جاء انتصار المحافظين على حساب خسارة حزب العمال بقيادة جيرمي كوربن (70 سنة) المنتخب عن دائرة إزلينغتون الشماليّة في لندن بـ 59 مقعداً، أيّ حصوله على 203 مقاعد فقط، بعد أن كان يستحوذ على 262، بلّ إنّه خسر مناطق صوّت سكانها للمحافظين برغم أنّهم كانوا من العمال مثل مناطق ميدلاندز وشمال البلاد في إنجلترا، في أسوأ نتيجةٍ في تاريخ الحزب منذ العام 1935. فيما تحصّل الحزب الوطني الإسكتلندي على 55 مقعداً، في مفاجأةٍ اُعتبرت زلزالاً حقيقياً، فهذا الحزب الذي يقعُ في وسط اليسار وتقودهُ السيدة نيكولا ستارجن (منذ14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014)، والوزيرة الأولى لإسكتلندا (تولّت المنصب منذ 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014)، وعضوة مجلس العموم البريطاني، منذُ انتخابها سنة 1999، وأكثر شخصيّة فاعلة في الحزب القومي الإسكتلندي منذُ زعامة السيدة ويني إوينج بين عامي 1987 و2005. وأشدّ أعضاء الحزب دعوةً إلى الاستقلال عن بريطانيا بُعيد تسلّمها لقيادته إثر استقالة السيد أليكس سالموند بُعيد نتائج استفتاء استقلال إسكتلندا في 18 سبتمبر/أيلول 2014، والذي رفض فيه الناخبون استقلال إسكتلندا عن المملكة المتحدة بنسبة 55.42% مقابل نسبة 44.58 % كانت تؤيّد الاستقلال، أضاف إلى رصيده 20 مقعداً إضافياً عمّا حصل عليه في انتخابات 8 حزيران/يونيو .2017 ثم يأتي الديمقراطيون الأحرار بـ 13 مقعداً، يليهم حزب بليد سيمرو في ويلز بـ 3 مقاعد، فـحزب الخضر بمقعدٍ واحد، ولم يحصل حزب “بريكست” على شيء، مقابل فوز آخرين بـ 22 مقعداً، لهم مواقف متباينة من “بريكست”، وأغلب برامجهم تتضمن حلولاً مطلبيّة ذات طابع خدمي أكثر منها مطالب سياسيّة أو توجهات أيديولوجيّة.
وقال بوريس جونسون معلّقاً على هذا الفوز التاريخي منذ عهد مارغريت تاتشر سنة 1987:”هذا التفويض الجديد القوي، يمنح هذه الحكومة الجديدة فرصة احترام الإرادة الديموقراطيّة للشعب البريطاني”، ومخاطباً مصوتيّه بالقول: “لن أخذلكم”. كما وعد بتنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “في موعده” وهذا ما حصل في 31 يناير/كانون الثاني 2020، متعهداً بـ “زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم والشرطة”.
من جانبه، علّق جيرمي كوربن، حسب ما نشرته صحيفة “الإندبندنت” البريطانيّة، بأنّه يعتزم بأنّ “لا يقود الحزب خلال الانتخابات المقبلة. وفي تصريحها المثير، قالت روث سميث، نائب حزب العمال التي فقدت مقعدها في ميدلاندز “إنّ كوربين يجب أن يتحمّل المسؤولية عن هزيمة الحزب باستقالته منه”.
ومع ذلك، يعاني المحافظون من مشكلة لا تقلّ وجوديّةً عن رغبتهم الملحة في الخروج من الاتحاد الأوروبي، تمثلت في هزال وعائهم الانتخابي في إسكتلندا، إذ لم يحصدوا إلا 26% فقط من المقاعد المخصصة هناك، مقابل اكتساح الحزب القومي الإسكتلندي الدّاعي إلى الانفصال عن المملكة المتحدة، هذا الخيار الذي يعارضه المحافظون كثيراً لاسيما رئيسهم بوريس جونسون أكثر من معارضة حزب العمال له!
