كساد 1929 أوصلنا إلى الحرب الثانية.. كورونا إلى أين؟

Avatar18005/04/2020
فالنتين يوريفيتش كاتاسونوف هو أستاذ في الإقتصاد الدولي، خريج معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية بوزارة الخارجية في الاتحاد السوفياتي السابق، مؤلف العديد من الكتب التي تتناول النظام العالمي والرأسمالية والعبودية والدين والمصارف. مؤخرا كانت له إطلالة من خلال مقالة بعنوان "فيروس كورونا بدلا من الحرب العالمية. تأملات حول الدورة الاقتصادية – الفيروسية"، يقارن فيه بين مرحلة الكساد الإقتصادي (1929) وصولا إلى الحرب العالمية الثانية وبين المرحلة التي نعيشها اليوم ومقدماتها التي بدأت في العام 2008.

“قبل تسعين عاما، أي في تشرين الأول/اكتوبر 1929 على وجه التحديد، نشبت أزمةٌ اقتصادية عالمية كانت بدايتَها موجةٌ من الذعر في بورصة نيويورك. وما إن أشرف ذلك العام على نهايته، حتى تجاوزت الأزمة حدود بورصة نيويورك، فأدت إلى إفلاس عدد كبير من المنشآت الصغيرة والكبيرة، وتوقفها عن العمل، وتسريحِ عشرات ـ ومئات – الآلاف من العاملين فيها. وبحلول العام 1930 كانت الأزمة قد عمّت أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، وتحولت إلى أزمة عالمية.

استمر تدهور الإنتاج في كل مكان حتى عام 1933. وهبط الدخل القومي في أميركا من 87.8 مليار دولار في عام 1929 إلى 40.2 مليار دولار في عام 1933. وانهار ما يربو على 135 ألفا من الشركات التجارية والصناعية والمالية.

وخلال ثلاث سنوات من الأزمة، أفلس نصف المصارف الأميركية، تقريبا. بعد ذلك، توقف التدهور، وبدأت مرحلة الركود، فبذلت سلطات العديد من البلدان جهودا جبارة لإنتشال الاقتصاد من حالة الانكماش التي وصل إليها. وفي هذا المجال، اشتهرت على نطاق واسع  أفكار الاقتصادي الإنكليزي، جون كينز ( م)  الذي دعا إلى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية بقوة. عزا كينز سبب الأزمة إلى الاختلال الناجم عن ارتفاع مستوى انتاج السلع والخدمات من جهة، وانخفاض مستوى الطلب القادر على الدفع، من جهة أخرى، أي ما سبق أن تحدث عنه كارل ماركس، في مؤلفه “رأس المال”، منذ ستينيات القرن التاسع عشر.

أوضح كارل ماركس أن تناقض الرأسمالية هذا، مستعصٍ، ولا يمكن حله. غير أن جون كينز لم ير الرأي نفسه، بل اقترح تعويض المستوى المنخفض لطلب السكان القادرين على الدفع، بالطلب من طرف الدولة. واقترح اللجوء إلى ميزانية الدولة لشراء السلع وتوزيع الطلبيات. وفي هذا الصدد، كانت طلبيات الدولة ونفقاتها العسكرية صالحة تماما – بحسب كينز- للتعويض عن نقص الطلب القادر على الدفع. ومن أجل زيادة نفقات الدولة، طرح الاقتصادي الإنكليزي القبول بالعجز في ميزانيتها، على أن يغطى هذ العجز بواسطة الاقتراض الحكومي وزيادة الدين السيادي، كما ورد في كتابه “النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود” الصادر عام  1938 .

كانت سلطات الولايات المتحدة الأميركية الجهةَ الأكثر مثابرة في تبني أفكار كينز، وذلك بعد أن تبوأ فرانكلين روزفلت منصب الرئاسة الأميركية في العام 1933. أعلن روزفلت عن “الصفقة الجديدة” (New Deal)، التي خففت من وطأة الوضع الاجتماعي – الاقتصادي في الولايات المتحدة، إذ مولت الدولة برنامج الاشغال العامة، مثل شق الطرق، وأعمال الاستصلاح، وحفر الأقنية، والتشجير، أي ما لم يكن يتطلب كفاءات خاصة. لقد وفَّرَ هذا البرنامج العمل ـ وأيضاً الحد الأدنى من موارد العيش ـ لملايين الأميركيين البسطاء، ولكنه لم ينجح في انتشال أميركا من الركود. ولم يتسن التغلب نهائيا على الفقر المدقع.

وبحسب تقديرات مختلفة، مات في سنوات الأزمة والكساد الاقتصادي من 5 إلى 6 ملايين شخص في الولايات المتحدة الأميركية وحدها. وفي أوروبا أيضا استمر الركود وما رافقه من عوز وحرمان.

