طوال الفترة الماضية، تسرّب الكثير من جلسات مناقشة التعديلات المتلاحقة على مسودّات مشروع القانون الرامي إلى تنظيم الضوابط الإستثنائيّة المؤقتة على بعض العمليّات والخدمات المصرفيّة والمتعارف عليه بإسم “الكابيتال كونترول”. في البداية، أنجز وزير الماليّة غازي وزني المسودّة الأوليّة، التي لم تواجه في ذلك الوقت أية تحفّظات علنيّة تمس جوهر المشروع، لكنّ سرعان ما خضعت تلك المسودّة إلى تعديلات كثيرة بعد مناقشات مطوّلة مع ممثّلين عن مصرف لبنان والمصارف ومجموعة من الإستشاريين العاملين مع رئاسة الحكومة اللبنانية.
أمّا معارضة برّي الحادّة، فلم تخرج إلى الضوء إلّا بعد توزيع هذه المسودّة المعدّلة على الوزراء لتسجيل ملاحظاتهم عليها، وهو ما أدى إلى “فرملة” فورية لمسار مشروع القانون، إلى حين إجراء التعديلات المطلوبة لتليين موقف رئيس المجلس النيابي، خصوصاً أن موقف برّي سرعان ما إنعكس على مداخلات وزراء “الثنائي الشيعي” في جلسة مناقشة المسودّة يوم الثلاثاء الماضي، مع العلم أنّ مسودّتين للمشروع جرى تقديمهما لاحقاً، الأولى، من قبل وزيرة العدل ماري كلود نجم، والثانية، من قبل الوزيرين عماد حب الله ورمزي المشرّفيّة، وهو ما بدا كمحاولات لتقديم صيغ بديلة عن المسودّة التي إعترض عليها بري.
موقف برّي: رفض للمسودّة أم للفكرة؟
في المبدأ، حاول رئيس المجلس النيابي الإيحاء برفضه لفكرة مشروع قانون “الكابيتال كونترول” بأسرها، خصوصاً حين تحدّث عن إمكانية اللجوء إلى المادّة 174 من قانون النقد والتسليف بدل تمرير مشروع القانون. والمادّة 174 ليست سوى المادّة التي تعطي المصرف المركزي – بعد إستطلاع رأي جمعيّة المصارف – صلاحيّة وضع التنظيمات الضروريّة لتأمين حسن علاقة المصارف مع مودعيها وعملائها. وبهذا المعنى، أراد بري الإشارة إلى إمكانيّة رمي الكرة كليّاً بملعب حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، ليتحمّل منفرداً مسؤوليّة وضع الأطر التنظيميّة المناسبة للإجراءات المصرفيّة الإستثنائيّة التي يتم تطبيقها اليوم في المصارف اللبنانية.
ثمّة ما يكفي من المؤشّرات التي تدل على أنّ برّي أراد من خلال موقفه هذا رفع السقف في وجه المسودّة التي جرى تعميمها على الوزراء، إحتجاجاً على بنودها
لكن عمليّاً، وبحسب عدّة مصادر مصرفيّة متابعة للملف، ثمّة ما يكفي من المؤشّرات التي تدل على أنّ برّي أراد من خلال موقفه هذا رفع السقف في وجه المسودّة التي جرى تعميمها على الوزراء، إحتجاجاً على بنودها (قيل أن إحداها كانت عليها ملاحظات بخط رئيس حكومة سابق)، وربّما على طريقة التعاطي مع الملف من قبل رئيس الحكومة حسان دياب.
وكان لافتاً للإنتباه أنه فيما كان حزب الله يتبنى بعد إجتماع عين التينة المشترك مع قيادة حركة أمل، مشروع وزني، بادر وزير الصناعة عماد حبّ الله، المحسوب على حزب الله، إلى تقديم صيغة بديلة تحمل توقيعه وتوقيع الوزير رمزي مشرفية، ليتبين أنها عبارة عن مجموعة ملاحظات على المسودّة التي عمّمها دياب على الوزراء بعد إطلاق برّي موقفه الرافض لمشروع القانون. أكثر من ذلك، فإن وزير الماليّة نفسه ربط مبادرته إلى سحب مشروع القانون في جلسة ثنائية جمعته بحسان دياب ثم في جلسة لمجلس الوزراء بالتعديلات الجوهرية التي طرأت على الصيغة المقدمة من قبله، وبالتالي صار مشروعاً غير قابل للتفيذ.