ثمّة عنصر أساس ذُكر على خجلٍ، وبحاجة إلى بعض الإضاءة، وهو “غموض” الموقف الرسمي لحزب العمال من بريكست، ربما أدّى إلى التصويت للمحافظين الذين قايضوا غموض العمال بوضوحهم حياله
لماذا أخفق حزب العمال؟
تناولت الكثير من الأقلام جملة الأخطاء التي وقع فيها جيرمي كوربن، أدّت في النهاية إلى تكبّد هذه الخسارة المدويّة، بداية من برنامجه الانتخابي الذي رآهُ البعض في بريطانيا بأنّه كلاسيكي وتجاوزه الزمن، وصولاً إلى ارتكازه على نفس الوعود التي لم يتحقّق منها شيء، وانتهاءً بما تمّ تسميتهُ بـ “الجدار الأحمر” في مدن “الفحم والفولاذ والتصنيع القديمة”، وما قيل عن إخفاق حزب العمال في إقناع الأثرياء في تلك المناطق بمواكبة الأنماط الجديدة.
لكنّ ثمّة عنصر أساس ذُكر على خجلٍ، وبحاجة إلى بعض الإضاءة، وهو “غموض” الموقف الرسمي لحزب العمال من بريكست، ربما أدّى إلى التصويت للمحافظين الذين قايضوا غموض العمال بوضوحهم حياله، ومواقفهم المكشوفة تجاه الاتفاق الذي أهرق الكثير من الحبر بينهما على وجه الخصوص، لا سيما جزئيّة احتفاظ صياديّ السمك الأوروبيين بحقهم المتّفق عليه، منذ ما قبل سريان الاتفاق وما بعده بإمكانيّة ولوجهم المياه الإقليميّة البريطانيّة، مع خضوع الصيادين البريطانيين لقوانين الصيد الأوروبيّة، على الأقل خلال الفترة الانتقاليّة.
وتُعد إسكتلندا التي عارضت الخروج من الاتحاد الأوروبي، من أكثر مناطق المملكة المتحدة غنىً بالثروة السمكيّة وأكثرها تنوّعا.
وبالتأكيد، لا ينسى الإسكتلنديون تهديد رئيس المجلس الأوروبي السيد فان رومبوي لهم قبل استفتاء الاستقلال، بالقول صراحةً “إذا ظنّت إسكتلندا بأنّ الدخول إلى الاتحاد الأوروبي بمجرد الاستقلال عن المملكة المتحدة سهل فهي خاطئة، فالأمر محفوف بالعديد من التعقيدات الإداريّة”. في المقابل، لا يجب أن ينسى المحافظون أنّ 62 في المئة من الإسكتلنديين مع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعلى هذا النحو، تبدو الفرص سانحة لانتقام كل طرفٍ من الآخر.
لكن ما هو موقع حزب العمال من كل هذا؟
ربما لا يعرف كثيرون بأنّ موقف جيرمي كوربن من بريكست ليس غامضاً كما يتمّ تداوله على أكثر من صعيد إعلامي وسياسي وشعبي. إنّه موقف واضح للغاية، كوربن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بلّ هو أقدم من المحافظين أنفسهم في هذا المطلب، ناهيك عن بوريس جونسون الحديث في المطالبة بـ بريكست قياساً بـ كوربن، فلطالما كان يعتقد هذا الأخير بأنّ الاتحاد الأوروبي، منتجع للأثرياء، ومبنى مترامي الأطراف للبيروقراطيات الرأسماليّة في صيغها الأكثر جشعاً، ولكنّه برغم ذاك، كان أقلّ يساريّةً لا سلطويّةً (الفوضويّة) في مؤازرة أفكاره والذهاب بعيداً في الدفاع عنها، قياساً بـ كين ليفنجستون الذي كانت تلقبه الصحيفة اليمينيّة “ذي صن” بـ “كين الأحمر”، وأقل حضوراً من توني بين، وأخفّ نقابيةً من آرثر سكارغيل، ولم يتفوّق عنهم جيرمي كوربن إلا في مهارته الاقتصاديّة.
إعادة الإستفتاء
لقد سعت بريطانيا جاهدةً إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذُ 1961 عن طريق المفاوضات، حتى فشلت في ذلك تماماً سنة1972 ، ثم نجحت في الانضمام مع إيرلندا والدنمارك منذ الأول من يناير/كانون الثاني 1973، وللمفارقة التاريخيّة كان ذلك أثناء حكومة المحافظين بزعامة إدوارد هيث المنحدر من الطبقة الوسطى وأحد أكبر المؤيدين لـ “أوروبيّة” بريطانيا، وحين جرى الاستفتاء في عام 1974 لم يكن كوربن متأكداً من مدى أوروبيّة بريطانيا (Euroscepticism)، ولم تكن خياراتهُ محسومةً لصالح انخراط بريطانيا في المجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة.
