أذكر في يوم أحدٍ من شهر ماي/أيار 2011، أنه لما وصلت مسيرة “حركة 20 فبراير” (المنبثقة عن ثورات الربيع العربي)، أمام مبنى بنك المغرب في الدار البيضاء، عند مدخل زنقة الشهيد إدريس الحريزي، توقفت المسيرة بعض الوقت لتتيح للشباب قراءة بيان الحركة وعرض شعاراتها ومطالبها الأساسية، والأكثر من ذلك، توضيح من هم متزعمو المسيرة الفعليين. وكانوا مزيجاً من اليسار، ومن إسلاميي جماعة العدل والإحسان شبه المحظورة، وبعض المستقلين، لكن لهجتهم كانت يسارية واضحة.
بدوري، وقفت تحت أشعة الشمس اللافحة، ورميت بصري جهة البوابة الحديدية الكبرى لبنك الدولة، حيث تقف سيارة صغيرة من نوع “هوندا” تستخدم في نقل البضائع الخفيفة. كان أكثر من شاب يعتلون مقدمة السيارة، بأيديهم أبواق “ميغافون” ويلتحفون بالكوفية المرقطة بالأبيض والأسود، وبراية فلسطين وعلم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ترفرف حواليهم ألوية سوداء لـ “حركة 20 فبراير”، والراية الأمازيغية الملونة. لما التفت وجدت صديقي نور الدين خمالي واقفاً جانبي، عانقني بحرارة وببشاشته المعهودة. هذا إنسان ودود لا تفارق البسمة محياه، متأهب باستمرار لتوزيع المحبة وتقديم المساعدة.
كانت درجة الحرارة مرتفعة، لذلك استأذنني نور الدين بالجلوس. ثم رأيته يفترش اسفلت الشارع. كنت أعرف أنه يعاني من مرض، لكني لم أكن أعرف أنه سيكون اللقاء الأخير، وأنها الكلمات الأخيرة، إذ لم تمر أسابيع قليلة حتى وصلني نعيه.
مر خمالي بعذابات المعتقل السري في درب مولاي الشريف (الدار البيضاء)، ضمن أفواج معتقلي اليسار الجديد، فاكتوى بلظى سنوات الرصاص، لكنه ظل مناضلاً منذ يفاعته في مدينته الجبلية وزّان، قابضاً على الجمر ولم يبدل تبديلا.
احتفال دون كيشوتي
في الذكرى الأربعينية لرحيل نور الدين خمالي حضرنا حفلاً تأبينياً من تنظيم الأصدقاء والرفاق، احتضنه المركب الثقافي لسيدي بليوط.
وبعد مرور سنة على وفاة نور الدين، أخبرني الرفيق رؤوف فلاح بأن مجموعة من الأصدقاء سيذهبون في الموعد إلى وسط المدينة لإحياء الذكرى. كان المكان حانة “دون كيشوت”، وقد اعتاد نور الدين أن يتسلى فيها برفقة جعته. هكذا اتجهنا في يوم الأول من شهر يونيو/حزيران 2012 إلى “دون كيشوت”. كنا حوالي عشرة أنفار، وبيننا أرملة المرحوم المثقفة نزهة براضة، ولها مؤلف عن “الأنثى في فكر ابن عربي”، صادر عن “دار الساقي” بلندن.
ولأن الوقت كان نهاراً، بعد الظهيرة مباشرة، فقد وجدنا الحانة شبه خالية. تفرقنا على الطاولات، وطلبنا “الفلاغ سبيسيال” و”الهينيكن”. لا أثر بادٍ لمناسبة تأبينية، بل جلسنا جلسة استمتاع وسلوان، نحاول التقاط بعض أنفاس صديقنا الراحل وكلماته وابتسامته الجميلة. جرّتنا الأحاديث إلى مواضيع مختلفة. كما لو كنا بانتظار أن يطل علينا رفيقنا نور الدين بين فينة وأخرى. وقررنا الالتزام بوصيته أن لا نحزن وأن لا تدمع عيوننا على فراقه. وهكذا كان.
ثم جاء بضعة زبائن آخرين إلى المكان القليل الإضاءة. لم يتردد أحدهم في الجلوس بقربنا وإعلان فضوله. كانت به رغبة في الكلام وكسر عزلته. وسنكتشف أنه سائح من تونس، وأنه شاب مثقف، بل إنه يساري معارض لنظام زين الهاربين أو العابدين المخلوع. فانتقل بنا الحديث إلى اليسار التونسي، حيث أضاء لنا بعض العتمات المتصلة بما حدث ويحدث في تونس بعد ثورة الياسمين.
لقاء مع بن جعفر في الكورنيش
كانت أول مرة أسمع فيها باسم المناضل شكري بلعيد، وإن كنت أعرف من قبل حمّة الهمامي الذي التقيت به لما حضر المؤتمر الوطني الثاني للنهج الديمقراطي، وكان أهداني بعض الوثائق مع كتابه “مطارحات حول قضية المرأة”. وقبلها التقيت بمحمد حرمل (1929-2011) أحد القادة التاريخيين للحزب الشيوعي التونسي والأمين العام لحركة التجديد، حين هرع إلى زنقة الفراشات بحي الوزيس بالدار البيضاء معزياً في وفاة الزعيم علي يعتة.
