العدل مطلوب لكنه ممنوع من دخول لبنان!

لندخل في صلب الموضوع مباشرة. فلنتوقف عن تسمية الأشياء بغير أسمائها والقضايا بغير معانيها. لغتنا تكذب بشكل تلقائي. علينا أن نتجرأ بحرف حاسم وبصوت مرتفع وبتجرؤ حاد. كفى. فلنطرق لغتنا اللبنانية، ثم العربية، بمطرقة قاسية وطاحنة. كفى مرة أخرى.

ندخل في صلب الموضوع. فلنحذف من لغتنا مفردات سيئة الاستعمال. فليكن الظلم رديفاً للعدالة. العدالة لم تزرنا مرة. استضعفنا الظلم وسميناه عدالة. منذ أكثر من مئة عام، ولبنان مضاد للعدالة. لم نبرهن أبداً على أنها دخلت قصور العدل او دواوين المساءلة. فلنتوقف أيضاً عن التحدث والمطالبة بالمساءلة. هذا معيب بحق الذكاء والبصيرة.

المساءلة لم تجد طريقها إلينا. منعناها. نفينا عنا المحاسبة، اننا لا نشبه السؤال ولا نعرف الامساك بالمطرقة. ممنوع دخول العدل الاراضي اللبنانية. انها محفوظة في مكان معتم. لا تتعبوا أنفسكم.  إن بحثتم لن تجدوها. لا في دولة أو حكومة او مؤسسات أو مرجعيات دينية وسياسية ومالية. هذا البلد على صداقة متينة مع الزعبرة والإحتيال والنفاق.

هل هذا ما أريد قوله؟

عذراً. لم أكن اقصد هذه المقدمة. قلبي مفطور ومدمى على الرابع من آب/ أغسطس. لم أنسَ. لا أنسى. كيف أنسى. جريمة الجرائم. أفدح الفدائح. بيروت عاصمة الجراح والقتلى والدمار. حتى الآن، لم نعرف حقاً، ولن نعرف. لذا، من حق كل قطيع أن يسمي “المجرمين”، ولكن من دون عقاب.

أيضاً، ليس هذا ما أريد أن أكتبه.

عذراً. إنما، ولأننا فتحنا أبواب الممتنع، فلنكمل سيرنا الواعي والمستيقظ والمستفَز (بفتح الفاء)، طريقنا إلى المفردات المفقودة. وعليه إذا، لنكف عن المطالبة بدولة. لبنان ليس دولة ولا مشروع دولة. إنه مكان إقامة الشاذين سياسياً وأخلاقياً، أبناء الطوائفيات التي أقامت عروشها في مقامات السلطة وأقبيتها. لا دولة في لبنان. هي ملطش سياسي. ولا دستور. الدستور ليس حبراً على ورق. إنه كذلك هنا. لم يجد الدستور من ينقذه أو يحرسه. حرام، يكاد يمحي أو يذوب أو يصاب بالرمد والعمى. إياكم وترداد دولة القانون. حذار. هذا خطأ جسيم. نحن مكان لملتقى عصابات متنافسة في الإرتكاب.

إسمحوا لي، بأن أهين مجموعات لبنانية، قررت أن تسير على ركبتيها وتزحف على جباهها. تباً. نصف شعبنا بلا جبهات عالية. إنهم يشبهون أنصاف نعل الاحذية. هل هذه إهانات؟ طبعا لا. هذا ترسيم لواقع قائم

علينا تنقية لغتنا من الديموقراطية. رجاء إستعيدوا هذه القيمة العليا. هذا فوق طاقة لبنان. أقنعوا أنفسهم بفتوى فاسدة وبلقاء وعاهرة: الديموقراطية التوافقية. وما لنا، هو لنا، وما لكم هو لنا ولكم.. إحذروا التغيير. هذا من تاسع المستحيلات. لبنان تتغير فيه القشور. اللب العفن هو الذي يبعث رسله إلى البرلمان. أما لفظة المؤسسات فلا تقربوها. سوق ماريكا أنقى منه وأكثر إفادة وإلتذاذاً. المؤسسات هي عقر دار الآفات والإرتكابات والجرائم.. أما عن الحكم فلا تسأل. رئاسة الجمهورية كاريكاتور سيء الخطوط. كل رئيس “موديلو شكل”. الرئاسة مصابة بالرئيس والرؤساء مصابون بالرئاسة. “فالصو”. الخواء ذو ضجيج كلامي. مطحنة بلا طحين. لا تتوقعوا حكومة أو حكومات. فقط ركزوا على الأموال والصفقات والسرقة المفضوحة. هؤلاء، عباقرة لبنان.