لم يغب عن البريطانيين هذا الغموض والتلكؤ التاريخي، بلّ إنّهم أدركوا جيداً أنّ خيار إعادة الاستفتاء الذي مالَ حزب العمال نحوه، انقلابٌ على شرعيّتين:
الأولى؛ ميراث حزب العمال اليساري، القائم على استثناء بريطانيا من النماذج الأخرى، واعتبارها تدخل ضمن المعبّر عنهُ من قبل هيغل بـ “الممتلئ بمضمونه”(inhaltsvoll)، إذ إنّها ليست بحاجة إلى إثبات امتداداتها، إلا تلك التي يمكن لبريطانيا أن تمنحها للمتأثر بسياقها التاريخي وتأثيرها الدنيويّ على تجارب الشعوب الأخرى، وهو يعود إلى المثل الإنكليزي الذي كان يُروى في القرن السادس عشر حين كان يُقال “الله هو بريطانيا”، وبالتالي ثمّة شوفينيّة وطنيّة متأصلة، قد شذّبتها العصور المتلاحقة، بيد أنّها ظاهرة بجلاءٍ متباين بين الفينة والأخرى، ثم كيف يمكن أن يكون كوربن يسارياً بالمعنى التامّ للكلمة، وفي السبعينيات، كانت تروج فكرة الترميز الشيوعي (المطرقة والمنجل) لعلم الاتحاد الأوروبي لدى تيار كبير يعارض الانضمام، كان كوربن أحد أبرز نجومه!
وغنيُّ عن التذكير بأنّ القوميّات الصغرى عادت إلى سوق التداول السياسي بإطّراد بعد الحرب الباردة، كما رأى بذلك ديلانتي وكومار. وقد أعتقد الباحث التركي أموت أوزكيريملي في كتابه “نظريّات القوميّة، مقدّمة نقديّة” الذي ترجمهُ معين إمام وحقّقه فايز الصياغ، ونشره “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة بأنّ “إنجلترا بلد الوعي الحاد بالوطنية”، (ص73)، وبأنّها تدخل ضمن “القوميّة الليبراليّة”، لكن الفارق أنّ القوميّة الليبراليّة هذه، قد شهدت انتعاشاً غير مسبوقٍ في هولندا لدى حزب “خيرت فيلدرز”، وحزب البديل في ألمانيا، وأخذت منحى كاريكاتيريا عند فيكتور أوربان المجري، وعند الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.
في السبعينيات، كانت تروج فكرة الترميز الشيوعي (المطرقة والمنجل) لعلم الاتحاد الأوروبي لدى تيار كبير يعارض الانضمام، كان كوربن أحد أبرز نجومه
أما الثانية؛ فهي فضيحة إعادة الاستفتاء، لأنّ إعادة أيّ نوعٍ من الاقتراع سواءً كان انتخاباً أو استفتاءً على خلفية الطعن في نتائجه، دون ثبوت أيّ واقعة تزوير أو تدليس أو ما يُعرف في قانون نابليون المدني بـ “عيوب الإرادة”، والتي تمّ تبنيّها حتى في المعاهدات الدوليّة، يُعتبر انقلاباً صريحاً على الديمقراطيّة، لو كانت الظروف سائرة نحو التغيّر، ذلك أنّ الانتخاب بوجهٍ عام هو نشاط دستوري يتّصل بنظريّة الدولة في شقّها القانوني وليس من جانبها السياسي فحسب، ولا يتمّ نقض أيّ نشاطٍ قانوني مبني على تأسيس دستوري بموجب تبعاتٍ سياسيّة، أُخضعت للتغيّر والمصلحة العامة، وهذا شائعٌ ومعروفٌ في كل النظم السياسيّة المقارنة في دول العالم. لكن حزب العمال راوغَ قاعدته الانتخابيّة بصورة أدّت إلى المآل الذي عرفنا، أيّ فقدانه قواعد تقليديّة في الشمال كانت عماليّة دون الحاجة إلى أيّ استطلاع أو استبيان. الإنجليز مثقفون، وعلى دراية من كل هذا، ويقرأ الطفل عندهم كل مسرحيات شكسبير قبل أن يصل إلى مرحلة الثانوية، فضلاً عن أنّ جامعاتها بحثيّة، أيّ لا يعتمد الأستاذ فيها على التوسع في المحاضرة، وإنّما يدخل الجهد البحثي للطالب مناصفةً مع درس الأستاذ، على عكس الجامعات الأميركيّة المعتمدة على ما تسميه الأكاديميات البريطانيّة بـ “الثرثرة الأكاديميّة”، وهؤلاء من الصعب تجاوزهم بفكرة إعادة الاستفتاء دون التحقّق من الأعذار القانونيّة التي تتّصل بعيوب الإرادة.