كما سبق أن قدمت لي صديقة مشتركة الدكتور مصطفى بن جعفر (الصورة أعلاه) في مقهى فرنسا بساحة الأمم المتحدة، وهو رئيس حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، المنشق عن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة محمد مواعدة. أذكر أن بن جعفر رغب في زيارة الكورنيش فذهبنا إلى مقهى بشاطئ عين الدياب يطل على أمواج المحيط الأطلسي.
أخبرني بن جعفر أن لديه موعد عشاء تلك الليلة مع رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان المحامي عبد الله الولادي. وفي سياق الكلام أخبرته بموضوع كتاب كان حديث الصدور، من توقيع أحمد البخاري، عميل جهاز المخابرات “الكاب وان” المتورط في اختطاف الزعيم المغربي المهدي بنبركة وجرائم اغتيالات غيرها. تعمدت أن أطلع بن جعفر على بعض ما تضمنه الكتاب من أسرار تخص تونس ورئيسها وقتها الجنرال زين العابدين بن علي، منها ارتباطاته بالمخابرات الأمريكية المركزية “السي آي إيه”، لما كان بن علي ملحقا عسكريا في سفارة تونس في بولونيا. وأشرت إلى ما جاء في الكتاب حول عبد الله الولادي نفسه، الذي كان بن جعفر ملتزما بالعشاء معه، ومزاعم أحمد البخاري حول تعاون الاتحادي الولادي مع المخابرات المغربية.
تحمس مصطفى بن جعفر كثيراً لقراءة الكتاب الذي كان متاحاً في الأكشاك والمكتبات في أصله بالفرنسية وأيضا بترجمة عربية صادرة عن دار نشر “افريقيا للشرق” بالدار البيضاء لصاحبها اللبناني كميل حب الله. قال لي بن جعفر لولا اقتراب موعد سفره في الصباح الموالي لقام باقتناء الكتاب والتهم صفحاته في غرفته بالفندق، إذ لم يكن واردا لديه على الإطلاق التفكير في حمل الكتاب معه ضمن حقيبة سفره إلى تونس.
فجأة أخبرني أنه ألغى التزامه بالذهاب إلى موعد العشاء مع عبد الله الولادي، مفضلاً البقاء بعين الدياب، فأكملنا سهرتنا هناك حتى دنو منتصف الليل. ولما أوصلنا بن جعفر بسيارة الصديقة المشتركة إلى فندق “المونية” بشارع باريس، شاهدتُ عبد الله الولادي أمام باب الفندق ينتظر مع بعض أعضاء المنظمة.. ولا أعرف كيف يكون بن جعفر قد قدم اعتذاره للولادي ومن معه.
لم تكن الهواتف الذكية المزودة بكاميرات قد انتشرت بعد، ولا كانت معنا آلة تصوير لتخليد ذلك اللقاء، لكن مصطفى بن جعفر أهداني صورة هوية له، لا زلت أحتفظ بها. ولما حدثت الثورة وهرب بن علي، أصبح بن جعفر رئيسا للمجلس الوطني التأسيسي في 2011، وترشح لمنصب رئاسة الجمهورية في انتخابات 2014.
شكري بلعيد في الدار البيضاء
بعد اغتيال شكري بلعيد تذكرت أنه كان في المغرب قبل أسابيع قليلة جداً على مقتله. فقد تم استدعاء رئيس الجبهة الشعبية في تونس إلى المؤتمر الوطني لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي. لم يكن بلعيد على صلة بالحزب الذي تأسس سنة 2002 بعد الانشقاق عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على يد محمد نوبير الأموي زعيم المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. بل كانت الأستاذة ثريا لحرش القيادية بالكونفدرالية وبالمؤتمرالاتحادي هي من اقترحت استضافته، وكانت في إحدى زياراتها القريبة إلى تونس شاركت كنقابية في أعمال المنتدى الاجتماعي العالمي، فتعرفت على شكري بلعيد، حسب ما أبلغني عبد السلام العزيز الأمين العام للمؤتمر الوطني الاتحادي.
ألقى شكري بلعيد كلمة في المؤتمرين بمسرح محمد السادس بروش نوار في الدار البيضاء، وأتيحت له الفرصة على هامش المؤتمر لتبادل النقاش مع عدد من أعضاء الحزب وبالأخص الشباب منهم في بلدة بوزنيقة التي توبعت بالمركب الدولي “مولاي رشيد” أطوار المؤتمر. كما حل بلعيد ضيفاً على بيت أحد المناضلين، حيث تناول طبق “الكسكس” المتنازع حول نسبه بين الأقطار المغاربية، والمعروف أن طبق “الكسكس” التونسي ليس هو المغربي ولا الجزائري. وتلك حكاية أخرى أنهتها منظمة “اليونسكو” بسلام، بنسب الطبق إلى كل المغارب.