وعندما سأل دياب وزير المالية عما إذا كانت العودة إلى مشروعه الأصلي من دون التعديلات التي طرأت عليه، كفيلة بتذليل تحفظات رئيس المجلس، كان الجواب أنه ملتزم بقرار رئاسة المجلس النيابي بسحب كل المشروع من التداول، وهو الموقف نفسه الذي تبلغه رئيس الحكومة من رئيس المجلس النيابي، بعد ثلاثة أيام.
هنا، يتجدد طرح السؤال: لماذا قرر بري التراجع حتى عن مشروع وزني بعد أن حظي بموافقة حزب الله ورئاسة الحكومة؟
لا أحد يملك جواباً دقيقاً حتى الآن، بما في ذلك حزب الله. ثمة إعتقاد عند البعض أن بري سيقايض “الكابيتال كونترول” بملف التعيينات في المجلس المركزي لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، وليس المقصود هنا فقط الحصة الشيعية، بل تحديداً الحصة المسيحية، بحيث لا يتم تجاوز حليفه سليمان فرنجية، ولا يكون تعيين الحصة السنية محكوماً بالإنتقام من سعد الحريري!
غير أن أحد النواب المقربين من بري ينفي ذلك، ويؤكد أن رفض بري للمشروع ليس سياسياً بل تقنياً، والدليل أن هناك تقديرات بوجود أكثر من خمسين مليار دولار في المصارف اللبنانية هي أموال مصدرها الجاليات الإغترابية وخصوصا في أفريقيا، فهل يحمي المشروع مصلحة هؤلاء أم تهتز ثقتهم بالنظام المصرفي؟
ماذا سيكون موقف “الثنائي” (حزب الله وأمل) من مشروع قانون “الكابيتال كونترول” إذا أعيد طرحه للتصويت في مجلس الوزراء، وهل يمكن أن يتسبب بأزمة سياسية أم يكتفي وزراء أمل بالتصويت ضده؟
وهكذا، ليس واضحاً حتى الآن، ماذا سيكون موقف “الثنائي” (حزب الله وأمل) من مشروع قانون “الكابيتال كونترول” إذا أعيد طرحه للتصويت في مجلس الوزراء، وهل يمكن أن يتسبب بأزمة سياسية أم يكتفي وزراء أمل بالتصويت ضده؟
تجدر الإشارة إلى أن مشروع وزني تضمّن بنوداً مشابهة للمسودات اللاحقة في ما يتعلّق بطريقة التعامل مع السحوبات بالليرة والأموال الطازجة والتحويلات الداخليّة بين المصارف والشيكات. أمّا الإختلافات الأساسيّة فتكمن في ضمان حق أصحاب قروض التجزئة المدولرة بدفع السندات بالليرة اللبنانيّة من دون تحديد أي سقف لذلك، على عكس النسخة المعدّلة اللاحقة التي فرضت سقوفا لهذه الدفعات. أمّا من ناحية سقف السحوبات بالعملات الأجنبيّة، فتركت المسودّة المسألة بيد المصرف المركزي، من دون أن تنص على أي صيغة لدفع قيمة الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وفق سعر الصرف الموازي.
المصارف: لا مفر من القانون
وفي مقابل تحفّظ بري، تضغط جمعية المصارف من أجل تمرير المشروع بالسرعة القصوى. وعلى ما يبدو، يأتي ضغط المصارف بهذا الإتجاه تحديداً بسبب ضيق خياراتها في ظل تراجع موجوداتها السائلة بالعملة الصعبة إلى مستويات قياسيّة، وهو ما يدفعها إلى البحث عن إطار قانوني يشرّع الإجراءات الإستثنائيّة التي تقوم بها، قبل الوصول إلى ضوابط أقسى قد تصل إلى حد التوقّف عن السماح بالسحب النقدي بالدولار كليّاً خلال الفترة القادمة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن حجم الموجودات الخارجيّة التي تعتمد عليها المصارف لإجراء التحويلات وتوفير السيولة النقديّة بالدولار الأميركي تراجع من حدود الـ 25 مليار دولار في بداية 2019 إلى 16.61 مليار دولار في نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2020. مع العلم أنّ المصارف يترتّب عليها في المقابل حوالي الـ 8.45 مليار دولار من الإلتزامات للمصارف الأجنبيّة، التي ينبغي تسديدها من هذه الموجودات أيضاً، وهو ما يعني أن صافي الموجودات الخارجيّة سيبلغ بعد حسم قيمة هذه الإلتزامات حوالي الـ 8.16 مليار دولار فقط. مع العلم أن هذه الأرقام تلحظ الإنخفاض الحاصل في هذه الموجودات لغاية شهر كانون الثاني/يناير 2020، ولا تشمل الإنخفاض الحاصل نتيجة التحويلات والسحوبات في شهري شباط/فبراير وآذار/مارس 2020.