بالرغم من مواقف جيرمي كوربن المشرّفة ونضاله المشهود، لكنّه يفتقد إلى شرطٍ واقف في العمل السياسي، يتوفر على نظيره الفرنسي جان لوك ميلانشون، وهو المقدرة على مراوغة الخصوم، وليس مراوغة قواعده الانتخابية، ذاك أنّ هذه القواعد بإمكانها المعاقبة، فيما الخصوم تتأدّى عن عقابهم، شعبية أوسع لدى القواعد، خاصةً وأنّنا نعيش في زمن الشعوبيّات الكبرى، حيث ضاق نطاق المعنى كثيراً، وفُقد نتيجةً لطغيان المشاعر الكارهة للاختلاف، وارتداد البشريّة عن ميراثها الأخلاقي.
الشعبويّات المنظمة في أوروبا:
يُعتبر جان جاك روسو المنظّر الفلسفي لفكرة الاتحاد الأوروبي، حين قال:”إنّ أوروبا كلها، تمثل نوعاً خالصاً من النسق”، يليه إيمانويل كانط الذي رأى بأنّ العقل الأوروبي هو النسق النهائي للتفكير.
هنالك ستة أحزاب يمينيّة في أوروبا، آخرها في معرض هذا الطرح، يؤصّل لربطٍ منطقي بين مقدّمة هذه المقالة وخاتمتها. نذكر هذه الأحزاب مع تقديم شروحٍ بسيطة حول هيكليتها:
1- الجبهة الوطنية الفرنسيّة (Front national): أسّسها جان ماري لوبان سنة 1972 وبقي رئيساً لها إلى غاية سنة 2011 حين أطلق تصريحات معادية لليهود، فاضطرت ابنته مارين لوبان إلى عقد جمعية شعبيّة، حصلت من خلالها على تأييد 67,65 في المئة من أصوات القاعدة الشعبيّة وصارت بذلك رئيسة للحزب. عملت على نشر الإيديولوجيّة اليمينيّة خارج باريس، التي كان الحزب حبيساً فيها، في محاولة منها للعب على الهوية والسيادة وفقدان السيطرة على نمط العيش الفرنسي بسبب المهاجرين، من أجل استقطابٍ وطني للحزب، بدلاً من مركْزتهِ في باريس كما فعل والدها. وقد حدث ما كانت ترغب فيه هذه السيدة، ففي سنة 2015 حصل حزبها على المرتبة الثانية في الجولة الأولى من انتخابات المجالس الإقليميّة الفرنسيّة بنسبة 25,19 في المئة، وعلى المرتبة الأولى بنسبة 29,05 في المئة في ستِ مناطق فرنسيّة من أصل ثلاث عشرة منطقة، متفوقةً على الجمهوريين بزعامة نيكولا ساركوزي الذي حصد ما نسبته 27 في المئة.
وصلت مارين لوبن إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة في 7 مايو /أيار 2017 متفوّقة على زعيم اليسار جان لوك ميلانشون، رفقة إيمانويل ماكرون، انتهت بخسارتها بنتيجة 33.94 في المئة، وفوز ايمانويل ماكرون بنسبة 66.06 في المئة، مستفيداً من “التصويت العقابي” الذي دعت إليه الكثير من الأحزاب الفرنسيّة من أجل قطع الطريق على زعيمة الجبهة الوطنية قبل وصولها إلى قصر الإليزيه.
