كتاب هيكل: التناقض الأميركي الإيراني لن ينتهي.. والعرب موجودون فقط على الخريطة

Avatar18003/02/2020
تسنت الفرصة لشاب سعودي تعلم في الولايات المتحدة وإنخرط في أعمال عائلته في السعودية، أن يتعرف على لبنان، من بوابة الصحافي الراحل مصطفى ناصر. إرتباط الشاب طارق زيدان بكريمة "الرجل المترامي الأطراف"، على حد تعبير الصحافي الكبير طلال سلمان، أفسح له أن يقتحم بذكاء وحنكة وحضور، عوالم السياسة والصحافة، في بيروت والقاهرة وبعض عواصم العالم. من بين آلاف الصفحات التي دونها، إختار طارق فريد زيدان أن يوثق في أول كتاب سياسي له بعنوان: "الجورنالجي وكاتم الأسرار/محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر/ أسرار وذكريات"، صفحات من عشرات اللقاءات التي جمعت بين هيكل وناصر وعدد من الأصدقاء والسياسيين اللبنانيين، سواء في بيروت أو القاهرة أو برقاش (المزرعة التي كان يرتاح فيها في الريف المصري وإستقبل فيها العشرات من القادة العرب والأجانب الذين كانوا يزورون مصر) أو في منزل هيكل الصيفي في الساحل الشمالي في الإسكندرية. من هذا الكتاب الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر (الطبعة الأولى 2019، بيروت)، إخترنا نشر أحد فصوله (اللقاء النووي) الذي يرصد حواراً غنياً بين الكاتب العربي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل وباقة من زواره اللبنانيين، يتقدمهم طلال سلمان والراحل مصطفى ناصر غداة توقيع الإتفاق النووي في 2015.

“لحظة اقترابنا من ميناء العرب الدولي (مطار الإسكندرية)، هالني لون البحر، ومنظر الشاطئ، جمال خلّاق برّاق. وعند المدرج، استقبلنا باص المسافرين، لا سيارة خاصة، وكنا وحدنا في الباص نحن الستة. جلس الأستاذ طلال سلمان في منتصف المقعد، وإلى جانبه النائب عباس هاشم وحسين أيوب وأحمد سلمان، ووقف الأستاذ مصطفى ناصر ممسكاً بعمود. أمّا أنا فأخرجت هاتفي مصوّراً الجميع من دون علمهم (…).
استقبلنا سائق «بفان» كبير، وبدأ يشرح لنا ويحدّثنا عن الإسكندرية وتاريخها كأننا سيّاح، فعدنا إلى جو الضحك والتنكيت، والقول إن السائق رجل استخبارات ماهر(…).
استقبلنا الأستاذ محمد حسنين هيكل في منزله الصيفي، على الساحل الشمالي قرب مدينة الإسكندرية، يجاوره «عديله» نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك.
لا يغيب عن بالي منظر البحر الأبيض المتوسط، أو مائدته، كما كان يسميها.

هيكل: أعطوني دليلاً واحداً على أنّ أوباما غيّر سياسة في المنطقة، أو في غيرها. ما نتكلم عليه هو تغيير حقيقي، لا لعبة علاقات عامة في الشكل

الشاطئ مغطّى برمل ناصع البياض، يليه شريط مائي أزرق تركوازيّ اللون مميز، ثم شريط مائي آخر أزرق داكن، لا أفق له، فتحسب أنك تود أن تشرب من مياهه، لا أن تسبح فيها… ببساطة، إنه أجمل بحر رأيته في حياتي.
استقبلنا هيكل عند المدخل، كعادته، مستخدماً هذه المرة عكازاً طبياً بأربع أرجل، بعد تعرضه لكسر في الورك. كان مرتدياً لباساً متناسقاً مع المنزل والموقع والساحل الشمالي، وهو ما تجلّى في قميص أبيض من قماشة “اللينين”، وبنطال أسود رياضي.
وحين بادرته بالإشادة بتميّز ألوان البحر أمامنا، ذكر لي أن القائد العسكري مونتغمري، كان يعشق السباحة عارياً في مياه هذا الشاطئ، استعداداً لخوض الحرب العالمية الثانية. المهم أنّ كل التفاصيل مدروسة: سيجاره بيمينه، وكتابه يلحق باللورد الأسمر أنّى ذهب. هكذا كان يوصف ابن حيّ الحسين القاهري(…).
“كنت مسكر دكاني”
جلسنا أول اللقاء مطلّين على البحر، والهواء الإسكندراني العليل يسرح ويمرح بيننا. جلس هيكل وإلى جانبه طلال سلمان، ثم عباس هاشم، يليه مصطفى ناصر، يولّون وجوههم شطر البحر. وجلست مع حسين أيوب وأحمد سلمان مقابلهم. اقترب حسين أكثر من “الأستاذ” وأنا معه، في الوقت الذي أخرج فيه أحمد سلمان هاتفه يريد التصوير.
استدرك هيكل الأمر، وخاطب أحمد سلمان قائلاً: «لا، لا، أرجوك، لا تصوير، فلباسي ليس رسمياً»، وكان يقصد البدلة وربطة العنق، فما كان من أحمد إلا أن أخرج هاتفه والتقط لهيكل، من دون علمه، صورة كان أن احتلت غلاف المقابلة على صفحات “السفير”، وقد ظهر بكامل أناقته المعهودة (…).
استهل هيكل الجلسة سائلاً عن أحوال لبنان، وبدا لنا متابعاً تفاصيل كل ما يدور في بيروت وأروقتها وأسرارها، ليقابله طلال سلمان قائلاً: «جئنا لنسألك، لا لتسألنا عن بلدنا الصغير! نريد معرفة أحوال بلاد العرب الكبيرة مصر، وتداعيات الاتفاق النووي الإيراني على المنطقة وَ…». لكنَّ الأستاذ هيكل قاطع مستفسراً بالقول: «ليه يا مصطفى، ليه، كنت مسكّر دكاني في القاهرة وقاعد مرتاح في الساحل». قال ذلك وهو يحرّك يديه الاثنتين ممازحاً (…).
بادرت وسألت: «أستاذ هيكل، بحسب المثل الإنكليزي الشهير «هناك فيل في الغرفة لا يمكن تجاهله»، وهو الاتفاق النووي الإيراني، اتفاق فيينا، ماذا سيحدث لطهران؟ وما موقف الغرب منها؟ وكيف ستتصرف السلطة فيها إقليمياً؟ وهل سيقبل الغرب دوراً إيرانياً؟».
لحظة واحدة، هي كل ما تحتاج إليه للدخول في حوار عميق. عندئذٍ تحوّل اللقاء من السلام والسلام المتبادل الى نقاش سياسي استراتيجي.
وكعادته، سبح هيكل في التاريخ والمعلومات، مستنداً إلى معلومات، ومتّكئاً على علاقة مع صنّاع القرار. إنه يحمل تجربة طويلة ترافقها ثقافة عالمية. فقد كان على علاقة مع كبريات الصحف الدولية، ورؤساء تحريرها وكتّابها. وهو حاضر ذهنياً بحديثه وقد ناهز التسعين عاماً… إنَّها طاقة متدفقة.