أمام الضغوط التمويليّة التي ستواجه المصارف، تبحث الأخيرة اليوم عن ملاذ قانوني يشرّع عمليّات ضبط السيولة التي تمارسها حالياً، وتلك التي ستمارسها بشكل أقسى خلال الفترة القادمة
أمّا ما تبقّى من موجودات بالعملة الصعبة، فيشمل، اليوم، سندات اليوروبوند التي علّقت الدولة سدادها، والإلتزامات المترتبة على المصرف المركزي الذي بات يتشدد في المحافظة على ما تبقى من إحتياطي بالعملة الصعبة لديه، وقروض القطاع الخاص التي يُسدد معظمها اليوم بالليرة اللبنانيّة، وترتفع فيها نسبة القروض المتعثّرة بفعل أزمة السيولة بالدولار الأميركي.
وهكذا، وأمام الضغوط التمويليّة التي ستواجه المصارف، تبحث الأخيرة اليوم عن ملاذ قانوني يشرّع عمليّات ضبط السيولة التي تمارسها حالياً، وتلك التي ستمارسها بشكل أقسى خلال الفترة القادمة. كما تسعى المصارف من خلال مشروع القانون إلى البحث عن غطاء في وجه دائنيها الأجانب، يحميها من التقاضي أمام المحاكم الأجنبيّة، خصوصاً أن غياب هذا الغطاء القانوني سيسمح بوضع اليد على ما تبقّى من موجوداتها الخارجيّة الموجودة لدى المصارف الأميركيّة. ولذلك، تضمّنت جميع مسودّات مشروع القانون بنوداً تضم وبشكل صريح ودائع المصارف المراسلة الأجنبيّة والودائع الإئتمانيّة إلى الودائع التي سيتم تطبيق القيود الإستثنائيّة عليها.
ملاحظات على المسودّات
لاقت مسودّة مشروع القانون التي جرى توزيعها على الوزراء قبيل جلسة المناقشة يوم الثلاثاء الماضي موجة كبيرة من الإعتراضات والإنتقادات من كثير من الأطراف، إلى حد إعتبارها مسودّة تسعى إلى تحصين وضعيّة المصارف على حساب المودعين وسعر صرف الليرة. وربّما جاءت المسودّة بهذه الصيغة تحديداً بفضل إخضاعها إلى عدد كبير من جلسات النقاش مع ممثلي المصارف ومصرف لبنان بعد تقديمها من قبل وزير الماليّة، وهو ما أدّى إلى تضمينها بنوداً إشكاليّة.
فمنذ فترة، سرّبت وكالة “بلومبيرغ” خبر وجود مداولات لمقترح يقضي بتمكين أصحاب الودائع بالدولار الأميركي من سحب ودائعهم بالليرة اللبنانيّة، ولكن وفق سعر صرف يبلغ حدود الـ 2000 ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد. ثمّ تبيّن لاحقاً أنّ اصحاب المصارف طرحوا الفكرة خلال الإجتماع القضائي المصرفي الذي قبل عدة أسابيع برئاسة النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، من دون أن يجري تضمينها في القواعد التي جرى الإتفاق عليها (بقي معظمها حبراً على ورق) لحاجة هذه الفكرة إلى تعاميم تنظيميّة خاصّة من مصرف لبنان.
لكنّ المفاجأة كانت لاحقاً في تضمين مسودّة مشروع القانون الذي جرى توزيعه على الوزراء لهذه الفكرة، حيث نصّت على تفويض مصرف لبنان إصدار التعاميم اللازمة للسماح للمودعين بالدولار بسحب ودائعهم وفق سعر الصرف المعتمد لدى الصرّافين، وهو تحديداً السعر الذي حدده مصرف لبنان لهم عند حدود الـ 2000 ليرة مقابل الدولار. وهذه الفكرة كانت تعني ببساطة السماح للمصارف بترشيق الميزانيّات عبر التخلّص من إلتزامها بالودائع بالدولار الأميركي، مقابل تحميل الكلفة أوّلاً للمودع الذي سيخسر الفارق بين سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء وسعر الصرف الذي حدده مصرف لبنان للمودعين، وثانياً لعموم المستهلكين الذين سيتحمّلون تحليق سعر الصرف عالياً مع ضخ كميّة كبيرة من السيولة بالليرة اللبنانيّة في الاسواق.