تدعو الجبهة الوطنيّة الفرنسيّة إلى العودة إلى العملة الفرنسيّة، وتدافع عن تصوّرها حيال الهويّة الفرنسيّة، وترفض زواج المثليين والإجهاض، وتدعو إلى التقارب مع روسيا خدمةً للمصالح القوميّة ولو كان ذلك على حساب حقوق الإنسان ومشاعر التسامح والتعدديّة الثقافيّة.
2- حزب الحريّة النمساوي (FPO): حزب سياسي موغلٌ في اليمينيّة والقوميّة الوطنيّة، يعود تأسيسه إلى سنة 1956، ويعتبر حزباً من بقايا النازيّة أو وريثها الناعم.
انهزم مرشح الحزب نوربرت هوفر بفارق ضئيل عن مرشح حزب الخضر فان دير بلين بـ 0,2 في المئة فقط. وفي الانتخابات التشريعيّة النمساويّة في 15 أكتوبر/ تشرين الأول2017 ، حقّق الحزب فوزاً تاريخياً بنسبة 26,01 في المئة، أيّ المرتبة الثانية بعد حزب الشعب بقيادة سيباستيان كورتس الذي حصل على 30,02 في المئة.
فشارك إذ ذاك في الحكومة بقوّة القانون، وأخذ وزارات سياديّة وحسّاسة للغاية مثل: الخارجيّة، الداخليّة، والدفاع. وشغل زعيمه الحالي ستراش نائب المستشار كورتس رئيس الوزراء، ليحقّق بذلك أهم فوز وأكبره لليمين ليس في النمسا فحسب، وإنّما في أوروبا كلها، لناحية الاستحواذ على حقائب سياسيّة من جهة، ووصول رئيسه إلى رتبة مستشار أول لرئيس الوزراء من جهة ثانية.
يُعادي الحزب المهاجرين بعامة، واللاجئين بصورة خاصة، ويدعو في أدبياته إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكنّه خفّف من هذه اللهجة الحادة، واكتفى بنقد بعض سياسات الاتحاد الأوروبي. يناور من أجل تعطيل مفاهيم التكامل الاقتصادي والسياسي الأوروبيين، ويدعو إلى الانفتاح على روسيا ورفع العقوبات عنها وتطبيع العلاقات معها، وهو في عُرف السياسة في تلك المناطق، خروج عن الإجماع الأوروبي .
3- حزب البديل من أجل ألمانيا: هو حزب ليبرالي محافظ، يميني متشدّد.
تأسس سنة 2013 من قِبل ثلّة من الناشطين من أجل ألمانيا، لم يخفِ يوماً عداءه للاجئين وللمستشارة إنجيلا ميركل، ولعملة اليورو. ترأسته فرواكه بتري منتصرةً على جزئه الليبرالي الأقل تشدداً قياساً بجناحه القومي في سنة .2016 تنحدر فراوكه من شرق ألمانيا، وهو ما يكتسي نوعاً من الرمزيّة التاريخيّة.
يعتقد الحزب بضرورة منع الحجاب في الجامعات والمؤسسات الإداريّة، ومنع ختان الأطفال عند المسلمين واليهود.
ولدى ما عُرف بتحرّش بعض اللاجئين بنساءٍ ألمانيات في رأس سنة 2015زادت شعبيّته وتجذّر في 13 ولاية من أصل 16.
دعا الحزب في مؤتمره في مدينة كولينا في 22 أبريل/ نيسان2017، إلى التعاون مع روسيا والانفتاح الاقتصادي والسياسي عليها، مشدّداً على ضرورة منع تركيا من الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي، رافضاً الاتفاقيات التجاريّة مع كندا (CETA)، واتفاقيّة الشراكة التجاريّة والاستثماريّة العابرة للأطلسي (TTIP) التي عقدتها ألمانيا مع الاتحاد الأوروبي.
يشدّد الحزب على تكريس الثقافة واللغة الألمانيّة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ولا يدعو كثيراً إلى الخروج منه، بسبب أن ألمانيا مهيمنة على هذا الاتحاد، وغالباً ما يقوم السبب الوجيه للأحزاب اليمينيّة الأوروبيّة في الدعوة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي هو التنصل من الهيمنة الألمانية عليه، لا سيما أنّ تاريخ ألمانيا القريب يلاحقها حيثما ذهبت.
يُذكّر الحزب في أدبياته، بأنّ الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا وهو دخيل عليها، ويجب مكافحته بطرد اللاجئين والمسلمين معاً.