إبان تلك الأزمة، كان الاتحاد السوفياتي وألمانيا الاستثناء الوحيد، إذ شهد الاتحاد السوفياتي في ثلاثينيات القرن الماضي تطورا ديناميا، من خلال التصنيع؛ وقدم مثالا للعالم كله على أفضليات النموذج الاشتراكي في الاقتصاد. أما ألمانيا، التي عانت في بداية الأمر من الركود، ككل أوروبا، فقد أخذت هي الأخرى تتطور بسرعة بعد وصول أدولف هتلر إلى السلطة عام 1933، وشهدت ما عرف بـ”المعجزة الاقتصادية”. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن المصرفيين الأميركيين، والإنكليز جزئيا، كانوا آنذاك يغذون ألمانيا بالأموال.

طرائق كينز، إذن، لم تصنع المعجزات. كان ذلك فظيعا بالنسبة للغرب، خاصة بالمقارنة مع النمو الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي، خشية أن تؤدي تلك الفروق الواضحة إلى انتصار الاشتراكية النهائي في العالم.

عشية تلك الحرب (الثانية) كانت الولايات المتحدة أكبر مَدين دولي في العالم، وبنهاية تلك الحرب صارت المقرض الأكبر، وتحول الدولار إلى عملة عالمية، إلى جانب الجنيه الاسترليني

آنذاك، كانت الأوساط الحاكمة في الغرب تميل أكثر فأكثر إلى فكرة أن الحرب قد تكون المخرج الوحيد من الركود الاقتصادي المزمن، ولكن ليس أية حرب، بل حربا كبيرة على صعيد العالم بأسره. لقد أدركت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى أن النزاعات العالمية المسلحة يمكن أن تغير الوضع الاقتصادي جذريا. وعشية تلك الحرب (الثانية) كانت الولايات المتحدة أكبر مَدين دولي في العالم، وبنهاية تلك الحرب صارت المقرض الأكبر، وتحول الدولار إلى عملة عالمية، إلى جانب الجنيه الاسترليني.

شرعت كل من الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان، وغيرها من أبرز البلدان الرأسمالية، بالاستعداد للحرب العالمية الثانية. كان ثمة اعتقاد بأن الحرب ستشطب كل الديون، وستختفي معها الاختلالات في الاقتصاد، وسيبدأ تطور عاصف مع تصفير ميزانيات الاقتصاد الوطني للبلدان المعنية. كانت البلدان المَدينة تحلم بالانتصار على دائنيها، أو حتى بتدميرهم. أما البلدان الدائنة، فكانت تحلم بالاستحواذ على أسواق المَدينين وثرواتهم الطبيعية، والحصول على تعويضات من المهزومين تقدر بالمليارات. جمدت البلدان المتحاربة قواعد اقتصاد السوق المعتادة، فصارت الدولة تعمل بيد من حديد على تعديل الاختلالات المتراكمة (المتطلبات والالتزامات) بحجة ظروف الحرب، فالحرب – إذن –  أقوى حجة للدولة لفرض نظام حديدي في الاقتصاد الرأسمالي عبر الأساليب الإدارية – الإملائية. وهذا ما ليس بمقدور أي نظرية كينزية. وهكذا، صارت الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1939، وسيلة لخروج الرأسمالية العالمية من الركود المديد، وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر.

إقرأ على موقع 180  عبدالناصر في مواجهة "الإمبراطورية"!

لننتقل إلى القرن الحادي والعشرين. عاش العالم أزمة مالية واقتصادية شاملة ما بين العامين 2007 و2009. هذه الأزمة لم تؤد إلى إزالة جميع الاختلالات المتراكمة في الاقتصاد. فبعد أن انتهت الفترة العصيبة الأولى في عام 2009 ، حل الركود الذي كان من المفترض أن يليه انتعاش. وها نحن في العام 2020، ومع ذلك لا انتعاش حتى الآن.

لنقارن: في ثلاثينات القرن الماضي، استمر الركود من العامر1933 حتى العام 1939. كان ذلك تعفنا مزمنا مضنيا، قطعته الحرب الثانية. أما الركود بعد أزمة 2007 – 2009  فمتواصل للعام الحادي عشر على التوالي. ونحن هنا مرة أخرى أمام تعفن مضن.. صحيح أن منافس الغرب، الاتحاد السوفياتي، لم يعد له وجود، ولكن برزت الصين بوتائر نموها الاقتصادي غير المسبوق. ودينامية الصين الاقتصادية في العقود الثلاثة الأخيرة، يمكن تسميتها من دون تردد، بـ”طور النهوض”. لم يعرف أي بلد من بلدان الغرب، في تاريخ الرأسمالية، مثل هذه الأطوار الطويلة. فبات على الغرب أن يفعل شيئاً ما. لا شك أن فكرة إشعال نار حرب كبيرة مرة أخرى قد خطرت، أكثر من مرة، في بال ممثلي الأوساط الغربية الحاكمة. هذه الفكرة مغرية جدا، ولكنها، في الوقت نفسه، تنطوي على خطر الهلاك. فالحربان الأولى والثانية انقضيتا دون استعمال السلاح النووي، أما الحرب العالمية الثالثة – إذا ما نشبت – فستؤدي حتما إلى استعمال أسلحة الدمار الشامل. ولكن بدلا عن حرب ساخنة، يمكن أن تشنَّ حربٌ باردة، يفضل البعض تسميتها اليوم، بـ”الحرب الهجينة”. حرب تُستعمل فيها الوسائط المالية، التجارية – الاقتصادية، النفسية، الإعلامية، الأسلحة السيبرانية، والأساليب الخاصة عند أجهزة الاستخبارات. ولكن ذلك كله لا يعطي السلطات صلاحيات تخولها الانتقال من أساليب السوق في إدارة الاقتصاد، إلى الأساليب الإدارية – الإملائية. وهذا يعني أن التغلب على الاختلالات الاقتصادية لن يُدرك، هذه المرة أيضا.