عالم ما بعد الاتفاق النووي

أشعل هيكل سيجاره، وجال بنظره على الحضور، وبدأ الكلام: انطلق من الرئيس الأميركي أوباما، ومن خطابه أمام جامعة القاهرة في العام 2009، ليعرّج على آلية صناعة القرار في واشنطن، ثم تكلّم على السلاح الاقتصادي الأميركي ومدى محدوديته تجاه طهران، شارحاً أنّ الاتفاق النووي له ميزة استراتيجية تتعلق بموقع إيران، الهضبة الآسيوية، متوقّعاً استمرار حالة العداء بين واشنطن وطهران.
وفي هذا السياق، أوضح أنه يمكن تحليل شخصية أوباما، ليصل الى وصف الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما بالقول: «هو رجل مفوّه، لكنّ تكوينه ضده: أصوله ولون بشرته وموقع السود في النظام».
توقفت مطوّلاً عند هذا الوصف، ليس لأن أميركا غير عنصرية، بل لأن وصول أوباما إلى البيت الأبيض شيء، وممارسته السياسة شيء آخر. أردت القفز داخل تدفق الكلام، لكنّ الأستاذ حسين أيوب سبقني وقال: «بالرغم من كل هذه العوامل لدى أوباما، فهل كان قادراً على توقيع اتفاق مع إيران النووية والإقليمية؟».
تأهّب هيكل ليأخذ نفَساً من سيجاره، في إشارة منه إلى أن السؤال أعجبه، وأنّ الجواب سيفيض كالسيل وقال: «أوباما لا يتحدى الكونغرس، علينا التمييز بين اختلاف رئيس مع الكونغرس، وممارسة السياسة الجفرسونسية في إطار النصوص» (…).

هيكل: أميركا فشلت في سياسة الاحتواء. فشلت مع إيران ومع كوبا والعراق، وفشلت أيضاً في فرض صورة تبرّئها من التمييز العنصري والمشاكل الإنسانية

استطرد هيكل قائلاً: «في أميركا لا يمكن توقيع اتفاق، ولو بالأحرف الأولى، ضد إرادة الكونغرس. هناك توافق بشأن هذه المسائل. أضف إلى ذلك أنَّ أحداً لا يستطيع أن يأتي من خارج سياق القوى الحقيقية الأميركية ويتفرّد بالقرار.لا، لا، أبداً، بل إنّ مجيء أوباما يدل بوضوح على أنّ هناك أزمة قرار في واشنطن، ترافقها أزمة قرار في القوى.
ولا تنسَ أن السود يمثّلون حتى هذه اللحظة ما بين 12% و14% من السكان، وليس لديهم أيّ من مفاتيح القوة».
«أين هي القوة الحقيقية في أميركا إذن؟»، سألت بحماسة ممزوجة باستهجان.
«أعرف ما تقصد؛ في الدولة العميقة، الكونغرس والمؤسسات وغيرهما، يكون للقوة الأميركية أهداف، فهي لا تعمل من دون تخطيط. وبغض النظر عن نجاح أوباما أو فشله، فهو لم يحقّق الهدف. حتى صورة أميركا لم تتغير، وهذا أمر صعب جداً عليه، فما بالك بتغيير أهداف المؤسسة؟ ما يغيّرها هو الصدمات المتتالية، مثل فيتنام وإيران».
«والدليل؟»، سأل حسين أيوب.
«الدليل؟ أنا أسألك أن تعطيني دليلاً واحداً على أنّ أوباما غيّر سياسة في المنطقة، أو في غيرها. ما نتكلم عليه هو تغيير حقيقي، لا لعبة علاقات عامة في الشكل».