حدث خلاف بين جناج فراوكه بتري وجناح أليسا فايدل وألكسندر غاولاند بعد الانتخابات البرلمانيّة لسنة 2017، فالرئيسة فراوكه تدعو إلى الانفتاح على الأحزاب الألمانيّة حتى يتسنّى للحزب المشاركة في الحكومة، بينما يرى جناح فايدل وغاولاند بضرورة البقاء في المعارضة، كونهما المدافعان الشرسان عن الهويّة الألمانيّة، وبلغ التطرّف حدّه الأقصى مع قول ألكسندر غاولاند بأنّ حزب البديل هو “الحزب المسيحي الوحيد بألمانيا”، واصفاً حكومة ميركل بشكل واضح وبدون كناية بـ “الخنازير والدمى في يد المنتصرين في الحزب العالمية الثانية”. مفرجاً بذلك عن الطابع النازي للحزب.
يتمتّع فيكتور أوربان بجاذبيّة يمينية لافتة، بالقياس مع أقرانه في أوروبا
4- حزب العدالة والقانون في بولندا (PISI): وهو حزب سياسي وطني محافظ وشعبوي، تأسّس في 2001 من طرف الاخوين ليخ وياروسلاف كاتشينسكي.
حصل مرشح الحزب للرئاسة ياروسلاف على نسبة 47 في المئة في انتخابات 2010 الرئاسيّة، أمام منافسه في الدور الثاني كوموروفسكي الذي فاز عليه بنسبة 53 في المئة عن حزب المنتدى المدني.
وحقّق الحزب في الانتخابات التشريعيّة لسنة 2015 فوزاً كبيراً، إذ حصد 235 مقعداً من حصة الحزب الوسطي “المنصة المدنية” الذي حصل على 133 مقعداً، وهي النتيجة المريحة التي مكّنته من تشكيل الحكومة منفرداً بزعامة نائب الحزب السيدة بياتا سيدلو.
يؤكد الحزب على ضرورة تدريس المسيحيّة في كل الأطوار التعليميّة وتعزيز مشاعر الفخر لدى البولنديين بدينهم، ويعارض الإجهاض ويعادي المثليين، ويدعو إلى خفض سن التقاعد، ويرفض ما يسميه الإملاءات الأوروبيّة في ما خصّ توزيع “الحصص” من اللاجئين.
يُعادي الحزب المسلمين واللاجئين صراحةً، ولا يتوافق نهائياً مع طرح الجبهة الوطنية الفرنسيّة التي ترى بـ “أوربة” الإسلام، ويشكّك في الهولوكوست كما لا يُكنّي عداءه المطلق لليهود أيضاً، وكونه يحوز على الأغلبية البرلمانيّة ويشكل الحكومة، وقع الحزب في جدل ونقاش كبيرين مع المؤسسات الأوروبيّة، وخاصةً في شقّ عدائه لليهود وتشكيكه العلني في الهولوكوست.
5- الاتحاد المدني المجري (FIDESZ): هو حزب محافظ قومي تأسس سنة 1988 يقودهُ فيكتور أوربان، الرئيس المجري الحالي، الذي افتتح حياته السياسيّة بمعاداة الشيوعيّة وانتهى بمعاداة اللاجئين. حقّق الحزب انتصاره الأول سنة 2010 حين فاز بنسبة 52 في المئة من الأصوات البرلمانيّة، وفاز بالأقلية التي أتاحت لهُ إدراج تعديلين مهمين في الدستور المجري:
أ- دعم الزواج التقليدي الديني.
ب- خفض عدد المقاعد البرلمانيّة من 386 إلى 199 مقعداً.
وبرغم خسارته للأغلبيّة المطلقة في انتخابات 2014 التشريعيّة، حيث فاز بـ 48 في المئة، لكنّه حافظ على الأغلبية بعد اضطراره إلى التحالف مع الحزب المسيحي الديمقراطي، الذي يقاسمه “الهمّ” الديني في المجر.
يتمتّع فيكتور أوربان بجاذبيّة يمينية لافتة، بالقياس مع أقرانه في أوروبا، فلم يكتفِ بمعارضة وجود اللاجئين في بلاده وحسب مثل زملائه في اليمين الأوروبي، وإنّما لم يتورّع عن وصفهم بـ “الغزاة”، ناعتاً نفسه بـ “قبطان حماية الحدود الأوروبيّة من جحافل المسلمين الإرهابيين”، برغم أنّه يعارض تدخلات الاتحاد الأوروبي في القرارات السياديّة في المجر.
