الإزدهار على حساب الفقراء
تنحدر الطبقة الوسطى الى بورجوازية صغيرة، وتنحدر البورجوازية الصغيرة الى بروليتاريا والبروليتاريا تصير دون عمل. تُطرد من عملها، تضطر الى الهجرة. تُطرد من بلادها. تنضم الى الشتات في بلدان الاغتراب. يعبّر الكثير منهم عن رغبتهم في العودة. لا يستطيعون ايجاد فرص عمل، يعودون الى المغترب أو ما أصبح يسمى “الانتشار”. تتشكّل حكومة من “الاختصاصيين” الذين يمكن أن يكونوا مستقلين. لكنهم لن يكونوا مستقلين عن صندوق النقد الدولي. توقع حكومة “الاختصاصيين” مع صندوق النقد الدولي وتحت إشرافه. يأتي هذا الى لبنان. يفرض اجراءات تقشفية. تصيب الطبقات الدنيا بالطبع. ينظم هذا الصندوق عمليات البيع والشراء للعقارات. ربما يعود ازدهار لبنان، لكن على حساب الفقراء. هؤلاء وحدهم من بقايا الطبقة الوسطى والطبقات الأدنى. هم من سوف يدفعون الضرائب (بعد أن خسروا ممتلكاتهم) التي يفرضها صندوق النقد الدولي. سوف يتغيّر التركيب الاقتصادي – الاجتماعي للبلد. سيكتفي أبناء الطبقات الوسطى ببيت واحد في “الجبل” أو في بيروت. أن يملك الواحد منهم بيتين سوف يصير أمراً مستحيلاً. الأرض والعقارات المبنية ستصبح أملاكا، في معظمها، لقروش المال. عصابات الدولارتحقق ما يجري في بقية أنحاء العالم، أي “التملك عن طريق المصادرة”.
ثار الناس لكرامتهم. بعضهم لأسباب تتعلّق بالفقر. بعضهم لشعورهم بفقر داهم سوف يأتي وسوف يؤدي الى الإجهاز على ما تبقى من ممتلكاتهم وإمكان دفعهم نحو أن يصيروا بروليتاريا هائمة في مختلف بقاع الأرض.
هي أزمات أصحاب الرساميل التي ضاقت عليها سبل الخارج فلجأت الى استخدام المصارف المحلية وأزمتها “المفتعلة” لجعل العقارات المبنية وغير المبنية (قجتها) لاكتناز الثروات المالية. كم من عقار بيع في الأيام الأخيرة بأسعار بخسة؟ وكم من شيكات مصرفية (على مصرف لبنان) استخدمت بعد حسم 20% من قيمتها لدى الصرافين، لإرسالها بعد ذلك الى الأبناء والبنات الذين يدرسون في الخارج، أو لأداء التزامات أخرى؟
هل يعرف هؤلاء الذين يُرسلون لضرب المتظاهرين صارخين: “شيعة، شيعة”، أو الذين يصرخون: “بالروح بالدم نفديك يا سعد”، أن ما يجري في المصارف وسوق العقارات هو لتهجيرهم وطردهم من بيوتهم
الثورة المضادة
هل يعرف هؤلاء الذين يُرسلون لضرب المتظاهرين صارخين: “شيعة، شيعة”، أو الذين يصرخون: “بالروح بالدم نفديك يا سعد”، أن ما يجري في المصارف وسوق العقارات هو لتهجيرهم وطردهم من بيوتهم. يعرفون أو لا يعرفون؛ الأمر ليس مهماً. هم صرخة الثورة المضادة التي يشنها النظام/السلطة بجميع أطرافه ضد الناس/الثوار. كاد تجاوز الطائفية، ولو لفترة، أن يزعزع القواعد الشعبية لأحزاب السلطة. هذه لا تعرف كيف تستعيد سلطتها إلا بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية كي تعود الطائفية (بأشكالها البشعة) وكي يعود الناس قطعاناً طائفية موالين لأكباش الطوائف. الثورة المضادة هي رد فعل السلطة بأحزابها ضد الناس المتظاهرين، والمحتجين، والمنتفضين، والثوار، الذين احتفلوا بأنفسهم، بل خاضوا تجربة جديدة وغير مسبوقة في لبنان. هؤلاء إلتقوا في الساحات في أجمل حفلة تعارف بينهم (ولو لم يكن هناك مكسب غير هذا لكان كافياً). وهؤلاء رفعوا علم الكرامة وطالبوا بحقوقهم ومن جملتها الأموال المنهوبة. وهؤلاء، ربما يعرفون أو لا يعرفون، أو يشعرون بالمصير الذي ينتظرهم على يد أغنياء الحرب القدماء والجدد، وعلى يد النظام الأمني الذي يمارس شتى أنواع القمع، ومنها الاتهامات التي تؤدي الى اغتيال الشخصيات معنويا لقادة الثوار، أو ما يشبه محاكم التفتيش في القرون الوسطى.
