كتب محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة “هآرتس” الإسرائيليّة، يوسي ميلمان، أن العلاقات السريّة تعود إلى ما قبل استقلال السودان، وقدم سرداً تاريخياً أشار فيه إلى أن العلاقات كانت في بداياتها نفعيّة بين إسرائيل وبين حزب الأمة برئاسة الصديق المهدي (والد رئيس الحزب الحالي الصادق المهدي)، قبل أن تتحول إلى علاقة بين مؤسسات رسميّة في زمن الرئيس الراحل جعفر نميري (توفي في العام 2009)، واستمرت بوتيرة متفاوتة في عهد الرئيس المخلوع، عمر حسن البشير الموجود قيد الإعتقال حالياً.
وفق يوسي ميلمان، تعود العلاقات إلى خمسينيات القرن الماضي، بمبادرة من “حزب الأمة”، الذي تزعمه الصديق المهدي، الساعي إلى علاقات مع تل أبيب لكي تساعده في مواجهة ضغط الأحزاب الاتحادية التي تنادي بالوحدة مع مصر بزعامة جمال عبد الناصر، فقد نادى حزب الأمة بالاستقلال التام للسودان عن مصر وبريطانيا بمساعدة إسرائيلية، وكان ذلك تمهيدا للقاء سري عقد في لندن في العام 1956، بين الصديق المهدي، وبين عدد من المسؤولين في السفارة الإسرائيلية في العاصمة البريطانية.
وكشف يوسي ميلمان وثيقة داخلية إسرائيلية، وهي رسالة من السفارة الإسرائيلية في لندن إلى الخارجية الإسرائيلية، شرحت تفاصيل عملية التواصل بينها وبين حزب الأمة، وعن خطة إسرائيلية لدعوة ممثلين للحزب لزيارة إسرائيل وتقديم الدعم المالي له.
وأورد ميلمان أن “شهر العسل في العلاقات بين البلدين انقطع مع انقلاب الجنرال إبراهيم عبود في العام 1958، ليصبح السودان، وبسبب النفوذ الناصري آنذاك، من أعداء إسرائيل إلى الحد الذي أعلن الحرب ضدها، وشارك بقوات في حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967، وخلال العقد الذي تلا تلك الحرب لم تكن هناك أي علاقات ولا اتصالات، سواء كانت سرية أم علنية”.
وفي هذه المرحلة، يشير ميلمان إلى أن إسرائيل وعلى قاعدة “عدو عدوي صديقي”، دعمت التمرد الذي كان يقوده الجنرال جوزيف لاقو في جنوبي السودان، عسكريا وماليا، خلال ستينيات القرن المنصرم وحتى العام 1972.
إتخذت العلاقات منحى جديدا مع الرئيس جعفر نميري ورئيس جهاز أمنه، عمر محمد الطيب، خلال الأعوام 1977 – 1980، عندما سهلا هجرة اليهود الأثيوبيين (الفالاشا) إلى إسرائيل، إذ دفعت إحدى المنظمات اليهودية في أميركا 30 مليون دولار إلى جعفر النميري لتسهيل عملية هجرة هؤلاء إلى إسرائيل.
وبحسب يوسي ميلمان، إجتمع نميري سرًا في العام 1981، بوزير الأمن الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، في كينيا، بمساعدة من رجل الأعمال الإسرائيلي يعكوف نمرودي (تاجر سلاح ورجل استخبارات، من أصول عراقية)، ورجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي، والمسؤول في جهاز “الموساد” دايفيد كيمحي.
وبحسب ميلمان، اتفق شارون ونميري على تحويل السودان إلى مخزن للأسلحة التي ستستخدم للإطاحة بنظام آية الله الخميني في إيران وتنصيب ابن الشاه حاكمًا جديدًا لها، ولدعم المتمردين في تشاد لتنصيب حكومة صديقة لإسرائيل، والتي كانت تسعى إلى السيطرة على اليورانيوم هناك.
وخلال فترة حكم الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، وتحديدا بين العامين 1990 و1996، استضاف السودان تنظيم “القاعدة” على أراضيه، وأسس علاقات قوية مع إيران، وحول أراضيه إلى ممر للأسلحة التي كان ينقلها فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إلى الفصائل الفلسطينية في قطاع في غزة.