سيطر الحزب على مفاصل الدولة، عن طريق إصدار 850 قانوناً منذ توليه زمام السلطة سنة 2010، الأمر الذي أدى إلى تبرّم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من المستقبل الديمقراطي في هذا البلد.
6- حزب استقلال المملكة المتحدة البريطاني (UKIP) : هو حزب يميني تأسس سنة 1993، يرأسه أحد أكثر الظواهر اليمينيّة مسرحيّةً في العالم نايل فاراج منذ سنة 1999. شغل مقعداً برلمانياً لمدة 13 سنة.
يعتقد الحزب بأنّ الاتحاد الأوروبي بسياساته المتبعة تجاه بريطانيا العظمى، قد سرق وظائف البريطانيين، وعمل على تغيير الوجه الحضاري والثقافي ذيّ الخصوصيّة المتفرّدة للمملكة التي لا تغرب عنها الشمس. يتحدث أعضاؤهُ بهذه الكنايات حالَ كلامهم عن بريطانيا، ويدعون صراحةً إلى تجريم الإسلام بموجب قانون رسمي. يُعتبر هذا الحزب المنظّر الرئيس لـ”بريكست”، متعلّلاً بأنّ بريطانيا تعاني جرّاء فيزا “شينغن”، كما أنّ الرسوم باهظة جداً، تلك المقدّرة بـ 55 مليون جنيه إسترليني في اليوم الواحد. كما يرفض قيام أيّ قوّة عسكريّة أوروبيّة تتحمّل بريطانيا تكاليفها الماديّة.
وقد كانت هذه الأسباب هي ذاتها التعبيرات التي قام عليها برنامج المحافظين لإقناع الشعب البريطاني بضرورة الخروج من الاتحاد الأوروبي، دون أن يحدّثهم عن الخطط البديلة حالَ حدوث ذلك، متورّعاً عن القيام بأيّ شكلٍ من أشكال المناورة السياسيّة التي تمكّنهُ من اللعب على الجبهة الداخلية والخارجيّة معاً، بعد إجراء تعديلٍ بسيط على سؤال الخروج، مثل: هل تقبل بالبقاء في الاتحاد الأوروبي في حالة لم يغيّر قوانينه تجاه بريطانيا؟
يُوفر سؤالٌ مثل هذا، شرطاً ثميناً للعمل السياسي لدى حزب المحافظين، يهزم العمال بموجبه هزيمةً متأصلة، ويضغط على الاتحاد الأوروبي من تأثيراتهِ، هذا الشرط هو: المساومة (Bargaining). صوّت البريطانيون على خيار الانفصال يوم 23 حزيران/يونيو 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة 62 في المئة، جاء مثل المقدّمة التي لا يعدو أيّ اقتراعٍ يليها سوى تنويع عليها.
مصير اليمين آيل إلى الزوال، أو هو المنتصر المؤقت في كل فترة، ولا يمكن أن يمثل قاعدةً في كل الأحوال
خاتمة:
ثمة أسباب كثيرة تدعو إلى النظر في مستقبل اليمين، أكثر من البحث في أسباب نجاحه وتمدّده، برغم مخالفته لمبادئ الإنصاف والقانون الطبيعي، فالواقع أنّ مستقبل اليمين، وإنْ بدا متّصلاً بأسباب نجاحه وتفوقه في الحاضر، يُفرز مدى تشتّته وتذرر بنيته المرجعيّة، وهذه أكبر نقاط ضعفه التنظيميّة، وقد ظهر ذلك جلياً في الاستعراض السالف لأكبر قوى اليمين في أوربان، فالسباق الداخلي نحو الأكثر يمينيةً بدا مغرياً لجانب لا يستهان به من القاعدة النظاميّة لأحزاب اليمين، وهو ما يُفصح عن حاجة ملحة متأصلة بقيادة حركات تصحيحيّة شبيهة بالحركات التصحيحيّة التي نحت مصطلحها الوزير الأول الصيني شوان لاي “التصحيح الثوري”، أدّى كل هذا النزوع المتفرّد نحو القيادة داخل أحزاب اليمين، إلى انقسامات عدّة، بين اليمين واليمين الأكثر تطرّفاً منه.