عالم عربي لا يحرك ساكناً

أكمل هيكل وصفه بالحركات التي يؤدّيها بيديه الاثنتين، وسيجاره معلّق، شارحاً كيف يُصوَّر أوباما عندما يدخل إلى الاجتماعات متراقصاً في مشيته، ومتكلّماً بثقة. ثم نقل الحوار نحو الاستنتاج بالقول: «أميركا فشلت في سياسة الاحتواء: فشلت مع إيران ومع كوبا والعراق، وفشلت أيضاً في فرض صورة تبرّئها من التمييز العنصري والمشاكل الإنسانية. لكن ما غيّر الأوضاع ليس أوباما، لأن كل رئيس يصل إلى البيت الأبيض يجد حقائق جديدة مختلفة عن سابقه، فيُسقط خياراته القديمة. ومنها أنه ما من رئيس اتخذ خيارات جديدة، وغيّر الأوضاع».
سأل أحمد سلمان: «وماذا عن الاتفاق النووي؟».
أجاب هيكل، وبسلاسة متدفّقة: «يمكن القول إن الحصار على إيران فشل، وإنه سيخفّ. لكنّ الحرب على طهران مستمرة، وإن لم تكن قائمة على النحو الفاقع الذي كانت عليه سابقاً. إنَّ التحدي الوحيد البارز في المنطقة بالنسبة إلى أميركا هو إيران. والإيرانيون يعرفون ذلك: فأميركا تراهن على انفتاح أو تحوّل يجري داخل النظام، لكنّ النظام الإيراني لن يفعل مثلما فعل السادات، حين قرر السفر ليلاً إلى تل أبيب، فكان ظُهراً في مطار بن غوريون. هذا أمر لن يفعله غيره».
سألت مقاطعاً: «والعالم العربي، أين هو؟».
«العالم العربي! كما نرى»، هكذا، وحرّك بيديه مرة أخرى، في إشارة إلى أن العالم العربي لا يحرّك ساكناً. ثمّ أكمل: «وفي تركيا، أردوغان لا يمكن البناء عليه، أو على مواقفه. وهناك أيضاً ما لن تقبله أميركا، وهو نظام إيران كحقيقة واقعة، وهي لا تملك بديلاً منه أو حلاً آخر… بُص، ليس هناك أقوى من شعب على أرضه مع حضارة مستمرة. الإيرانيون لم يكونوا إلا أنفسهم. حضارة فارسية على أرضها مع الناس. هنا القيمة. مصر على فكرة أدّت هذا الدور، بالرغم من كل ما أصابها» (…).

تأثير “النووي” على سوريا

قرر مصطفى ناصر التكلّم، فطرح سؤالاً صاعقاً، أراد به أن يحلّق بالحوار بعيداً: «طيّب يا ريّس، ما هو تأثير الاتفاق النووي في سوريا؟».
تلقّف هيكل السؤال الناصري فرحاً، فهو كان يعرف أن ناصر لا يسأل من فراغ، وانطلق شارحاً: «بص حضرتك، ما تقوم به أميركا اليوم هو أنها تشتغل مع إيران حتى الاستيلاء على سوريا، والأردن بعدها. الاتفاق النووي مهم جداً، لكن يجب ألّا نبالغ في تأثيره. أميركا تريد إيران لها، ولن تقبل أن يتواصل معها العالم أكثر منها. لا تقبل أن يجري العالم نحوها إلّا بقدر ما تريد هي. هناك فرق فواشنطن تتعامل مع حقائق تدرك أنها لا تستطيع تغييرها الآن، لكنها تتعامل معها على افتراض أنها قد تصبح قادرة على تغييرها في مرحلة لاحقة».
سأل طلال سلمان: «كيف يعني؟ ممكن شرحها؟».
أجاب هيكل: «لو نجح النموذج الإيراني، ورُفع الحصار عن طهران، فسينمو ويقوى، وتكون الخطة قد فشلت. التناقض الأميركي الإيراني لن ينتهي ما دام هذا النظام قائماً في إيران. أميركا أمام نظام رافض للهيمنة الأميركية وملاصق لروسيا والصين. والعامل النفسي في هذا الصراع مهم جداً. أصبح الجميع يخاف من طهران، بمبالغة تجعل الأنظمة تُسقط كل التحفظات السياسية. وفي مصر تدور معركة من هذا النوع، فحواها: هل يجوز الانفتاح على إيران. والرئيس السيسي مهتم ويسمع، ولكن هناك محاولات ضخمة تمارس لعدم حدوث التقارب والانفتاح. الدول الكبرى تسمح لنفسها بالإقدام على بعض التصرفات، واتخاذ بعض الخطوات، لكن أن تقوم أنت بها، فهذا ممنوع»(…).
أكمل هيكل حديثه فقال: «لا تجوز المبالغة في تأثير الاتفاق النووي: هو مهمّ، وأميركا وموقفها أيضاً مهمّان».
«كيف تكون أميركا مهمة أيضا؟ وماذا تقصد بالمبالغة؟»، سألت هيكل بسرعة.