سنشهد خلال فترة “الحرب الفيروسية” حالات إفلاس على نطاق واسع. ستلغى ديون ومطالب بتريليونات الدولارات، وستنهار “رسملة” الشركات. بعد ذلك، سيستعيد الاقتصاد “أنفاسه” من جديد

وهنا ظهر فيروس كورونا. بدأت السلطات الغربية بتضخيم حالة الذعر جراء ذلك، وخلق جو من الرعب في المجتمع. وباستغلالها حالة الرعب، تمسك السلطات بصلاحيات غير محدودة وتبدأ بالتدخل في الاقتصاد. هذه الأساليب تناقض مبادئ الرأسمالية “الحضارية” (كما يصفونها). ولكن التسيير الإداري – الإملائي لن يدوم إلى الأبد. فما أن تُصحح اختلالاتُ الاقتصاد حتى تعود ثانية أساليب السوق في الإدارة والتسيير، وتبعث من جديد تلك الرأسمالية المسماة بـ”الحضارية”، ويبدأ الانتعاش الذي يتحول إلى نمو اقتصادي.

يفترض بعض الخبراء أن نظام “حالة الطوارئ الاقتصادية” سيمتد حتى نهاية العام 2020، وعلى أقصى حد، حتى أواسط السنة القادمة (2021). وسنشهد خلال فترة “الحرب الفيروسية” حالات إفلاس على نطاق واسع. ستلغى ديون ومطالب بتريليونات الدولارات، وستنهار “رسملة” الشركات. بعد ذلك، سيستعيد الاقتصاد “أنفاسه” من جديد.

أشير إلى أن “الحرب الفيروسية” لن تنتهي حالما تسجل الإحصاءات الطبية انخفاضا ملحوظا في عدد حالات العدوى والوفاة بفيروس كورونا، بل ستنتهي عندما تصل أسواق الأسهم إلى الحضيض. وفي هذه اللحظة سيشتري “أصحاب الأموال” كل الأصول التي فقدت قيمتها.. وسيبلغون مستوى جديدا من السيطرة على الاقتصاد العالمي. وعندما تنتهي جولة النمو الاقتصادي الجديدة، سيدخل الاقتصاد مرحلة انحسار، وعندئذٍ، ستخترع السلطات الحاكمة مرة أخرى (فيروسا) ما. ومرة أخرى ستتكرر تمثيلية “مكافحة الجائحة”. تلكم هي الترسيمة الجديدة، نوعيا، للدورة الاقتصادية التي لم يبق لنا إلا أن نسميها “الدورة الاقتصادية – الفيروسية”.

“أصحاب الأموال”، الذين دبروا الجائحة الحالية، لن يكونوا في حاجة إلى تطور اقتصادي دوري بلا نهاية. ما يعنيهم هو الهدف النهائي، أي فرض سلطتهم على العالم؛ فهم يحلمون بإقامة نظام عالمي جديد لا وجود فيه لدول قومية.. نظام تترسخ في ظله حكومة عالمية. وعندئذ لن يكون لهذا النظام ما يجمعه بالرأسمالية الكلاسيكية، بل سيكون من الصواب تسميته بنظام العبودية الجديد، أو الاقطاعية الجديدة.

لقد عرَّت الحرب الفيروسية منذ بدايتها، مخططات النخبة العالمية، وسلطت الضوء على عملائها، وكشفت كثيرا من أسرار نشاطها التخريبي. سترغم هذه الجائحة ملايين البشر في العالم على التفكير بما لم يفكروا به سابقا، عندما كانوا يظنون أن مشروع النظام العالمي الجديد مجرد خيال من خيالات أنصار نظرية المؤامرة. والآن، ستتجلى النتيجة (وها هي تتجلى فعلا) في استعداد ملايين البشر حول العالم للنضال ضد “أصحاب الأموال”، أما الكفاح ضد فيروس كورونا، فليترك للأطباء وغيرهم من أهل الخبرة وذوي الاختصاص”.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الأخلاقيات الطبية.. وتحدي كورونا