لا يقل عن ذلك بلاهة أو تواطؤ فضائيات انتحلت الولاء للثورة. وصارت تخضع لتعليمات الأجهزة بعدم بث مشاهد المظاهرات، كما كانت تفعل، وأن تركّز على حوادث فردية لأناس مصابين أو مرضى يحتاجون الى المساعدة؛ فكأن الثورة تتحوّل من المطالبة بالحقوق الى نوع من الإحسان الفردي الذي يُشكر عليه أصحابه. الإحسان هو في معظم الأحيان نشاط يمارسه أصحاب الثروات وأغنياء الحرب. هو نوع من تطهير لأموالهم المكتسبة بطرق ملتوية.
الأكثر خطراً هو مجموعة المعلقين والباحثين والخبراء المنتدبين من أحزاب السلطة للظهور على محطات التلفزيون والمساهمة في دس نظريات وأراء ومعلومات تساهم في انحراف الثورة عن مطالبها الأساسية وأساليبها المعتمدة أصلاً. يساهم هؤلاء في إنتاج فساد من نوع آخر هو الجهل والجهالة. يتقصدون الغباء، همهم الأول هو التجهيل، وسيلتهم أحيانا كيل الاتهامات للأبرياء. محاكم تفتيش من نوع آخر. يضطر المشاهدون الذين كانوا في الثورة، الى إلتزام القعود في بيوتهم، والنظر الى الشاشات، وسماع سيل من الأقوال والنقاشات غير المفيدة والتي هدفها التيئيس، أو على الأقل انخفاض القدرة على الفهم. يزداد ذكاء ومعرفة الناس أثناء الثورة أضعافا، ويتراجع كل ذلك تحت وطأة إعلام الثورة المضادة. الضجيج عالي الوتيرة. الأصوات تصم الآذان. التجهيل يغلق العقل. هل كُتب على اللبنانيين أن يكونوا الضحية مرة أخرى؟
إنتاج الفساد نمط إنتاج
نجحت الثورة المضادة، أحزاب السلطة، في تحويل الثورة الى أزمة. أنتجت أزمة مالية خانقة. الذين سحبوا الدولار من السوق، وأغلقوا المصارف لأسابيع، وفرضوا ما يُسمى “كابيتال كونترول”، ومنعوا الناس من الحصول على ايداعاتها، بل ورواتبها، والذين تواطأوا لإنتاج سعر موازٍ للدولار، وسوق موازية له، هم أنفسهم الذين أرادوا سرقة الحقوق من الناس قبل أن تتحقق، إذا كان مقدراً لها أن تتحقق. موجة جديدة من الأموال المنهوبة علنياً هذه المرة.
إنتاج الفساد أصبح نمط الإنتاج الرئيسي في البلاد. الذي فهمه اللبنانيون، ولم يفهمه أهل السلطة، هو أنهم قاموا بثورة على أنفسهم؛ بالأحرى قامت الثورة بهم. حدثت بالرغم عنهم، ضد سلطة في داخلهم، ضد نمط يعيشونه، ضد سلطة خارجية تمثل هذا الذي يعيشونه. ثورة تطهّر النفوس (نفوس الناس العاديين) من النظام وفساده ونمط إنتاجه. صار اللبنانيون شعباً واحداً. صاروا شعباً آخر تطهّر من فساد النظام القديم. هم يثورون وما زالوا يثورون ضد نمط إنتاج لا ينتج شيئاً آخر سوى الفساد. ينتج أيضاً نظام الاستهلاك والدين.
(الجزء الأول: تعالوا إلى لبنان.. الفساد سلعة تُنتج علناً)