هيكل: إيران الجغرافيا تبقى إيران. وبغض النظر عن النظام في طهران، فإنَّ إيران، تقع على هضبة آسيا المطلة على روسيا والصين، وهي نقطة ارتكاز

صمت هيكل لحظة، وبدأ يسترجع ذكرياته عن طهران، ثم تحركت يداه، وعلى جري عادته، بطريقة دائرية، لتصلا إلى عنقه، ولا تلمساه، وقال: «أول زيارة لي إلى طهران كانت في العام 1951 أيام مصدّق. وقد تعرّفت يومذاك إلى إيران من الداخل، وإلى شقيقة الشاه، والخميني والخامنئي ورفسنجاني وخاتمي المثقف الذي زارني في برقاش، لكنّ إيران الجغرافيا تبقى إيران. وبغض النظر عن النظام في طهران، فإنَّ إيران، تقع على هضبة آسيا المطلة على روسيا والصين، وهي نقطة ارتكاز في موقعها. يمكن تقبّل ترتيبات معينة بين الطرفين، لكنّ العداء لن ينتهي إلا إذا غيّر النظام في طهران سياسته، أو غيّرت واشنطن مطالبها. التناقض الإيراني الأميركي لم ينهه الاتفاق النووي».
أخذ هيكل رشفة من كأسه، ثم طفق يبحر عميقاً في الموضوع الإيراني: «في هذا الاتفاق ما يشبه العلاقة بين ولد وبنت، يختبر كل منهما الآخر. لكن يبقى الواقع هو الآتي: في علاقات القوة حسابات، فهل تقبل أميركا قوة مثل طهران في المنطقة، قادرة على الانتشار والتأثير خارج حدودها، وخارج فلكها؟ المسافة بين الدولتين كبيرة جداً، ويجب أن تغيّر إحداهما من طبيعتها. تواضع أميركا وترويض إيران لن يحلّا المشكلة. لا تنسَ أننا أمام علاقة قوة وصراع، فهناك متمرد، وهناك مروّض، من دون أن يمسك أحد منهما «هُدوم» حدّ. ولا تنسوا أن أميركا لن تقبل بقاء نظام قوي في طهران؛ إيران وتركيا تمثّلان خط المواجهة مع روسيا، وبغض النظر عمن يحكم موسكو، أكان من القياصرة أم من الشيوعيين. أمّا بالنسبة إلى التاريخ والجغرافيا، فإنَّ روسيا تمثّل خطراً على أوروبا؛ وحسابات أميركا هي مع روسيا بذاتها، لا مع النظام الشيوعي فيها».

نقاط الإرتكاز

واصل هيكل حديثه ومصطفى ناصر يستمع من دون تعليق، تاركاً الحديث يأخذ مجراه الطبيعي، فهو لم يكن يحب التدخل لجعل ولادة الأفكار قيصرية:
«بُص، هزيمة أميركا في إيران ستكون مدوية. فشل أميركا في ترويض طهران، أو تغيير النظام فيها خطر قد يضعنا أمام نزاع. الاتفاق سيخفف من عزلة إيران. والغرب نجح في ذلك من البوابة العراقية، ولو بالفوضى، فالعراق اليوم بؤرة عزل لطهران. سوريا نقطة ارتكاز أيضاً، أمّا اليوم، فلا. فإيران وحدها في الإقليم. وليس صحيحاً أنّ كل ملفات المنطقة قد طويت مع الاتفاق، لا بل جرى فتح كل الملفات بعدئذٍ. وقد لامس الأميركيون والإيرانيون المواضيع من دون أن يضعوا لها حلولاً. يبدو ذلك واضحاً من خلال الموقف الأميركي المهتم بإيران أكثر من اهتمامه بالدول التي تجاورها». لاحظوا أن الشيخ راشد بن مكتوم كان ذكياً في مسألة التعامل مع إيران، وكان مستعداً لضرب كل من يحاول الاستهانة بها».
هنا، وفي هذا المفصل من الحوار، تدخّل مصطفى ناصر، فقد كان يعرف أنّ الكلام لا يستقيم من دون أن يُعرَّج على لبنان، الذي أصبح يؤثر خارج حدوده في سوريا، عن طريق حزب اللَّه، وهو يعرف دور الحزب تحديداً في الصراع الدائر هناك وعلاقته بالإقليم، فسأل: «ماذا عن دور حزب اللَّه في سوريا؟».
استقبل هيكل سؤال ناصر ببهجة واضحة، وأجاب: «صحيح يا مصطفى، إنَّ حزب اللَّه قوة كبيرة في لبنان، ولكن لبنان كله، مع احترامي لكم، له حدود في التأثير. صحيح أن للسيد حسن نصر اللَّه إشعاعاً معيناً في لبنان وخارجه، ولكن هو أيضاً له حدود. إذا كانت سوريا مدمرة، والعراق يعيش أو يموت أمامنا، فنحن جميعاً أمام مأزق حقيقي، وعلينا ألّا نحمّل الناس أكثر مما يطيقون. والحزب له سمعة طيبة، ولكن السمعة لا تمثّل قوة بحد ذاتها. وقتال حزب اللَّه هو دفاع عن النفس، لا إثبات نفوذ، هذا مهم في الاستراتيجيا. هو مستهدف. ومن يُرِد ضرب إيران، فإنه يحاول أن يقصّ أجنحتها في كل مكان».
«وماذا عن موقف روسيا من إيران؟»، سأل طلال سلمان.
أجاب هيكل: «روسيا لُسعت وقُرصت من منطقة الشرق الأوسط في السابق، وتكبّدت فيها خسائر كثيرة بالرغم من حسن نياتها. وبعد خروج مصر من المعادلة الإقليمية، أصبحت روسيا تقف عند بوابة دمشق، عند بوابة الخروج من الشرق الأوسط، أو الدخول إليه، بحسب خطواتها في الصراع. هناك علاقة شك بين روسيا وإيران. وكما أنَّ بين أميركا وإيران تناقضاً، فإنَّ هناك تناقضاً آخر بين روسيا وإيران أيضاً… انظر إلى التجربة الشيوعية التي تركت مواريث ثقافية ما زال تأثيرها قائماً: لقد نظر ستالين وخروتشوف وغورباتشوف إلى المنطقة بعينٍ ترتكز إلى مقدار قوة روسيا، لا حجم مطالبها. الصراع بين روسيا وإيران قديم، وصيغ التعايش بينهما لم تدم طويلاً… الشاه حاول والروس كذلك. الروس اليوم يريدون السلام في محيطهم، وعلى حدودهم، لأنهم بحاجة إلى إعادة بناء في الداخل… روسيا لا تزال بلداً ينتمي إلى دول العالم الثالث، وهي غنية بالموارد، وتملك ثروة صناعية».
وما لبث الحوار أن انتقل إلى سؤال طرحه حسين أيوب، مستفسراً عما يقصده هيكل بنقاط الارتكاز في وصفه، وعن أبعاد الصراع الروسي الأميركي وبينهما إيران، وتأثيره في منطقتنا (…).