هل هذا ما كنت أريد قوله؟ طبعاً لا. لكن الحالة اللبنانية جذابة. لكنني سأتوقف عند هذا الحد. لن آتي على معاناة اللبنانيين. إنما إسمحوا لي، بأن أهين مجموعات لبنانية، قررت أن تسير على ركبتيها وتزحف على جباهها. تباً. نصف شعبنا بلا جبهات عالية. إنهم يشبهون أنصاف نعل الاحذية. هل هذه إهانات؟ طبعا لا. هذا ترسيم لواقع قائم.

فلنقفل الكلام على ما تبقى. ولندخل في صلب الموضوع. ولو متأخراً كثيراً. الموضوع هو تفجير إو انفجار المرفأ، والعس القضائي، والنفاق السياسي، والتوظيف الطائفي، والموضوع، هو الهروب الكبير من الفضيحة الكبرى والجريمة العظمى.

ماذا أريد أن اقول لهؤلاء؟ لا شيء عندي أقدمه للسادة القضاة، للأهالي المظلومين، للشهداء الأحياء، للأحياء شهادةً ونبلاً. عندي حكاية أرويها، تعود إلى الأزمنة الإغريقية. يا إلهي كم كانوا بشراً؟ كم كانوا عدلاً؟ كم كانوا عقوبة؟ كم كانوا جرأة. كم كانوا يرون السكان بشراً وأحراراً.. نحن لسنا كذلك، إن حكامنا الحقيرين جداً، ينظرون إلى أبريائنا نظرة احتقار.. ملاحظة، مسموح أن تتوقف عن القراءة وتتلو شتائمك بصوت مرتفع، ومراراً. خذ نفساً عميقاً وارفع صوتك يا أخي.

لندخل أخيراً في صلب الموضوع.

الإرتكاب في لبنان خاضع لعفو سري دائم. مئات آلاف القتلى في الحرب اللبنانية تمت خيانتهم. عفو رسمي مبرم عن كل القتلة والمجرمين، مع جائزة تنصيبهم وزراء ونواباً وزعماء. لبنان مدرسة في العفو عن القتلة. مئات الآلاف هجروا ولم يعودوا. مبروك. لبنان يحتفل بالمصالحات التي تتم من فوق. انظروا إليهم، كأنهم شركاء في الفضيلة والحكمة. عيب. إنهم ملوثون. الدماء لا تمحى من الذاكرة.

انه العفو. لبنان يعفو عن المرتكبين. ماذا عن تفجير إو إنفجار الرابع من آب/ أغسطس. القضاء ذو سمعة سيئة. لم يعاقب مرتكباً. لا يقوى إلا على الغلابى. لا نصدق أن العدالة اللبنانية ستستيقظ اليوم أو غداً، ونقبض على القتلة، بسبب الإهمال أو بأسباب جليلة. لبنان فريد عصور الأرض جميعاً.

إقرأ على موقع 180  اليسار الديموقراطي الأميركي بالمرصاد لـ"القبة الحديدية"!

حدث ذات حقبة إغريقية أن مارست السلطة سياسة قضائية مثالية. لم يتورع القضاة من محاكمة المنتصرين الأبطال في المعركة، لأنهم أهملوا واجب إنقاذ رفاقهم في الحرب.. نعثر في كتابات زينوفون على ما يلي، بتاريخ 406 قبل الميلاد.

أولا: انخرط المواطنون الإغريق في صنع القرار الإتهامي وصياغة العقوبات.

ثانياً: السبب في إنزال العقوبة، هو إنتصار بحري أثيني شهير أفضى إلى موت عدد كبير من بحارتهم، في معركة منتصرة.

ثالثاً: إتهم الجنرالات المنتصرون والمسؤولون عن الحملة بترك رجال في قوارب محطمة عرضة للغرق.

إلى قضائنا اللبناني سؤال بسيط: هل أنت قضاء عن جد. إن كنت، فدلنا عليك. لم نجدك بعد. منذ قرن ولم نلمس أي حراك. أنت أيها القضاء، قوي على الضعفاء البائسين، وغفور رحيم للمرتكبين. لكم آذان تسمع حفيف النمل، ولا تصغون إلى أصوات الذين حرموا أبناءهم في إنفجار بيروت..

هناك، في إغريقيا وطبعاً ليس في لبنان، أقدم الشعب على خلع الجنرالات من مناصبهم، باستثناء كونون. خاف إثنان من الجنرالات العقوبة. فهربا ولم يعودا إلى أثينا. وهما جنرالان منتصران. الجنرالات الستة الآخرون أخضعوا للمحاكمة. أدلى الجنرالات بحججهم. فهم حاولوا إنقاذ الآخرين، لكن الإعصار حرمهم هذا الإنجاز. هم حاولوا والعاصفة العاتية صدت جهودهم. هم غير مسؤولين عن موتهم. لم يقتنع القائد تيموكراتيس وإقترح نقل الجنرالات إلى السجن، ثم عرضهم على الجمعية العامة، فوافقت الجمعية على الإعتقالات. وانعقدت المحكمة للإستماع. يريد الشعب تفسيراً لعدم قيامهم بإنقاذ الرجال الذين تحطمت سفنهم. دافع كل جنرال عن نفسه. قالوا إنهم أوكلوا إنقاذ السفن المحطمة إلى بعض القباطنة، وهم جنرالات خدموا في ما مضى.. الإخفاق في عملية الإنقاذ ليس من مسؤوليتهم بل من مسؤولية أولئك الذين كلفوا بالمهمة.. ثم أردف الجنرالات بدليل براءة:”إننا نزعم أن عنف الإعصار هو الذي جعل الإنقاذ مستحيلاً”. وقدموا شهوداً ليؤكدوا على عنف الإعصار.