إبتعاد الدولة عن إجراء أي تنظيم للإجراءات المصرفيّة الحاليّة، وفق قاعدة “حماية المودع”، لا يعني عمليّاً إلا التفريط بحقوق صغار المودعين، وبالأخص نظراً لعدم وجود أي حل واقعي لا يمس بحقوق أي من المودعين
أمّا ما تبقّى من بنود في مسودّة مشروع القانون، فلا تضيف أية حقوق إضافيّة للمودعين غير تلك المعمول بها اليوم وفق القواعد التي وضعتها المصارف لنفسها، بإستثناء رفع القيود عن سحب الودائع بالليرة اللبنانيّة. وحتّى البند الذي نص على آليّة الموافقة على التحويلات الضروريّة إلى الخارج، فرض دراسة الطلبات من خلال وحدة يتم تشكيلها من ممثلين عن مصرف لبنان ووزارة الماليّة والمصرف المعني، على أن تكون الموافقة بإجماع الأعضاء. وهكذا، فسيكون لدى المصرف المعني بالحالة حق “الفيتو”، وهو ما يعني إخضاع هذه التحويلات مجدداً لمشيئة المصارف. وبمعزل عن كل هذه الإشكاليّات، يسجّل لهذه المسودة تحديداً إخضاع مسألة سقف السحوبات النقديّة لموافقة مجلس الوزراء، بموجب إقتراح من وزير الماليّة وتعميم من مصرف لبنان، وهو ما يعني سحب قرار هذه السقوف من يد المصارف.
في المقابل، تغاضت المسودّة التي قدّمتها وزيرة العدل ماري كلود نجم عن ذكر مسألة السحوبات النقديّة بالعملات الأجنبيّة وآليّة تنظيمها، وربّما كان ذلك عن قصد لغرض تفادي السجالات التي دارت حول هذه المسألة تحديداً، بما فيها إشكاليّة سحب الودائع الدولاريّة بالليرة وفق سعر صرف موازٍ. لكنّ الإشكاليّة في هذه المقاربة تكمن في إعطاء الغطاء المطلوب قانونيّاً للمصارف، في مقابل التغاضي عن تنظيم مسألة السحوبات النقديّة بالعملات الأجنبيّة التي ستبقى في هذه الحالة بيد جمعيّة المصارف.
إشكاليّات المرحلة المقبلة
في كل الحالات، ثمّة إشكاليّات واضحة في ما يخص ملف “الكابيتال كونترول”، وأسئلة عديدة ينبغي الإجابة عليها من قبل المعنيين. من الواضح أن ميزانيّات المصارف كما هي اليوم لا تسمح بدفع حقوق المودعين كافة، خصوصاً في ظل الفجوة العميقة بين ما يترتّب على المصارف بالعملات الأجنبيّة، وبين ما تملكه فعلاً من سيولة بهذه العملات. وهكذا، فإن المطلوب اليوم ليس فقط تشريع قانون لضبط السيولة، بل الشروع في عمليّة إعادة هيكلة قسريّة للقطاع المصرفي بأسره، لتحديد الفئات التي ستتحمّل الخسارة جرّاء هذه الفجوة، والفئات التي يقتضي حمايتها بشكل منظّم وهنا المقصود تحديداً صغار المودعين. أما التأخير في تنظيم عمليّة إعادة الهيكلة هذه، فسيعني تحميل جميع المودعين وبنسبة متساوية هذه الكلفة، من خلال إجبار الجميع على المدى الطويل على سحب الودائع بالليرة ووفق سعر الصرف الرسمي.
وبهذا المعنى، فإن إبتعاد الدولة عن إجراء أي تنظيم للإجراءات المصرفيّة الحاليّة، وفق قاعدة “حماية المودع”، لا يعني عمليّاً إلا التفريط بحقوق صغار المودعين، وبالأخص نظراً لعدم وجود أي حل واقعي لا يمس بحقوق أي من المودعين. أمّا تنظيم الإجراءات على النحو الذي جرى في الأسابيع الماضية، فيعني تشريع وتنظيم هذه الإجراءات، وإنّما على حساب المودعين ولمصلحة المصارف.
(*) صحافي لبناني متخصص بالشأن الإقتصادي