هيكل: أميركا لن تقبل بقاء نظام قوي في طهران؛ إيران وتركيا تمثّلان خط المواجهة مع روسيا، وبغض النظر عمن يحكم موسكو، أكان من القياصرة أم من الشيوعيين

أجاب هيكل، وبسعادة غامرة: «نقاط الارتكاز في المنطقة [وذكرها باللغة الإنكليزية (بفوتز)]، هي تركيا إلى حدّ ما، وإيران إلى حد ما، والهند كذلك. أما باكستان والسعودية ومصر، فهي نقاط حضور فقط… العالم العربي اليوم موجود على الخريطة فحسب، ومصر مشغولة، وما من تحالف عربي يستطيع أن يحتلّ مكانها ويصادر دورها. والسعودية تعيش التغيير. وفي الخليج قوة ترهّلت قبل أن تبلغ تلك الدول شبابها».
وسألته: «وما رأيك في قيادة الأمير محمد بن سلمان الشاب، والأمير محمد بن نايف، الذي هو شابّ أيضاً؟».
ابتسم هيكل هذه المرة، وقال: «السعودية تعيش اليوم وصفاً جديداً. خطط تغيير، ووزير داخلية يمسك في الحقيقة بملف الإرهاب، ولديه شعبية. علماً أنه ثمة مقدار محدّد من التغيير الذي يُسمح به. أنا أعرف الملك سلمان جيداً من أيام القاهرة ولقاءاتنا فيها. وأتذكّر في لقاء معه أنّه كان يردّد بيت شعر: “يا ريم وادي ثقيف، لطيف جسمك لطيف”، وهي الأغنية التي غنّتها نجاح سلام»، وبدأ هيكل يغني، وأصابع يديه بعضها فوق بعض، ويهزّ كتفيه طرباً.
ضحك الجميع مع هيكل. ثمّ دار حوار جانبي بينه وبين طلال سلمان عن الأغنية المصرية. بعدئذٍ جاء السيد صبحي يدعونا إلى الغداء: «اتفضلوا يا افندم، الغداء جاهز».
تحت سقف القرميد الذي يزيّن البيت ذي الطراز المتوسطي، بحزام بلون الفخار، مضفياً برودة على شمس البحر الأبيض المتوسط، امتدت طاولة الغداء على شكل بوفيه. امتدت المائدة على حافة جدار المنزل المطل على البحر، وقد صُفّت عليها مأكولات مصرية أصيلة، وتحديداً أكلة الأرز بالخروف، أو الفتة المصرية، التي توسطت الطاولة، وهي أكلة كنت أشتهيها في كل زيارة. بالإضافة إلى فاكهة مصر المعروفة، المانجا، تحتضنها فواكه موسمية. كما كان البوفيه مزيّناً بزهورٍ معطّرة اختارتها السيدة هداية، زوجة هيكل.
أين العالم العربي؟
جلسنا حول الطاولة، والأستاذ هيكل عند رأسها، أمامه البحر، وأنا في الجهة المقابلة. امتد الكلام إلى الطاولة، وغطّى كامل الوطن العربي. بدءاً من سوريا، التي كانت تعيش إضرابات وحروباً بالوكالة وصراعات أممية. كانت سوريا قد أصبحت يومذاك ساحة للعبة الأمم.
قال هيكل وقد جلس ناصر عن يمينه، وسلمان عن يساره: «نحن في مصر، وبالرغم من أننا لا نعترف بذلك، فإننا نستفيد من كل بؤرة مقاومة معطّلة للتسوية الشاملة مع إسرائيل، في لحظة ضعف العالم العربي، وتهاوي سياسته، بعكس سوريا، التي لم تكن مركزاً لدعم بؤر المقاومة في المنطقة، بل حاولت أن تستفيد منها».
ثم سأل مصطفى ناصر عن تقسيم سوريا (…)، وأجابه هيكل قائلاً: «إذا تحدثنا عن التقسيم في سوريا، فإننا نتكلم أيضاً على تقسيمٍ في العراق، ولذلك تأثير مباشر في شبه الجزيرة العربية. لا أظنّ أن الأميركيين يريدون ذلك. هم يريدون أن يستبدلوا بالنظام الحالي في دمشق نظاماً يناسب مصالحهم. أما العراق بوضعه الحالي، فهو بالمناسبة اختراع غربي، والقوى الغربية التي أنشأته لم تعد مهتمة بالحفاظ عليه، فتركت مسألة تماسكه لأهله. والكرد مشكلة حقيقية: هم جادّون في مطالبتهم بالاستقلال. وبغض النظر عن أحقية هذا المطلب، فإنّ الوضع اليوم يُظهر أن الكرد وضعوا قاعدة للدولة على الأرض، ما يمثّل صعوبة في منع قيام دولتهم. وللحقيقة، فإن للكرد الحق في إقامة دولة لهم تمثل قوميتهم. على العموم، فإذا سمح لهم العرب بإقامة هذه الدولة، فسيقاومها الإيرانيون والأتراك».
تركت مقعدي مقترباً من مصطفى ناصر، ثم سحبت كرسياً لأجلس بينهما، وأطرح على هيكل سؤالاً، فلاحظت أنه توقَّف عن تناول الطعام، وركَّز اهتمامه في المدى البحري وهو ينفث دخان سيجاره. قطعت تأمله لأسأله: «ماذا يعني لك البحر الأبيض المتوسط»؟
نظر إليّ مرخياً سيجاره، ثم قال: «إنت بتقرا أفكاري»؟
«لا أبداً»، جاوبته بقليل من الخجل، لينقذ مصطفى ناصر الموقف قائلاً «طارق كده يا ريس، بس يشوف ثغرة في الفكرة يهجم عليها»، فزادني بذلك خجلاً. لكن الأستاذ طلال أصرَّ، وهو يجلس في الطرف الآخر من هيكل، على السؤال، وأصر على الجواب من هيكل، فقال هيكل: «البحر الأبيض المتوسط ملتقى العالم والحضارات، أنا أسميه مائدة البحر الأبيض، فهو أكثر من جغرافيا، متميز عن التضاريس المائية الأخرى.. إنَّ له قدسية المكان والزمان».

