لم يكن تعليقي، أو لم أقصد به، أن يكون حُكمًا مسبقًا على تجربة تكاملية جديدة، أيًا كانت الأسباب التي تدفع المسئولين في هذه الدول نحو هكذا مشروع. إنما جاء في سياق إيمان شخص في حق نازعه فيه كثيرون وعن عاطفة لم يسمح لأحد أن ينازعه فيها، حتى جاء يوم عزّ عليه فيه أن يستعد للاحتفال بعيد الجامعة العربية، فلم يجد ما يقول مناسبًا. كانت الجامعة مشروعه التكاملي الفريد في نوعه، باعتبار أنه المشروع الذي نشأ من دول رفضته، وهي توقع عليه. تعلّل بعضها بتحفظات، وبعض هؤلاء تمسك بتحفظاته خمسة وسبعين عامًا. نعم، وقّعت على وثائقه، وفي داخلها كره له. رأت بين سطوره وحشًا صغيرًا سوف يكبر يومًا ويخرج من سطور الميثاق لينقض عليها ويقضي على استقلالها الرضيع. أخال اليوم، وأنا اتألم لما صار عليه حال الجامعة، أن أكثر من مسئول عربي كبير كان يضمر في نفسه نية الانضمام للجامعة، استجابة لضغوط خارجية والبقاء فيها حتى يقوى ساعده، فينقّض هو عليها قبل أن تنقض هي عليه. هل كانت النوايا حقًا بهذا السوء، أم أنني فشلت في عزل مشاعري عن لحظة كتابة هذه السطور؟
لا أنكر، ولن أنكر، أن التكامليين العرب، من أكاديميين وسياسيين ودبلوماسيين، حملوا في ضمائرهم نوايا ليست بعيدة جدًا عن تهيؤات ومخاوف السياسيين الذي وافقوا مترددين على نشأة الجامعة، والسياسيين الذين ورثوا الحكم منهم على امتداد الأعوام الخمسة وسبعين الماضية. نعم، كان الانتقاص من السيادة الوطنية هدف كل من تمنى أن يرى في حياته نجاح مشروع تكاملي عربي، أيا كان اتساعه وتكلفته ومجاله، لكنه الانتقاص الذي كان يمكن أن يحمي أمن الشعوب العربية، ويحقق لها الاستقرار ويمنع عنها غائلة التطرف والطائفية وطمع الشقيق في ثروة شقيقه. فشل التكامليون العرب. لم يسمح لهم المسئولون السياسيون ليخلصوا الشعوب من هذه الغائلة. احتفظت الدول العربية بكامل سيادتها، أو هكذا تخيلت، وصدقت. الواقع كما عشناه ورأيناه ويراه شبابنا وأبناءنا وأحفادنا، يظل شاهدًا على عكس ذلك.
***
على كل حال، لن يفيدنا البكاء على ما فات وضاع. فشلت تجربة التكامل العربي، كما جسدتها الجامعة العربية، وأسباب الفشل معروفة، وكثيرٌ منها تعترف به الدول العربية المسئولة ذاتها عن هذا الفشل. نُخطئ من الآن فصاعدًا إذا شجعنا خبراءنا وأنصار التكامل الإقليمي على الاستمرار في البحث عن حلول لصعوبات أو عقد في أنظمة الجامعة وأجهزتها وأشخاص القائمين عليها. ولكننا نصيب، أو هذا ما أتمناه، لو شجعناهم على اختصار الطريق، بالتركيز على محاولة تحديد موقعنا في عالم يجري تنظيمه في هدوء، وإن على نار ليست هادئة، أو على عضات فيروسات قادمة من المجهول. وأقترح مسائل بعينها:
أولاً: من نحن؟ الكل، وأقصد كل العالم، يهروّل في السعي للتعرف على الآخرين وبعضهم جدد لم يعيشوا بيننا، وهؤلاء الذين اقتربوا من حدودنا أو اخترقوها أو غيّروا معالمها. الأمريكيون لديهم مشكلة باقية معهم وعلى حدودهم وما ورائها بقية هذا القرن. آخرون يهرولون أيضًا في السعي لتعريف أنفسهم للآخرين، والبريطانيون يقدمون أنفسهم نموذجًا بارزًا، هذا الشعب الذي اعترف لشعوب أوروبا أنه زيّف في أوراق طلب انضمامه للاتحاد الأوروبي، أو على الأقل لم يقل الحقيقة كاملة، لم يقل إنه لا يحب أوروبا ولا يود أن يكون أوروبيًا. قضى ثلاثين عامًا يتحدث حديث التكامل ويستفيد منه، وعندما هبت رياح التغيير عند سقف العالم، انتفض خارجًا ورافضًا العضوية. ألم نسمع مرارًا خلال سبعين عامًا من بعض المصريين وكثيرين في أنحاء متفرقة من الكيان العربي عبارة “لسنا عربًا ولن نكون”. الآن يردّد بفرط الألم واليأس وخيبة الأمل ملايين الإيطاليين والإسبان عبارة “لسنا أوروبيين ولن نكون”. أعود فأكرر، أننا كشعوب معروض عليها الانضمام إلى مشروع إقليمي جديد يجب أن نعرف جيدًا من هم هؤلاء الذين سوف أقبل أو أرفض الاندماج معهم أو التكامل بينهم، وأن نكون قد قررنا قبلها من نكون. من نحن؟.
نعم، كان الانتقاص من السيادة الوطنية هدف كل من تمنى أن يرى في حياته نجاح مشروع تكاملي عربي
ثانيًا: ننسى أننا، سواء كنا من صانعي الرأي أو السياسيين، كدنا نفقد الحق في اتخاذ قرار في، أو حتى اقتراح عن، شكل المستقبل، الذي نظن أو نعتقد جازمين، أنه الأفضل لشعوبنا. نحن أقلية من كبار السن اخترنا لأنفسنا هذه المواقع النافذة والمؤثرة التي تصوّرنا أنها تؤهلنا لفعل ذلك. تجاهلنا أننا لسنا أكثر من أفراد معدودين في مجتمعات مكتظة بالشباب. بلغنا في هذه السنوات الأخيرة، أن هؤلاء الشباب غير سعيد بالنتائج التي تحققت وبالطموحات التي لم تتحقق على أيدي هؤلاء الأفراد الذين تولوا، بين ما تولوا، مسئولية تنفيذ تجربة تكاملية تعود على الأمة، وبخاصة الشباب، بفوائد مؤكدة وآمال جديدة. النتائج بأي حساب، وبحسب أية أعذار، وبمراعاة كافة الظروف، كانت تجربة فاشلة أو على الأقل لم تف بما وعدت أو أوحت بتحقيقه إلى أجيال سابقة. كل الساحات شاهدة، الأمن الوطني، الأمن الإقليمي، الحريات والحقوق وكرامة الإنسان، الكفاية والعدالة، الصحة العامة، سمعة العروبة بين مختلف الهويات الإقليمية والدولية.
***
كعرب، وكتجربة تكاملية، نحن كشعوب وتجارب تكاملية، كنا أو أصبحنا ضحايا العولمة، أو بمعنى أدق، ضحايا انكسارها. نلقي باللوم على السياسيين، لأنهم لم يراعوا تناسب التوقيت وسرعة التطورات. هم أيضا معذورون، فقد غافلتهم العولمة واختصرت في سنوات قليلة أعمار تطورات تاريخية كان يمكن بدونها أن تستهلك عشرات السنين وربما القرون (ينشر المقال بالتزامن مع “الشروق” المصرية: https://bit.ly/2wCjrJC )