هذا النوع من الانقسام الشديد والاندفاع المتعجّل نحو الزوايا الحادة، عادةً ما يدفع نحو انهيار المنظومة الإيديولوجيّة بكاملها نتيجة لهذا التآكل الداخلي، كما حدث مع الشيوعيّة في نهاية الثمانينات، غير أنّ الفارق في ذلك هو أنّ الشيوعية شهدت انقساماً حاداً نحو الشيوعي والأقل شيوعيّةً، وإنْ ظهرا المثالين لناحية المقصد متناقضين نوعاً ما، إلا أنّهما يحققان الغرض، وهو حدوث انقسامٍ حادٍ في البنية بين الأكثر/ الأقل، وانتهائهما إلى عجزٍ جهير عن تحقيق الإجماع اليميني.
وبرغم أنّ أحد أسباب صعود اليمين الشعبوي في أوروبا يعود إلى ما أسماهُ سيمور ليبست وستين روكان بـ “تجمّد المنظومات الحزبيّة في الغرب”، فإنّ الحال يعكس تجمّداً من ناحية واحدة، أيّ تجمّد القوى اليساريّة والليبراليّة وتحوّلها في الغالب إلى مجتمع مدني وجمعيات خيريّة وثقافيّة، فيما تأصّل العمل السياسي الحزبي لدى قوى اليمين، مستغلاً الطابع الثقافي الإلغائي في المواقع الطرفيّة للمدن، والقواعد الريفيّة ذات الطابع الزراعي في القرى والأرياف، ذاك أن هذه الأحزمة حول المدن عانت من التهميش المديني والعمراني، كما استغل اليمين غياب النقاش المرجعي فيها عمّا يُعنى بالاجتماع السياسي وقضايا الجندر والعلمانيّة وحلول النقاش المعيشي الاستهلاكي والديني، روّج لأفكار اليمين التبسيطيّة والاختزاليّة والعاجزة عن تعميم فكر كوني قائم على قراءة المستقبل الحضاري لدول العالم، وتحديد العلاقة معه.
فضلاً عن كل ما تقدّم، ثمة سبب تقني ساعد اليمين على السيطرة على أقنية الحكم، وهو استفادته كثيراً من الأنظمة البرلمانيّة، وممّا لا شك فيه، أنّ النظام البرلماني بصورة عامة، هو نظام عصري وديمقراطي، ويتفوّق – حسب رأيي الشخصي- عن النظامين الآخرين (الرئاسي وشبه الرئاسي) ديمقراطيةً وعصرية، فالأنظمة البرلمانيّة الأقدر على إحداث نقاشين متوازيين يخدم كلٌّ منهما الآخر، نقاش شعبي بين ممثليّ الشعب وقواعدهم الانتخابيّة، يحدّد مصير العلاقة فيها: الانتخاب. ونقاش برلماني بين الكتل داخل قبّة السلطة التشريعيّة، يحدّد فيها مصير العلاقة: التحالف.
هذان النقاشان يغيبان في الأنظمة الرئاسيّة (أميركا) وشبه الرئاسيّة (فرنسا)، إذ إنّ الرئيس يملك التفويض الأقوى، سواءً في حالة تساوي الأصوات في النظام الرئاسي مثل أميركا، أو الحقّ الرئاسي في حلّ البرلمان في الأنظمة شبه الرئاسيّة مثل فرنسا.
وقصارى القول فإنّ مصير اليمين آيل إلى الزوال، أو هو المنتصر المؤقت في كل فترة، ولا يمكن أن يمثل قاعدةً في كل الأحوال، ببساطة لوجود علّتين:
الأولى؛ عجزه عن تحقيق إجماع منهجي وفكري وإنساني حول الفكرة التي تأسّس عليها، فثمة تضارب إيديولوجي داخل الخطاب اليميني.
الثانية؛ إخفاقه في تشكيل نوعٍ من المؤسساتيّة، ونجاحه فقط في تأسيس منظومة متضعضعة، يسودها التعتعة الفكريّة، فاليمين منظومة يخونها التماسك، وليس مؤسسة تفرض عوامل بقائها داخل الاجتماع البشري بشكل عام.