إقرأ على موقع 180  طلال سلمان يروي حكاية "السفير" وسيرتها مع ليبيا

الخوف من إيران

ثم استدرك هيكل متوجّهاً إليّ بالقول: «السعودية ودول الخليج لديها مشكلة مع المستقبل. هي أضعف من أن تشاغب في ما يخصّ الاتفاق النووي. ويمكنها أن تشكو إلى الأميركيين وتعاتب. والاتفاق خيانة لها. علينا أن ننتظر تصرفات هذه الدول لا مواقفها المعلنة. كلها تتساوى في الخوف من إيران».
«الخوف من إيران النووية؟»، سألت مقتحماً.
«شوف، إنَّ أية دولة تنجز دورة تخصيب يورانيوم لديها القدرة على صناعة القنبلة خلال ستة أشهر. إيران اليوم، من خلال الاتفاقية، تعهدت عدم تطوير السلاح، لكنها تملك المعرفة. إن دولاً مثل الإمارات وقطر تحاول في محطات معينة أن تمول وتدعم التكنولوجيا. لكنْ، يبقى الفرق بين أن تشتري التكنولوجيا وتستخدمها من دون القدرة على استيعابها» (…).
توجّه حسين أيوب إلى هيكل بسؤال، في الوقت الذي كان فيه أحمد سلمان يقترب من هيكل بهاتفه ليسجل الحديث،عن دور العقل في السياسة العربية، وعن مصير هذه المنطقة من العالم، وما شاع فيها، من إرهاب وقتل وعنف وعنصرية، تمظهرت كلُّها في ما سُمّي «داعش» وما رافقها من حروب سياسية بالوكالة.
هنا، أطلق هيكل تنهيدة طويلة، كأنه يزفر منها سلبية ما أصبحنا نشاهده على التلفاز، ثم قال: «لا أعرف متى تنتهي مصائب العرب، بسبب غياب مصر عن أداء دورها الطبيعي في الإقليم. السعودية تغرق في مستنقع اليمن. عندما تدخّل عبد الناصر كان يساعد حركة تحرّر، وليس لديه حدود مباشرة معها. بس السعودية ليها. مش حتدخل السعودية إلى قلب اليمن، حيكمّلوا الضرب من الخارج. الأساس غياب دور مصر».
«يعني في خوف على مصر؟»، سألت هيكل.
أجاب: «لا، لا. لا خوف على مصر. داعش لن تتمكن من أن تعيش في مصر. طبيعة مصر وأرضها مختلفتان. داعش لا يمكن أن تنجح في مصر، هناك جماعات إرهابية موازية لداعش، لكن التنظيم عينه لم يصل إلى هنا».
أردفت: «وماذا عن الإخوان؟».