ويضيف ميلمان أنه منذ العام 2009 وحتى الإطاحة بنظام البشير، شن سلاح الجو الإسرائيلي العديد من الاعتداءات في الأراضي السودانية، ضد ما زعم أنها “شحنات أسلحة إيرانية في طريقها إلى غزة”، وبعد إعلان المحكمة الجنائية الدولية أن البشير وبعض أركان نظامه مطلوبون بسبب تهم بارتكاب جرائم، تراجعت علاقة البشير بإيران، وبدأ يتقرب للسعودية ويغازل إسرائيل بهدف التأثير على الإدارة الأميركية عبر اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، لتخليصه من الملاحقة القضائية الدولية، في مقابل إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل. ويقول ميلمان إن البشير أرسل قبل سقوط حكمه بفترة وجيزة رئيس جهاز أمنه، اللواء صلاح قوش، للقاء رئيس “الموساد” يوسي كوهين، لكن الثورة على حكم البشير قطعت ذلك التواصل.
ومع خلع البشير رأت تل أبيب أن الظروف باتت مهيأة لإحياء العلاقات بين البلدين، لذلك، جدد نتنياهو مسعاه لتحويل السودان إلى “دولة عربية سنية إقليمية صديقة لإسرائيل”، على حد تعبير ميلمان، مشيرا إلى أن تل أبيب قدمت في البداية طلبا “فوريا صغيرا وعاديا”، وهو السماح للطائرات الإسرائيلية بالعبور في الأجواء السودانية.
“يسرائيل هيوم”: ستشكل العلاقات مع السودان تغييراً ذا دلالة استراتيجية في الشرق الأوسط وأفريقيا، وستساعد في حل مشكلة المهاجرين غير الشرعيين، وتفتح أمام السياح الإسرائيليين باباً لزيارة ذخائر السودان التاريخية في كوش والنوبة العتيقتين والأهرامات الفرعونية
وكتب إلداد بك المراسل السياسي لموقع “يسرائيل هيوم” تقريراً حول الموضوع نفسه “العلاقات مع السودان ستشكل تغييراً ذا دلالة استراتيجية في الشرق الأوسط وأفريقيا”، وأشار فيه إلى أنه قام قبل سنتين، بنشر سلسلة تحقيقات في “يسرائيل هيوم” عن رحلة قام بها إلى السودان، لاقت إعجاب مواطنين سودانيين على حد تعبيره، وأن عددا من هؤلاء أعادوا الإتصال به هذا الأسبوع، بعد لقاء نتنياهو والبرهان.
يقول المحلل الإسرائيلي إلداد بك إن هذه الدولة العربية الأفريقية “اعتُبرت زمناً طويلاً جداً معقل مقاومة لإسرائيل ومركز الإرهاب الإسلامي الدولي. وعندما وصلتُ إلى الخرطوم (قبل سنتين) كان بوسع المرء، منذ ذلك الوقت، أن يشعر برياح معينة من التغيير وجدت تعبيرها بقوة أكبر في الثورة الشعبية ضد البشير الذي يقدَّم اليوم إلى المحاكمة، وكذلك في الجرأة التي أبداها البرهان حين وافق على اللقاء بنتنياهو ونشر ذلك على الملأ”.
يضيف :”منذ رحلتي إلى السودان، كانت مسألة التطبيع مع إسرائيل مطروحة على بساط البحث بصورة منفتحة للغاية، سواء في وسائل الإعلام المحلية أو في تصريحات بعض كبار مسؤولي النظام. وكان ثمة فهم بأن يد إسرائيل الممدودة من شأنها أن تساعد الدولة الحافلة بالنزاعات الداخلية وذات الاقتصاد المنهار بعد عشرات السنوات من العقوبات الدولية، وجرى البدء بإعداد الرأي العام لمثل هذا الإمكان”.
وإعتبر أن فك السودان ارتباطه بإيران وتقاربه، في المقابل، مع مصر والسعودية والإمارات والذي وجد تعبيره أيضاً في المشاركة في حرب اليمن، “تسبّب أيضاً بفك الارتباط بسياسة اللاءات الثلاثة الشهيرة (لا صلح ولا تفاوض ولا إعتراف) التي تبنتها الجامعة العربية في الخرطوم بعد حرب الأيام الستة (حرب حزيران/يونيو 1967). ويمكن القول إنه بخلاف الفلسطينيين، كان ثمة من استخلص الدروس في الخرطوم، وأعاد احتساب المسار”.
ويختم إلداد بك مقالته بالقول “السودان يمكن أن يكسب كثيراً من التعاون مع إسرائيل. ومعروف أن هذه الأخيرة ساهمت في رفع العقوبات الأميركية عن السودان. وستشكل العلاقات مع السودان تغييراً ذا دلالة استراتيجية في الشرق الأوسط وأفريقيا، وستساعد في حل مشكلة المهاجرين غير الشرعيين، وتفتح أمام السياح الإسرائيليين باباً لزيارة ذخائر السودان التاريخية في كوش والنوبة العتيقتين والأهرامات الفرعونية الرائعة فيهما. صحيح أن الطريق إلى هناك ستستغرق، على ما يبدو، زمناً ما، لكن لا شك في أن هناك ما يمكن انتظاره”.