصر إضافة إلى الرجل القوي حجي عبدالله (أبو عبدالله القرشي) وهو نفسه أبو عبدالله الحسنيّ البغدادي الذي عينه مجلس الشورى نائباً للبغدادي منذ العام 2010 ومن المرجح أنه هو من أصبح الخليفة الجديد تحت اسم أبو ابراهيم الهاشمي القرشي.
بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر، في أوائل شهر أيار/مايو من العام 2019، ظهر أبو بكر البغدادي في مقطع مصور دعا فيه إلى اتباع استراتيجية الاستنزاف ومهاجمة السجون، لكنه أظهر تجاه الفصائل الأخرى خطاباً مغايراً أقل ما يقال فيه أنه يحمل نكهة خطاب “الفرقان” من دون أن تشوبه اختلاطات التيارات المنهجية الأخرى التي يبدو أن البغدادي نفسه كاد أن يقع فريسة لها في وقت من الأوقات.
ليس بعيداً من ذلك، كانت بلدة الباغوز آخر معاقل التنظيم في ذلك الوقت تشهد بدورها انقساماً حاداً بين طرفين: الأول يمثله أبو عبدالرحمن التميمي ويريد مواصلة القتال حتى مقتل آخر مقاتل في داعش. والثاني يمثله اشخاص مثل “ربعي” نائب التميمي وأبو عبيدة البابي والي حماة السابق وغيرهم ممن كانوا قد اختاروا طريق التفاوض مع قوات قسد الديمقراطية ومن يقف وراءها. وتشير المعلومات – حسب وثائق مسربة- إلى أن الطرفين توصلا بالفعل إلى اتفاق قضى بفرض هدنة والسماح لقيادات وعناصر وعائلات داعش بالخروج باتجاه … إدلب. حسب ما ذكرت “قناة النذير العريان” المتخصصة في نشر وثائق “داعش” المسربة.
وفي ريف إدلب قُتل أبو بكر البغدادي أواخر شهر تشرين الأول/اكتوبر، بعدما أصبح وجوده يمثل عبئاً كبيراً على مجموعة “الحجاج” الذين لم يجدوا صيغة مناسبة لتوضيح موقف البغدادي من سلسلة المصري وسبب وقف بثها، لأن موافقة البغدادي عليها أصبحت تستلزم استتابته، حالُه في ذلك حال بقية أعضاء اللجنة المنهجية الذين كان أبو ايوب يلاحقهم بتهمة الشرك والردة.
لذلك جاء مقتل البغدادي في تلك اللحظة بمثابة الهدية بالنسبة إليهم. فبينما حاز هو على “شرف الشهادة”، اطمئنّ “الحجاج” بدورهم إلى أن التنظيم قد عاد إليهم مجدداً بعد أن أنهكته خلافات التيارات المنهجية المتعادية، ومحاولات الانقلاب التي لا يشك (الحجاج) في وقوف القاعدة وبعض الدول وراءها.