هيكل: قتال حزب اللَّه هو دفاع عن النفس، لا إثبات نفوذ، هذا مهم في الاستراتيجيا. هو مستهدف. ومن يُرِد ضرب إيران، فإنه يحاول أن يقصّ أجنحتها في كل مكان

التقط هيكل سيجاره، ثم أخذ نفَساً طويلاً منه، وقال: «الإخوان نجحوا على أنهم حركة محلية. أمّا البغدادي وداعش فلا أحد يقبل بهما في مصر، فيما البنّا يمكن قبوله. هنا قوة الإخوان. قوتهم أنهم نشأوا على أرض مصر، وأنهم ورثوا التنظيمات الصوفية. وهم معروفون بنفوذهم. كان حسن البنا في الأساس صوفياً. هو استخدم البنية التحتية للصوفيين. في مكتبي، عندما كنت في جريدة أخبار اليوم، سلّمني البنا بيانه الذي ذكر فيه أن المتطرفين في التنظيم ليسوا من الإخوان وليسوا مسلمين. التأثر بالصوفية واضح، وهو ما جعل حركة الإخوان تتجذّر. مصر لديها عشق حقيقي للدين؛ ولديها يسار حقيقي أيضاً».
سألناه جميعاً: «يعني متى تنتهي هذه الفوضى في العالم العربي؟»، فحدّد ناصر السؤال قائلاً: «كم سنة ينبغي أن ننتظر حتى يصبح لدينا نظام إقليمي؟».
أجاب هيكل: «أووه، نحتاج مش أقل من 12 الى 15 سنة»، وهو يهز برأسه.

الفراغ العربي

اخترق السيد صبحي الحوار مرة ثانية مقدّماً الشاهي والقهوة، وهي مشروبات كنا في أمسّ الحاجة إليها بعد تلك الوليمة الفاخرة، لمتابعة الأستاذ هيكل الذي استمر في تدفقه بكل سلاسة:
«لقد دخل العالم العربي كله في الفراغ. هناك مشروع وفكرة قد انهارا، ومعهما انهارت قوى إقليمية. وحتى الآن، لم تظهر قوة بديلة أو مشروع أو حتى فكرة بديلة. ولطرح كل ذلك، يجب توافر الصدقية، صدقية القبول، التي لا يملكها أحد اليوم في العالم العربي. الصدقية تائهة، وليس لدى أحد تشخيص حقيقي للمنطقة، ولا لأحوال العالم».
سأل النائب هاشم: «وحركة الدول وزعمائها وعقولهم؟».
فأجاب هيكل: «الدول هي التي تصنع عقول الحكام، لا العكس، لأنّ المجتمعات هي التي تملك التأثير. انظر إلى ألمانيا، لقد كان وضعها أسوأ منا: قُسّمت ودُمرت بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن لدى شعبها نواة الإرادة المستقلة. مشكلتنا في العالم العربي أنك لا تجد بين المسؤولين من لديه الإرادة لصنع تاريخه. خذ مثالاً المنطقة الأغنى، الخليج، والمنطقة الأهم مصر، والشام تعاني الحروب، والمغرب العربي غارق في مشاكله، وضجران من المشرق العربي».
سأل حسين أيوب مستفسراً: «وإسرائيل، أتشاركنا المستقبل عينه؟».
ابتسم هيكل ابتسامته الصفراء المعروفة، موحياً أنه عرف مغزى السؤال، وأجاب: «بُص، المرحلة التي يبدأ فيها العدّ التنازلي لإسرائيل هي عندما يكون للعرب خطة، ويكون هناك عالم عربي قوي. اليوم، إسرائيل مهيمنة على المنطقة كلها، وهي لا تتأثر بنا. والأميركي لا يزال يحميها مباشرة. كانت إسرائيل تراهن على صِدامٍ أميركي إيراني، لكنها فشلت عند توقيع الاتفاق النووي. هذا حجم تأثير الاتفاق فيها».
مصر مأزومة
خلع طلال سلمان جاكيت بدلته، وأرخى ربطة عنقه التي تدلت حتى لامست المقعد الذي يجلس عليه، بجانب هيكل، وبصوته المتهدج، ويديه اللتين تعوّضان قليلاً من ضعف صوته، سأل: «ومصر يا أستاذ، مصر العرب إيه مصيرها؟».
التفت هيكل إلى يمينه حيث يجلس طلال ليجيب: «مصر ماشية، هي تمشي الى مستقبل ما. في اقتصاد مأزوم وتعبان جداً. والتعليم موجود ومش سيئ كما يقال. أنا أخشى من الأحكام المطلقة. التعليم الخصوصي موجود، لكنه متوافر لطبقة معينة. علينا في مصر التوجه نحو التعليم المهني، مثل الصناعة والتجارة والسياحة والخدمات. عليك اليوم أن تخلق وظيفتك، فقد استفدنا من الوظائف العامة. لازم نسلّم بأن مصر تعاني أزمة في حجمها في مرحلة الانتقال. المشكلة أنك أمام بلد لا يزال يدّعي أنه كويس ومش مفلس» (…).
كان الحديث يدور حول التناقضات الداخلية التي تزداد في أميركا، وكيف أنّ واشنطن تحاول لملمة انتشارها العالمي. كان الكلام لطلال سلمان، لكنّ هيكل شرح كيف أن ذلك لن يحدث.
«المصالح لا تسمح لأحد بالانسحاب، وأميركا لم تعد قادرة على الانسحاب. تجارة أميركا ومواردها هي في العالم الخارجي. لا يمكن أن تخرج أميركا من عندك، ومن عند غيرك، إذا لم تكن لديك الإرادة. إيران لديها إرادة واحدة، أمّا العالم العربي فله إرادات متعدّدة. على مستوى الأفكار والثقافة، فإنّ النموذج الأوروبي العلماني مثلاً، والفرنسي تحديداً، هو الأقدر على التأثير من الأميركي والروسي، لأنه نموذج ثقافي أولاً، واقتصادي ثانياً… إنه البحر الأبيض المتوسط».
استمر الحديث عن النموذج والمشاريع السياسية، لينتقل إلى تركيا، فيصفها هيكل بأنها المأدبة المتوسطية والأوروبية والأردوغانية، ويؤكّد أن أردوغان يعبّر عن طبيعته، فطبعه ليس تركياً عثمانياً. ثمَّ إن العرب ظلموا الأتراك، لأنهم في تقدير هيكل أدّوا دوراً مهماً في حماية الإسلام وأرض الإسلام بعد انهيار العصر المملوكي.
وأشار هيكل إلى أنّ محمد علي باشا والي مصر من داخل الإسلام كان فريداً في بابه. ثم وصل به التحليل إلى موقف أميركا ممّا يحدث بخصوص الاتفاق النووي، لافتاً إلى أنهما، يقصد أميركا وإيران، لا يمكن أن تتجاهل إحداهما الأخرى، وأنّ قدراً من التطبيع جيد، مذكّراً ومحذّرا من أن هناك قدراً كبيراً من التناقضات بينهما، ليشيد بالتجربة الكوبية لتحرّرها من التبعية لواشنطن.