لكن شكري بلعيد سيتخلص من مضيفيه في المؤتمر الوطني الاتحادي ليلتقي برفاقه الأقربين في حزب النهج الديمقراطي، إذ هم الأنسب إليه إيديولوجياً وسياسياً وتاريخياً. هكذا قضى سهرة عشاء في “مطعم الميناء” المشهور بوجبات السمك، مع مصطفى لبراهمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي ومومن الشباري عضو الكتابة الوطنية للنهج، وكان برفقتهم مناضلَيْن ماركسيين عربيين اثنين، أحدهما من البحرين.
بعد اغتيال شكري بلعيد التقيت بصديقي الراحل مومن الشباري في مقهى “الشانزيليزيه” وسط ساحة مرس السلطان، وكان معنا محازبه عبد المجيد الراضي، فحكى لي مومن عن وقائع ذلك “العشاء الأخير”. كانت ليلة ممتعة مع أطباق الأسماك المتنوعة والشهية والنبيذ المغربي. ولم يكن حديث السهرة سياسيا فقط، بل سادته أجواء من الضحك والحبور. كان شكري بلعيد مرحاً وظهر عفوياً وصاحب نكتة. وفي إحدى لحظات السهرة توجه شكري إلى رفيقه البحريني وحذره ممازحا أنه إذا نجا من الاعتقال عند وصوله إلى المطار فقد لا يفلت من الموت بعد عودته إلى المنامة. وتذكر الجميع أن رفيقا يساريا بحرينيا كان قد وقع قبل أعوام مريضا في المغرب بعد إفراطه في تناول الوجبات الدسمة المشهورة في المطبخ المغربي، فنقل إلى المستشفى وبعدها إلى البحرين، ولا أذكر الآن، فربما يكون قد توفي إثرها.
بعد “مطعم الميناء” انتقلت الجماعة إلى ساحة مرس السلطان، (“مثلث بيرمودا” كما يسمونه)، لاستكمال السهر في “براسري لاكونكورد”. وكان عازف عود ماهر ينشط السهرة بعزفه وبغنائه من ريبيرتوار أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، يغني للساهرين والشاربين الذين ينكبون على المكان بعد الحادية عشرة ليلا، وهو موعد إقفال الحانات ليترك المجال للمطاعم التي تبقى حتى الواحدة ليلا، والكباريهات حتى الثالثة فجرا. لما أطل شكري بلعيد على فضاء “لاكونكورد”، وشاهد جلبته الصاخبة وأدخنته المتعالية، تراجع بسرعة واعتذر للأصدقاء، ثم ركب تاكسي باتجاه فندق “إيبيس” القريب من ضريح سيدي بليوط. حيث كان يسكن غرفة في الطابق السابع تطل على الميناء وعلى محطة القطار.
في الصباح المبكر اتجه بلعيد إلى مطار محمد الخامس عائدا إلى تونس العاصمة، ومنها سافر مباشرة إلى مدينة سليانة (جنوبي غربي تونس)، التي عرفت أيامها أحداث عنف وصدامات سقط فيها حوالي 300 جريح بعدما أطلقت قوات الأمن الرصاص الحي ضد المتظاهرين.
لقد صرخت في عروقنا الدماء
نُظّم استقبال حاشد في مدينة سليانة لشكري بلعيد العائد من المغرب، حيث تناول الكلمة وندد بقمع السلطة وإرهاب الإسلاميين من حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي، وكان بلعيد في الليلة التي سبقت مقتله كرر توجيه الاتهام إلى حركة النهضة بسعيها إلى التشريع للاغتيال السياسي.
لم يكن شكري بلعيد يدري أن الموت أسرع في تونس منه في المنامة، وأن الغدر يلاحقه وبانتظاره هو ما غيره، وأن الدار البيضاء ستكون آخر سفرة له خارج تونس. فمن أمام منزله بالمنزه، لما رفع بلعيد رأسه وتطلع في وجه الشخص الذي طرق بأصابعه نافذة سيارته، أنزل شكري زجاج النافذة ليتلقى رصاصات الغدر القاتلة وهو خلف مقود سيارته، اخترق الرصاص رأسه ورقبته وصدره. صادف ذلك اليوم المشؤوم تاريخ السادس من فبراير/شباط 2013.
لم ينس المغاربة شكري بلعيد، اجتمعوا بساحة محمد الخامس في الدار البيضاء قبالة النافورة، وأشعلوا الشموع وهتفوا منددين بالاغتيال السياسي وبالإرهاب الظلامي، وأنشدوا النشيد التونسي: “يا حماة الحمى. هلموا لمجد الزمن. لقد صرخت في عروقنا الدماء. نموت ويحيا الوطن”.
سيظل شكري بلعيد وكل شهداء الحرية أحياء في قلب الوطن وفي التاريخ والآتي من المستقبل.