عدد كبير من المواطنين هبوا واقفين عارضين إقالتهم. إلا أن المجلس إقترح أن يصار إلى الإتفاق أولاً، على نوع المحاكمة التي تنظر في القضية.

من هم المتهمون؟ أسماؤهم تدل على مكانتهم: بريكليس (إبن بريكليس الشهير)، ديوميدون، لبسباس، اريسوكراتيس، تراسيليوس وايراسينيدس. وهؤلاء ليسوا فقط قادة، بل عمالقة السياسة والقتال. وفي مراتب مرموقة. ومع ذلك، الحق يعلو ولا يُعلى عليه. سيخضعون للمحاكمة. تلاقى آباء القتلى والمفقودين وأسرهم، وإقترحوا أن يحضر الرجال، أقارب القتلى ومن حقهم الإستماع وإبداء الرأي. الشعب مصدر السلطات. هاجموا الجنرالات وإنقسمت الآراء. فاقترح كالكسينوس اللجوء إلى عملية إقتراع. كل ما يتعين على الأثينيين فعله، لا يصدر كونه دعوة إلى الإقتراع عبر تخصيص جرتين (صندوقين) لكل دائرة، وتعيين مباشر يدعو أولئك الذين يرون الجنرالات مذنبين، لأنهم أخفقوا في إنقاذ زملائهم القادة الذين حققوا الإنتصار، إلى وضع أصواتهم في الجرة، والذين يرون العكس إلى وضع أصواتهم في الجرة الثانية، إذا ما تقرر أنهم مذنبون يجب إعدامهم وتسليم جثثهم إلى مجلس منتخب بالقرعة.

تناوب الجنرالات والشهود. منهم من إتهم ومنهم من دافع، ووضع المسؤولية على عنف الأمواج العاتية. وقد وقف للدفاع عن الجنرالات خطيب مشهور (يوديبتوليموس) وألقى خطابا مقنعاً، ولكن..

دافع الجنرالات عن أنفسهم في محاكمة مستقلة. إقترح أحد الحكماء إعطاء فرصة للدفاع وفرصة للإتهام، بمحاكمة مستقلة منفصلة لكل واحد منهم. الذين اخطأوا سيعاقبون أشد العقاب، والأبرياء سيتم إطلاق سراحهم، بقرار من الشعب. قال الحكيم: “يا رجال أثينا، إن لم يخطئوا لن يعدموا. ستبقون حريصين على مراعاة إملاءات الورع وشروط قسمكم حين توفرون لهم محاكمة قانونية”.

هناك من حاول تضليل الشعب. عوقبوا عقاباً شديداً. جرى التصويت على الجنرالات الثمانية الذين شاركوا في المعركة. كان التصويت لغير صالحهم. والستة الموجودون في أثينا أعدموا.. ورفعت دعوى ضد أربعة آخرين وتم إحتجازهم، ثم هربوا قبل أن يحاكموا. في ما بعد، عاد كاليكسينوس إلى المدينة، ولكن الجميع نبذوه، وقد مات جوعاً، لأنه حاول أن ينحاز إلى فريق ضد آخر.

هذه هي أثينا. الشعب مصدر السلطات. الشعب مصدر القرارات. الشعب يوافق على الأحكام أو لا يوافق. يقترع. القضاء يصفي وينقب ويأخذ القرارات علناً. إن أخطأ القضاء عوقب بالنفي.

ماذا عندنا؟

إلى قضائنا اللبناني سؤال بسيط: هل أنت قضاء عن جد. إن كنت، فدلنا عليك. لم نجدك بعد. منذ قرن ولم نلمس أي حراك. أنت أيها القضاء، قوي على الضعفاء البائسين، وغفور رحيم للمرتكبين. لكم آذان تسمع حفيف النمل، ولا تصغون إلى أصوات الذين حرموا أبناءهم في إنفجار بيروت..

ماذا بعد؟

 لا سؤال إلا لواحد أحد:

أيها اليأس، هل من أمل؟

دمعت عيناه ومضى.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  جبران تويني مؤسس "النهار".. العروبة الصافية