هيكل: المرحلة التي يبدأ فيها العدّ التنازلي لإسرائيل هي عندما يكون للعرب خطة، ويكون هناك عالم عربي قوي. اليوم، إسرائيل مهيمنة على المنطقة كلها

ماذا عن فلسطين؟

مرّ الحوار أمامنا جميعاً، وبدت آثاره على وجوهنا كلنا. ولوهلة، تذكّرت أننا لم نتطرّق إلى كل المواضيع، فتنطّحت قافزاً فوق الجميع، متوجّهاً إلى هيكل: «ماذا عن فلسطين؟ لم نتكلم عليها!».
ابتسم طلال سلمان ومعه هيكل وقد أدركا أن فلسطين لم تكن حاضرة في حوارنا، ولعلها لم تعد القضية المركزية في منطقتنا. لكنّ هيكل أجاب: «فلسطين تجسّد تردي الواقع العربي. وللطرافة، فقد ذهبت مرَّة مع أحمد بهاء الدين للقاء ياسر عرفات (أبو عمار)، يوم كان في تونس، وكان معنا إدوارد سعيد كونه الخبير في المجتمع الإسرائيلي. طلب أبو عمار منا زيارة محمود عباس (أبو مازن)، فذهبنا اليه. حاول أبو مازن أن يقنعنا وبحماسة مفرطة بأنّ في المجتمع الإسرائيلي تنوعاً، وأنه ليس كتلة صماء، بل إنه يمكن النفاذ من هذه الكتل، فأصابتنا الدهشة مما سمعنا».
بعدها ساد صمت لعدة ثوان، في إشارة الى أن الجميع أصبح منهكاً، فقد استمر الحوار لأكثر من ستّ ساعات (…). توجهت إلى الأستاذ هيكل: «هل أميركا هي أعظم إمبراطورية في العالم؟».
ومن حيث لا أدري، تحوّل سؤالي إلى خاتمة غنية للحوار. فانطلق هيكل مجيباً: «لا، لا، لا. أبداً. إنكلترا أولاً ثم روما ثم أميركا، في النفوذ والاقتصاد. بريطانيا وافق زمنها عصرها، فقد نشأت في وقت مثالي، فترة التجارة والصناعة والبحر. أميركا قوية جداً، لكن هذا كلام ساكت كما يقال. ولكل إمبراطورية نهاية بالسيطرة لا بالنفوذ. وليس بالضرورة أن تبقى بالقواعد والجغرافيا. والإمبراطورية البريطانية باقية باللغة، باقية بقوة اللغة ما دامت اللغة الإنكليزية باقية. الإنكليزية صارت لغة التكنولوجيا، وهذا من حظهم. الوعاء لكل حاجة هو اللغة. ومن حظ الإنكليز أن الثورة التكنولوجية قد منعت سقوطهم، فالإنكليزية هي اللغة المعتمدة في وسائل التواصل والتقنيات والإعلام. قلت لمارغريت تاتشر مرّة: أنتم فقدتم إمبراطورية في الجغرافيا، لكنكم وجدتم إمبراطورية في اللغة. فقالت لي: ما أصحّ هذا الكلام!» (…).

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عملية فردان بلسان جاسوسة "الموساد": "كان عرضاً تُرفع له القبعات" (29)